مقالات سياسية

الديمقراطية في الميزان: تحليل استقصائي لمذكرات محمد أحمد محجوب السياسية

مقدمة: “الديمقراطية في الميزان” كوثيقة تاريخية وفلسفية

يُعد كتاب “الديمقراطية في الميزان” لمؤلفه محمد أحمد محجوب، أحد أبرز الشخصيات السياسية في تاريخ السودان الحديث، وثيقة تاريخية وسياسية شاملة تتجاوز حدود المذكرات الشخصية. فالمؤلف، الذي شغل منصبي رئيس الوزراء ووزير الخارجية مرارًا، يقدم من خلال كتابه هذا شهادة فريدة من نوعها تتناول “السنوات الخمس عشرة المضطربة التي تلت استقلال السودان في سنة 1956”. ويُظهر الكتاب أهمية خاصة كونه كُتب من منظور داخلي، من قِبل رجل عايش الأحداث وشارك في صنعها، وعانى من نتائجها على الصعيد الشخصي والوطني، ليقدم للقارئ رؤية عميقة تتشابك فيها التجربة الشخصية مع التحليل السياسي الدقيق.

يُحدد محجوب بوضوح أن كتابه ليس سردًا تاريخيًا للأحداث، بل هو “محاولة للتأمل” في تلك الحوادث التي “أثرت في مصير بلدي”. هذا التمييز يمنح الكتاب بُعدًا فلسفيًا عميقًا، حيث يُوظف المؤلف تجربته في الحبس والنفي كفرصة لإعادة النظر في مسيرة بلاده والمنطقة. ويُعبر عنوان الكتاب نفسه عن جوهره، فوضع الديمقراطية “في الميزان” لا يُشير إلى نهاية الطريق، بل يمثل لحظة تقييم ومراجعة دقيقة لأخطاء الماضي، في محاولة لإعادة التوازن وتوجيه الأجيال القادمة نحو مستقبل أفضل.


القسم الأول: محمد أحمد محجوب: شهادة من المنفى وإيمان لا يتزعزع

نبذة عن المؤلف ودوافعه

تميز محمد أحمد محجوب بمسيرة مهنية وسياسية متعددة الأوجه، فقبل أن يصبح سياسيًا بارزًا، كان مهندسًا مدنيًا وقاضيًا، بالإضافة إلى كونه شاعرًا وأديبًا. هذا التنوع في الخلفية يمنح تحليلاته في الكتاب بُعدًا فريدًا؛ حيث يمزج بين المنطق الهندسي في بناء الأفكار، والدقة القانونية في تحليل الأحداث، والعمق الشعري في التعبير عن الآمال والمآسي.

يُقر محجوب في مستهل كتابه بأن دافعه الأساسي للكتابة هو أنه أصبح في “خريف العمر، منفي عن وطني باختياري”. وقد وفرت له تجارب الحبس والنفي فرصة ثمينة “للتأمل” في مسيرة بلاده والمنطقة. ولهذا، لا يُعتبر الكتاب مجرد سرد للأحداث التي عايشها، بل هو محاولة لاستخلاص الدروس من تلك التجارب المؤلمة وتقديمها كبوصلة للأجيال القادمة.

تأثير التجارب الشخصية على فلسفته السياسية

يُشكل الحبس والنفي جزءًا لا يتجزأ من السرد السياسي لمحجوب، ويُظهر كيف أن هذه التجارب صقلت فلسفته. يُقدم محجوب تمييزًا دقيقًا بين تجربتي الحبس اللتين مر بهما: الأولى كانت في “معتقل عسكري” مع مجموعة من السياسيين، حيث وجد بعض العزاء في “مشاركة الآخرين وحشتهم”. أما التجربة الثانية، وهي “الحجز في البيت”، فيصفها بأنها “أسوأ العقوبات” لأنها فرضت عليه “وحدة عقلية وجسدية”. هذه التجربة، بالنسبة له، هي أشد قسوة على السياسي الذي يعتمد على “الاتصال المستمر بالناس” و”تبادل الآراء معهم”.

