مقالات وآراء

قراءة في زيارة كامل إدريس لمصر

إبراهيم برسي
في السابع من أغسطس 2025، ظهر كامل الطيب إدريس، الذي لم يكمل ثلاثة أشهر في منصبه، على بساط أحمر في قصر الاتحادية بالقاهرة، مبتسمًا للسيسي في أول رحلة خارجية منذ أن نصّبه البرهان بمرسوم من بورتسودان.
الزيارة لم تكن بروتوكولًا عابرًا، وإنما مشهدًا أعدّته مصالح متقاطعة. في الخرطوم – أو ما بقي منها – كان الجيش وحلفاؤه من الكيزان يبحثون عن أي ختم خارجي يلمّع حكومة الأمل، خاصة بعد أن وصف اللورد جيرمي بورفيس كامل إدريس في مجلس اللوردات البريطاني بأنه “دمية” لا يمثل إلا من صنعوه.
وفي القاهرة، كان السيسي يعرف أن استقبال إدريس في أولى رحلاته هو فرصة لتثبيت أن الخرطوم ما زالت ضمن المدار المصري، ومنح واجهة مدنية لسلطة عسكرية شهادة حياة سياسية.وعلى مستوى الترتيب، بدت الزيارة دفعًا من معسكر الجيش وحلفائه الإسلاميين يتقاطع مع دعوة مصرية راغبة في تثبيت المدار السياسي للخرطوم داخل الحسابات المصرية؛ شرعيةٌ تُصنع من تلاقي الإرادتين أكثر من كونها نتاج توافق سوداني داخلي.
تاريخ العلاقة بين البلدين يشرح المشهد. منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021 على عبد الله حمدوك، فضّلت القاهرة سلطة عسكرية مأمونة لا تتقارب مع إثيوبيا في ملف سد النهضة، ولا تفتح الباب لقوى مدنية قد تخلط الحسابات.
وبعد اندلاع الحرب في أبريل 2023، بين الجيش والدعم السريع، ظلّت مصر تستقبل مئات الآلاف من السودانيين عبر الحدود، بينما كانت تسحب طائراتها وجنودها من قاعدة مروي بعد أن سقطت بيد حميدتي. بالنسبة للسيسي، استقرار السودان – أو على الأقل بقاؤه في يد حليف مضمون – هو مسألة أمن قومي مصري، من مياه النيل إلى حدود وادي حلفا والعيونات.
في هذا الإطار، جاءت الرسالة مزدوجة: من الخرطوم للعالم بأن حكومة إدريس تحظى بدعم أكبر جارة، ومن القاهرة للداخل السوداني بأنها قادرة على صناعة الشرعية.
حتى تفاصيل المحادثات عن إعادة إعمارٍ تتراوح تقديراتها بين مئات المليارات وتلامس نحو تريليون دولار (نحو 300 مليار للعاصمة وحدها وقرابة 700 لبقية الولايات)، وإطلاق سراح الموقوفين السودانيين، والتعاون في التعليم والصحة والكهرباء، كانت خليطًا من الوعود العملية والرمزية، وكأن المطلوب أن يعود إدريس إلى بورتسودان وهو يحمل قائمة إنجازات جاهزة لجمهور لم يختاره أصلًا.
لكن خلف الصور، يظل السؤال: هل يملك الرجل قراره؟ المؤشرات تقول إن هامش حركته لا يتجاوز الدور المرسوم.
لم يخرج عن خطوط البرهان ومجلسه، لم يلمّح إلى مساءلة العسكر عن الحرب، ولم يقترب من الملفات السيادية التي تحددها المؤسسة العسكرية.
حتى تشكيل حكومته في يوليو تأخر وسط ما وصفه بـ“تغلغل الطابور الخامس” في أجهزة الدولة، وهي عبارة دبلوماسية يعرف السودانيون معناها: أن الدولة العميقة لا تزال تتحكم في الإيقاع، وأن أي رئيس وزراء مدني مجرد مدير أعمال لعقد يملكه الجيش.هذا النمط ليس جديدًا على السياسة السودانية.
من واجهات عبود في الستينيات، إلى حكومات نميري بعد 1969، كانت الوجوه المدنية تتبدل بينما القرار يبقى في يد البندقية.
الجديد في الأمر أن المسرح هذه المرة صار إقليميَّ الإخراج، وأن القاهرة تستخدم خبرتها في صناعة مشاهد الشرعية لتمنح إدريس ما يكفي من الألق ليبدو فاعلًا، دون أن تسلّمه مفاتيح المسرح.
فالسيسي لم يقابله لأنه آمن بقدرة المدنيين على حكم السودان، بل لأنه يراه الرجل المناسب لحماية المصالح المصرية في زمن الاضطراب.
وفي الداخل، روّج إدريس لجدول زمني سريع: العودة إلى الخرطوم قبل نهاية أكتوبر، وإعادة فتح مطار الخرطوم خلال شهرين بعد تأهيله، وخطة لتطبيع الخدمات، وهي وعود تبدو طموحة قياسًا بميزان القوة على الأرض.
خارجيًا، لم يكن الاعتراف بحكومته كاملًا. بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اكتفت بالدعوة لوقف القتال والعودة إلى عملية سياسية شاملة، بينما وصف بورفيس حكومته أمام مجلس اللوردات بأنها واجهة مصنوعة. كما سجّل نواب بريطانيون – من بينهم اللورد بورفيس واللورد كولينز – اعتراضهم على منح اعتراف متسرّع لحكومة جاءت بقرار أحادي خلال الحرب، مع التشديد على أولوية وقف القتال ومسار سياسي شامل. حتى الاتحاد الأفريقي، الذي رحّب رسميًا، عاد وأكد أن الحكم المدني الكامل لن يأتي إلا عبر انتخابات حرة.
كل هذا يعني أن الشرعية التي اكتسبها في قصر الاتحادية ليست إلا جزءًا من صورة أكبر، نصفها الآخر غائب.أما في الداخل، فالحرب مستمرة، الدعم السريع والجيش يتقاسمان الخراب، والنازحون يعودون إلى مدن بلا ماء ولا كهرباء.
في هذا الواقع، بدت صور القاهرة ترفًا سياسيًا، أو استراحة قصيرة في معركة طويلة. وإدريس، العارف بأنه لم يصل إلى المنصب بفضل الشارع، يدرك أن شرعيته ستبقى مرهونة برعاية من جاءوا به – في بورتسودان أو القاهرة – وأن أي محاولة للاستقلال بالقرار قد تعيده سريعًا إلى مقاعد المتفرجين.
وهكذا، لم تغيّر الزيارة ميزان القوة في السودان، لكنها وضعت لمسة أخيرة على لوحة معلومة الألوان: حكومة مدنية بالاسم، عسكرية الجوهر، وشرعية تستمد بقاءها من اعتراف الخارج لا من إرادة الداخل.
وربما يمكن القول بلسان سوداني: القاهرة أدت الواجب، وإدريس رجع شايل معاه صورة مع الرئيس السيسي…

