بعد غبار المعركة … هل ينتصر السودان أم ينتصر الاستبداد؟

مهدي داود الخليفة
منذ اندلاع الحرب في السودان في منتصف أبريل 2023، حاولت بعض الأصوات الرسمية تصويرها كمعركة فاصلة بين “جيش وطني محترف ” و”ميليشيا متمردة خارجة عن القانون ” إلا أن الواقع يكشف بوضوح أنها صراع على السلطة بين جيش مُسَيَّس تحكمه المصالح الضيقة، وميليشيا أنشأها نظام البشير لتكون أداة بطش خارج الأطر الرسمية.
التجربة منذ ثورة ديسمبر المجيدة عام 2018 أظهرت أن قيادة الجيش لم تتعامل مع التحول الديمقراطي كخيار استراتيجي ، بل مجرد مناورة تكتيكية لامتصاص الغضب الشعبي وضمان استمرار نفوذها الاقتصادي والسياسي.
التاريخ يعيد نفسه فمنذ انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958، مرورًا بجعفر نميري عام 1969، وانتهاءً بعمر البشير في 1989، ظل الجيش للاسف و بمعاونة بعض القوي السياسية هو الأداة الأساسية لإجهاض اي مسار ديمقراطي في السودان.
وبالمقابل، فإن انتصار الدعم السريع – إن حدث – لن يقود هو الآخر إلى ديمقراطية، بل سيفتح الباب أمام نموذج حكم مليشياوي فوضوي أشد قسوة، وربما يكرّس تقسيم البلاد، ويحوّل السودان إلى ساحة صراع مفتوح بين أمراء الحرب.
بعد الثورة: عقب سقوط البشير، بدا وكأن الجيش سيقبل بالشراكة مع المدنيين، لكن انقلاب 25 أكتوبر 2021 بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان اكد ان المؤسسة العسكرية متمسكة بالسلطة و انها مستعدة للانقلاب علي اي اتفاق إذا شعرت ان مصالحها مهددة.
الحرب الحالية تشكل ساحة مزدوجة للاستهداف فمن جهة هنالك المواجهة المعلنة بين الجيش ضد قوات الدعم السريع تلك القوات التي أنشأها نظام البشير عام 2013 بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) كذراع أمنية خارج الاطر الدستورية..
اما من الجهة الاخري فهنالك المواجهة الخفية و التي تسير بالتوازي مع العمليات العسكرية ضد الدعم السريع، و التي تتمثل في الاستهداف المنهجي ضد القوي السياسية والمدنية و تشمل اعتقالات انتقائية واتهامات ملفقة بـ”التعاون مع العدو” .
إعدامات ميدانية وتصفية جسدية. و التضييق على النقابات ومنظمات المجتمع المدني، ودفع العديد من النشطاء للعمل في السر أو الهجرة القسرية هنالك أدلة موثقة تؤكدها منظمة العفو الدولية (أمنيستي) التي كشفت عن “قوائم استهداف” تضم نشطاء وأطباء وعاملين في المجال الإنساني، ووصفت الاعتقالات والاغتيالات بأنها “انتقامية” وتهدف لإسكات المجتمع المدني.
و ايضا قناة الجزيرة: وثّقت اغتيالات واستهداف مباشر لمتطوعين في غرف الطوارئ، حتى أثناء تقديمهم مساعدات عاجلة، مع تسجيل حالات اختفاء قسري.
كذلك منظمة هيومن رايتس ووتش رصدت اعتقالات للمتطوعين وتدمير بنى مدنية، إضافة لاكتشاف قبور جماعية ومراكز احتجاز سرية.
و اكدت منظمة فريدوم هاوس أن الحرب شهدت هجمات متعمدة على منظمات المجتمع المدني والعاملين الحقوقيين من قبل الجيش والدعم السريع على حد سواء.
الخلاصة ان هذه الحرب ليست فقط ضد ميليشيا مسلحة، بل أيضًا عملية إضعاف متعمدة للقوى الديمقراطية القادرة على تشكيل بديل سياسي بعد توقف القتال.
و يظل السيناريو الأخطر إذا حسم الجيش المعركة ضد الدعم السريع دون وجود ميثاق سياسي ملزم للعودة للحكم المدني فإن المعركة القادمة ستكون ضد القوى السياسية والمدنية و ليس ضد الفوضي و المليشيات.