يتجلى نقد محجوب اللاذع للحكم العسكري في هذا السياق، إذ يصف حكم الجنرالات والعقداء بأنه “أسوأ أنواع النظام الفاشستي”. ويؤكد أنهم عندما يستولون على السلطة، يبررون ذلك بحجة “استئصال الجشع والفساد”، لكنهم سرعان ما يستبد بهم “ولعهم بها”، مما يؤدي إلى تأميم الملكية الخاصة وتسليم الإدارة لـ “محبذين جاهلين أو لضباط الجيش”، وتكون النتيجة دائمًا “خرابا في القطاع الخاص وحالة من الافلاس للشعب”. هذا التحليل النقدي يُرسخ قناعته بأن الحكم العسكري هو العدو الأول للتنمية والتقدم.

إيمانه “العتيق” بالديمقراطية

على الرغم من كل الكوارث التي شهدها وعانى منها، ظل إيمان محجوب بالديمقراطية ثابتًا وراسخًا. يصفه الكتاب بأنه “إيمان عتيق بالديموقراطية” لم يفقده الأمل “على الرغم من النكسات الخطيرة التي تعرضت لها الديموقراطية التقليدية”. هذه القناعة ليست مجرد موقف سياسي، بل هي جزء من عقيدته الفكرية التي يُلخصها في مقولته: “خير علاج لعلل الديموقراطية اعطاء الناس مزيداً من الديموقراطية والحرية”.

يُجادل محجوب بأن الديمقراطية هي “نظام الحكم الوحيد الذي يستطيع العمل” في الدول النامية، لأنها تقوم على الحوار الحر وتوفر الفرصة لتسوية المصالح المختلفة. ويُشير إلى أن الحرية هي “حجر الأساس في الديموقراطية” وأنها تُولد في الناس “وعي التطور وتشجعهم على المطالبة به”، بينما غيابها يؤدي إلى “خرس الجرأة”. وهكذا، يُحول محجوب تجربته الشخصية من مصدر للألم إلى دليل على أهمية الديمقراطية كحل وحيد لبناء مستقبل مستقر.


القسم الثاني: السودان نحو الاستقلال: إرث المقاومة وتحديات ما بعد التحرر

تاريخ السودان الحديث من منظور محجوب

يُقدم محجوب تاريخ السودان الحديث كمسار متصل من المقاومة والنضال. يربط بين حركة المهدية التي أدت إلى “أول استقلال” للسودان عام 1881، والذي دام ثلاثة عشر عامًا، وبين النضال الذي قاده جيله لتحقيق الاستقلال الثاني. ويُقدم المؤلف، مستندًا إلى روايات عائلية، سردًا فريدًا لمقتل الجنرال غوردون، حيث يؤكد أنه كان “حادثاً عرضياً” وأن المهدي “لم يرد موته”. هذه الرواية، التي تتناقض مع الأسطورة البريطانية، تُظهر أن النضال كان ضد الحكم الأجنبي وليس ضد الأشخاص، مما يُرسخ فكرة أن روح المقاومة الوطنية متجذرة في التاريخ السوداني.

تحليل نقدي لسياسة الحكم الثنائي

يُهاجم محجوب بشدة نظام “الحكم الثنائي” الأنجلو-مصري، واصفًا إياه بأنه كان “حكماً استعماريًا بريطانيًا في كل شئ ما عدا الاسم”. وينتقد بشكل خاص سياسة “الحكم غير المباشر” التي اتبعها البريطانيون، والتي يرى أنها كانت محاولة “لبعث نظام اجتماعي كان قد اختفى الى الابد”. ويعتبر أن الهدف الحقيقي لهذا النظام لم يكن إعداد السودانيين للحكم الذاتي، بل كان “استمرار الحكم البريطاني بصورة غير مباشرة عن طريق نظام طبقي” يفصل المتعلمين عن الشعب، مما عرقل التطور الطبيعي لمؤسسات الدولة الحديثة.

