مقالات سياسية

كيف أعاد الإخوان إحياء «داعش» عبر بوابة السودان؟

منعم سليمان

لم يعد الخراب في السودان مشهدًا عابرًا من الحرب، بل تراكمًا كثيفًا لطبقات الدم والبارود، تتعانق فيه أطماع العسكر مع هذيان الأيديولوجيا، وتتشابك فيه رايات الدين مع أدوات الفتك.

وفي ظل هذا العتم الموحش، يأتي تقرير الأمم المتحدة عن نشاط داعش في البلاد كإشارة صارخة إلى أن النيران المشتعلة لم تبلغ بعد ذروتها، ما دام العالم يكتفي بمشاهدة البارود في قبضة الإخوان.

التقرير الصادر عن فريق الدعم التحليلي ورصد الجزاءات في مجلس الأمن الدولي، أشار بوضوح إلى أن تنظيم (داعش) الإرهابي يعمل على تدريب مسلحين من شمال أفريقيا داخل الأراضي السودانية، ضمن خطة لإعادة نشرهم في مناطق مختلفة من الإقليم. قراءة هذا الخبر في سياق الحرب الحالية لا يمكن أن تكون معزولة عن البنية السياسية والأمنية التي صنعت الفراغ، ولا عن القوى التي استثمرت عمدًا في هذا الفراغ منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023.

هنا، لا بد من تسمية الأشياء بأسمائها: الإخوان المسلمون السودانيون، المعروفون شعبيًا بـ”الكيزان”، هم الجذر السام لهذا التلاقي بين الخراب الداخلي والإرهاب العابر للحدود. هؤلاء الذين أشعلوا الحرب لاستعادة السلطة عبر بندقية الجيش الذي يسيطرون على قيادته، هم أنفسهم من فتحوا الأبواب أمام كل راية سوداء ترفرف على أشلاء الدولة.

من يقرأ تاريخ الحركة الإسلامية في السودان يعرف أن تحالفها مع الجهاديين ليس طارئًا، بل هو جزء من هندسة مشروعها منذ تسعينيات القرن الماضي، حين استضافت الخرطوم أسامة بن لادن وكبار منظري التطرف، وحين تحولت البلاد إلى ساحة عبور وتمويل وتدريب للجماعات الإرهابية في الإقليم. واليوم، تُستعاد تلك الوصفة المسمومة، لكن في ظرف أشد قتامة، حيث حولوا حربهم ضد قوات الدعم السريع إلى سوق مفتوح للمرتزقة والعقائد القاتلة.

إن كتيبتهم الجهادية البراء بن مالك – على سبيل المثال لا الحصر – ليست مجرد تشكيل عسكري عابر مشارك في الحرب، بل هي مرآة صافية لهذا التحالف الدموي القذر. تأسست على يد الإسلاميين، وقوامها سلفيين حربيين ودواعش وجهاديين سودانيين سبق أن قاتلوا في ليبيا والصومال وسوريا والعراق.

لم تأتِ هذه المليشيا الجهادية من فراغ، بل من بيئة أيديولوجية غذتها الحركة الإسلامية، ومن شبكات تجنيد وتمويل وإسناد أمني متغلغلة داخل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، بما في ذلك الجيش نفسه.

التقرير الأممي يشير إلى “هشاشة أمنية” في السودان كعامل جذب لداعش، لكن هذه الهشاشة ليست نتيجة ضعف عرضي، بل نتيجة استراتيجية متعمدة انتهجها الكيزان: تفكيك مؤسسات الدولة، تحييد الأجهزة التي يمكن أن تشكل حائط صد، وإغراق المشهد السياسي والأمني في صراع دموي مفتوح. وفي مثل هذا المناخ، يصبح وجود داعش مجرد تفصيل في لوحة أكبر .. لوحة يرسمها الكيزان بدماء الأبرياء من السودانيين.

تحالف الكيزان مع داعش ليس مجرد التقاء مصالح عابر، بل هو تحالف عضوي قائم على اشتراك عقدي ومنهجي: رفض الدولة الوطنية الحديثة، الكفر بالديمقراطية واحتقار التعددية، والإيمان بأن العنف المسلح هو أداة مشروعة – بل واجبة – لفرض مشروعهم. قد يختلفون فيما بينهم في التكتيك أو في ترتيب الأولويات، لكنهم يلتقون عند خط النهاية: سلطة مطلقة تحت تحت راية يسطع بريقها بـ “سيف الشريعة”!

ما يزيد الكارثة عمقًا هو أن هذا التحالف يجد اليوم مسرحًا مثاليًا للعمل: جيش تسيطر عليه قيادة إسلامية، يشن حربًا لا رحمة فيها على مواطنيه في مدن ولايتي دارفور وكردفان، وتفريغ الشرق والشمال من أي مقاومة منظمة عبر صفقات أمنية وسياسية تُعقد في غرف مغلقة ببورتسودان. وبينما ينشغل العالم بأزمات أوكرانيا وغزة، يعمل الكيزان على استثمار الظل الإعلامي لتمرير أكثر صفقاتهم ظلامية.

إن من يظن أن الحرب في السودان ستتوقف بمجرد تسوية واتفاق سلام بين الجيش والدعم السريع، يتجاهل حقيقة أن الأرض نفسها قد زُرعت بألغام أيديولوجية لن تنفجر إلا بعد حين. وجود داعش، المدعوم من التيار الغالب داخل الحركة الإسلامية، يعني أن أي “سلام” سيكون هشًا، وأن النار ستظل كامنة تحت الرماد، تنتظر ريحًا جديدة لتشتعل بضراوة أكثر من السابق.

المسؤولية هنا لا تقف عند حدود الإدانة بالتقارير والبيانات واللجان. المطلوب هو إدراك أن الكيزان، وهم في موقع السيطرة على الجيش، لا يمكن أن يكونوا جزءًا من أي حل مستدام، لأن بنيتهم الأيديولوجية تجعلهم طرفًا أصيلًا في المشكلة. ومن دون تفكيك هذه البنية بالكامل، ستظل البلاد تدور في حلقة مفرغة من الانقلابات والحروب والكوارث، وسيظل علم داعش يجد من يرفعه على ضفاف النيل.

لقد حذّر التاريخ القريب من هذا المسار: من أفغانستان التسعينيات إلى العراق ما بعد 2003، ومن الصومال إلى ليبيا، إنه كلما تماهى الإسلام السياسي مع الجهادية العابرة للحدود، تحولت الدولة إلى ركام، وتحوّل المجتمع إلى غابة. والسودان اليوم يقف على العتبة نفسها، والفرق الوحيد أن من يدفع الثمن هذه المرة هم السودانيون الذين رأوا بلادهم تُختطف مرتين: مرة باسم “إنقاذهم”، ومرة باسم الحرب الكاذبة على “التمرد”!

إن مواجهة داعش في السودان تبدأ بمواجهة الكيزان، لا كشخوص فقط، بل كمشروع، كمنظومة متكاملة قادرة على إعادة إنتاج نفسها داخل الأجهزة العسكرية والأمنية، ووسط كل مؤسسة ومنبر وذراع مسلح. ومن دون هذه المواجهة، فإن تقرير الأمم المتحدة ليس إلا مقدمة لفصول أكثر دموية، سيُكتب عنوانها العريض بالخط الأسود: هنا كانت دولة، قبل أن يبتلعها التحالف بين العمامة والسكين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..