لا سيما ان هنالك الان من المؤشرات المقلقة ما يدل علي هذا السيناريو من ضمنها عسكرة الحياة العامة في مناطق سيطرة الجيش، الظهور العلني لبعض قيادات النظام السابق و عودة نفوذ بقايا النظام السابق (الحركة الإسلامية) داخل المؤسسات الأمنية و ما صاحب ذلك من خطاب تعبوي يربط الوطنية بالولاء للمؤسسة العسكرية ويشيطن القوى المدنية. هذا السيناريو سيعيد إنتاج حكم سلطوي أكثر بطشًا، قائم علي تحالف الجيش و فلول النظام السابق يصاحب ذلك انتقام من القوي المدنية التي قادت الثورة و ويغلق المسار الديمقراطي لسنوات و ربما عقود. حكمٌ عسكري جديد في السودان لن يواجه فقط مقاومة داخلية متنامية، بل سيدفع البلاد نحو عزلة دولية خانقة. هذه العزلة ستترجم إلى عقوبات اقتصادية ومالية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتجميد للمساعدات التنموية والإنسانية، ووقف مشاريع إعادة الإعمار لما دمرته الحرب.
كما سيُحرم السودان من أي دعم دولي لجهود التعافي الاقتصادي، ويواجه قيودًا صارمة على التحويلات المالية للمغتربين، ما سيؤدي إلى مزيد من الانكماش الاقتصادي، ويعمّق اندماج السودان في خانة الدول المعزولة خارج النظام المالي العالمي.
والنتيجة المتوقعة: تفاقم الأزمات المعيشية، وانسداد أي أفق للنمو أو الاستقرار لعقود قادمة. ويظل الميثاق السياسي المشترك هو الطريق الآمن لاستقرار السودان، بعيدًا عن دوامة الانتقام العسكري والتصفية السياسية.
فإذا كان الفريق عبد الفتاح البرهان جادًا في حماية البلاد من الانهيار وضمان انتقالها الديمقراطي، فإن الاختبار الحقيقي للمصداقية يفرض خطوات عاجلة وحاسمة، أهمها:
سحب السلاح فورًا من كتائب القتل والإرهاب مثل كتائب البراء و وقف إطلاق النار بلا شروط مسبقة.
إعلان ميثاق سياسي ملزم مع القوى السياسية والمدنية يتضمن: التزامًا صريحًا بفترة انتقالية مدنية مكتملة. انسحاب الجيش من العمل السياسي فور انتهاء الحرب.
إصلاحات هيكلية تضع المؤسسة العسكرية تحت الرقابة المدنية. تبني شعارات ثورة ديسمبر (حرية، سلام، وعدالة) كمرجعية سياسية ملزمة.
ضمانات دولية وإقليمية لمراقبة تنفيذ الميثاق ومنع أي انتكاسه انتصار الجيش على الدعم السريع دون إصلاحات و ضمانات سياسية سيحوّل لحظة الانتصار إلى نقطة بداية لأشد أشكال الديكتاتورية، ويضع السودان على مسار عزلة دولية خانقة.
ويؤكد التاريخ الحديث أن الحسم العسكري وحده لا يبني دولة مستقرة. ففي جنوب أفريقيا، لم يكن الانتقال من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية ثمرة انتصار عسكري، بل نتيجة ميثاق وطني جمع خصوم الأمس على أرضية سياسية مشتركة.
وفي رواندا، ورغم أن الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة بول كاغامي أنهت الإبادة الجماعية بانتصار عسكري عام 1994، فإن الاستقرار النسبي تحقق لاحقًا عبر إعادة بناء مؤسسات الدولة، وآليات عدالة انتقالية، وبرامج مصالحة مجتمعية شاملة، لا بالقوة المسلحة وحدها.
أما في نيجيريا، فإن الجيش أنهى تمرد بيافرا (1967–1970) بانتصار ساحق، لكن غياب مصالحة سياسية واقتصادية آنذاك ترك جروحًا عرقية وإقليمية عميقة استمرت لعقود، وأعاقت بناء وحدة وطنية حقيقية حتى اليوم هذه التجارب تثبت أن السودان، إذا أراد الخروج من دوامة الحرب، يحتاج إلى تسوية سياسية شاملة تعالج جذور الصراع وتضمن مشاركة جميع القوى المدنية، لا مجرد “نصر” يفرضه طرف واحد ثم يعيد إنتاج الاستبداد.
الخيار أمام الفريق البرهان ورفاقه واضح: إما أن يثبتوا أنهم حماة للوطن و الدستور عبر التزام لا لبس فيه بالمدنية او تؤكد مخاوف السودانيين بان هذه الحرب لم تكن سوي طريق مختصر لعودة الحكم الشمولي.
السودان يقف اليوم على حافة مفترق طرق حاسم: فإما أن يكون النصر العسكري – أيًّا كان الطرف الذي يحققه – جسرًا نحو سلام مستدام وحكم مدني رشيد، أو يتحول إلى بداية دورة جديدة من الاستبداد والفوضى. التاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى، وما يفعله قادة الجيش والقوى السياسية الآن سيظل شاهدًا عليهم أمام الأجيال القادمة، إما كصُنّاع دولة أو كهُدام أمل.