يرى محجوب أن هذا الحكم غير المباشر أدى إلى مشاكل هيكلية عميقة، أبرزها في جنوب السودان، حيث يوجه تهمة خطيرة للإدارة البريطانية “بتقوية الانفصال في الجنوب بل بتشجيعه”. هذه السياسات الاستعمارية، في نظر محجوب، هي التي خلقت “صراعا قبليا وحروبا أهلية” ، مما يوضح أن جذور فشل الديمقراطية في مرحلة ما بعد الاستقلال تعود إلى التحديات التي خلّفها الحكم الاستعماري.

مسيرة الاستقلال السلمية

يُبرز محجوب في كتابه مسيرة السودان الفريدة نحو الاستقلال السلمي، مشيرًا إلى أن جيله “أدرك أننا في حاجة الى اسلحة تختلف عن تلك التي استعملها آباؤنا”. وقد كانت هذه “الأسلحة الجديدة” هي “التربية والمعرفة والثقافة الحديثة”. هذا التحول من المقاومة المسلحة إلى النضال السياسي الفكري يوضح لماذا كان استقلال السودان “من دون حقد او سفك دماء”.

يُفصل محجوب دوره الشخصي في هذه المسيرة، بدءًا من تأسيس “مؤتمر الخريجين” ، ثم استقالته من القضاء لمقاومة اتفاقية صدقي-بيفن التي كانت ستقبل بالسيادة المصرية على السودان. ويُقدم سردًا دراميًا لموقفه في الأمم المتحدة، حيث دافع عن حق تقرير المصير للشعب السوداني. وتُوّجت هذه المسيرة في الأول من يناير 1956، حين أُعلِن استقلال السودان، ويصف محجوب تلك اللحظة بأنها “نصر جديد” تحقق بـ”براعة رجال الدولة ودبلوماسيتهم”.

أسباب فشل الديمقراطية في السودان

يُقدم محجوب تحليلاً نقديًا للأسباب التي أدت إلى فشل الديمقراطية في السودان بعد الاستقلال. يرى أن الفشل لم يكن حتميًا، بل كان نتيجة لأسباب يمكن تفاديها. يُحدد الأسباب الرئيسية على النحو التالي:

  • أخطار عدم الاستعداد: يشير محجوب إلى أن “أخطار عدم الاستعداد” التي ظهرت بعد الاستقلال مباشرة كانت عاملاً أساسيًا، مما يُظهر أن الانتقال السلمي السريع لم يُعطِ القوى الوطنية الوقت الكافي لبناء مؤسسات ديمقراطية قوية.

  • المنافسات الشخصية والتحولات الحزبية: يُشير إلى أن “المنازعات والمشاحنات الطويلة بين السياسيين، وخلافات حادة ، ومطامع شخصية، وتحولات في الاتحادات الحزبية” كانت السبب المباشر الذي “أعطى الجيش مبرراً للقبض على السلطة”.

  • التدخل العسكري: يُعد التدخل العسكري، في نظر محجوب، النقطة الفاصلة التي أوقفت “التقدم الدستوري والاقتصادي”. ويوضح أن العسكريين يستغلون الفساد والفوضى كحجة للسيطرة على الحكم، ثم لا يلبثون أن يستبدوا بالسلطة مما يؤدي إلى نتائج كارثية على اقتصاد البلاد.