‫3 تعليقات

  1. زمن عجيب
    جعل من هذا العوقة مفردة يتداولها الناس وكمان يحللوا تحركاتها
    مزور وكذاب صعد علي أكتاف أخوه وهو الآن مشغول فقط بصبغة شعره والتجوال وسط ستات الشاي

  2. ١/- اقتباس:
    السيسي لم يقابله لأنه آمن بقدرة المدنيين على حكم السودان، بل لأنه يراه الرجل المناسب لحماية المصالح المصرية في زمن الاضطراب.
    ٢/-
    والله يا حبيب، توقفت طويلا عند هذه المعلومة التي وردت اعلاه في المقال ولم اكن اعرفها من قبل، واستغربت ان الرئيس السيسي الذي قابل “حميدتي” من قبل وجلس معه وتحادثا، رفض ان يلتقي بكامل!!، بالطبع عندما سافر كامل للقاهرة حمل معه رسالة خطية من البرهان للسيسي، وهذا معناه ان الرسالة لم يستلمها البرهان، وبالتالي استلمها رئيس الوزراء المصري د/مصطفى كمال مدبولي والقاهات في سلة المهملات!!
    ٣/-
    الشيء بالشيء يذكر:
    السيسي لحميدتي: مصر تدعم اختيارات الشعب السوداني
    المصدر- “العربية”- -29 يوليو ,2019-
    بحث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الاثنين، والفريق أول حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي السوداني، تطورات الموقف الحالي في السودان، كما تناول بعض جوانب العلاقات الثنائية، وفي مقدمتها مشروعات الربط الكهربائي بين البلدين. وصرح بسام راضي، المتحدث باسم رئاسة مصر، أن السيسي أكد على الموقف الاستراتيجي الثابت لمصر تجاه دعم استقرار وأمن السودان وشعبه الشقيق، وأكد أن مصر تدعم اختيارات الشعب السوداني للحفاظ على الدولة السودانية وترحب باستضافة أي حوار لكافة أطياف الشعب السوداني.
    خيارات الشعب السوداني:
    وأكد الرئيس المصري متابعته الحثيثة لكافة التطورات الراهنة على الساحة السودانية، مؤكدًا مساندة مصر لإرادة وخيارات الشعب السوداني الشقيق في صياغة مستقبل بلاده، والحفاظ على مؤسسات الدولة، ومعربا عن استعداد مصر لتقديم كل سبل الدعم للأشقاء في السودان لتجاوز هذه المرحلة بما يتوافق مع تطلعات الشعب السوداني بعيدًا عن التدخلات الخارجية. واستعرض نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي تطورات الأوضاع في السودان والجهود المبذولة للتعامل مع المستجدات في هذا الصدد، بما فيها التوقيع مؤخرًا على الاتفاق السياسي الخاص بترتيبات المرحلة الانتقالية مع تحالف “الحرية والتغيير”، معربًا في هذا الخصوص عن تقدير بلاده لدور مصر الداعم للسودان، خاصة من خلال رئاستها الحالية للاتحاد الإفريقي، والذي يساهم بشكل فعال في دفع الجهود القائمة لمؤازرة السودان على النجاح في تحقيق استحقاق المرحلة الراهنة.
    -انتهي-
    ٤/-
    السيسي يستقبل حميدتي ويبحثان الوضع
    فى السودان وتطورات ملف سد النهضة:
    https://www.youtube.com/watch?v=K7zEGUsh6Qo

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..