القسم الثالث: ناصر في الميزان: قراءة في الطموح والإخفاق

تحليل شخصية جمال عبد الناصر وأهدافه الأربعة الرئيسية

يُقدم محجوب تحليلًا عميقًا لشخصية جمال عبد الناصر، مُعترفًا بأنه كان “رجلًا وقائداً استحق تملق شعبه” ولكنه “كرجل دولة فشل في كل مهمة أساسية وضعها لنفسه”. ويُحدد محجوب أربعة أهداف رئيسية للثورة الناصرية، ويُقدم تقييمه الخاص لفشل كل هدف منها:

  1. تحرير مصر من النفوذ الأجنبي: يُشير محجوب إلى أن ناصر نجح في طرد القوات البريطانية بعد احتلال دام 74 عامًا، لكنه استبدل هذا النفوذ بـ “عشرين ألف روسي من الخبراء العسكريين والمستشارين”، مما جعل مصر مدينة بثلاثة آلاف مليون جنيه.

  2. رفع جماهير المصريين: يُقر محجوب بأن سياسات ناصر، كالإصلاح الزراعي والتأميم، خففت من مشقات وجود الفلاحين وأوجدت شعورًا بالعدالة الاجتماعية، لكنه يعتبرها فشلًا في تحقيق التنمية الحقيقية، حيث أدت إلى “ارتفاع الكلفة ورداءة البضائع” و”خرابًا في القطاع الخاص”.

  3. تشجيع الوحدة العربية: يرى محجوب أن ناصر “ترك العرب يوم وفاته في حالة فوضى ونزاع وفزع” ، مما جعل الوحدة العربية “حلماً مستحيلاً”.

  4. تحرير فلسطين: يعتبر محجوب أن فشل ناصر في هذا الهدف كان واضحًا، فبدلًا من استرجاع فلسطين، “أضاع خمس أرض مصر وأضاع على العرب مرتفعات الجولان وضفة الأردن الغربية والقدس”.

يوضح الجدول التالي ملخصًا لأهداف عبد الناصر وتقييم محجوب لفشلها:

الهدف الرئيسيتقييم محمد أحمد محجوب
تحرير مصر من النفوذ الأجنبيفشل، حيث استبدل النفوذ البريطاني بوجود عسكري روسي ودين ضخم.
رفع جماهير المصريينفشل، حيث أدت سياساته إلى نتائج اقتصادية عكسية، رغم إيجاد شعور بالعدالة الاجتماعية.
تشجيع الوحدة العربيةفشل، إذ تركت أساليبه العرب في حالة من النزاع والفوضى.
تحرير فلسطينفشل، حيث أدت سياسته إلى خسارة أراضٍ مصرية وعربية.

نقد تفصيلي لسياسات الإصلاح الزراعي والصناعي في مصر

يُقدم محجوب نقدًا بناءً ومحددًا لسياسات ناصر الاقتصادية، خاصة في مجالي الإصلاح الزراعي والصناعي.

  • الإصلاح الزراعي: ينتقد محجوب سياسة تقسيم الأراضي، حيث يرى أنها أدت إلى “قسائم صغيرة فاصبح من الصعب استعمال الوسائل الآلية أو الاسمدة الصناعية بصورة فعالة”. ويُقدم مقارنة بين هذه السياسة ونموذج “الملك المشاع” الذي طُبق في مشروع الجزيرة بالسودان، والذي يُمكنه من تحقيق إدارة جماعية وأرباح مشتركة، مُشيرًا إلى أن الإصلاح الناصري جعل الفلاح يفتقر إلى “الخبرة بالادارة الزراعية”.

  • التأميم الصناعي: يعتبر محجوب أن سياسة التأميم الصناعي “حرمتها روح المبادرة والقدرة الادارية”. ويُشير إلى أن غياب “كوادر مدربة” في القطاع العام أدى إلى “ارتفاع الكلفة ورداءة البضائع التي تنتجها الصناعات المؤممة”، مما تسبب في “خراب في القطاع الخاص وحالة من الافلاس للشعب”.

تقييم العلاقة الشخصية بين محجوب وناصر

يُظهر محجوب في كتابه العلاقة المعقدة والمتناقضة التي جمعته بجمال عبد الناصر. فمن جهة، كان ناصر يثق في رأي محجوب لدرجة أنه سأله عن انطباعه عن مصر بعد حرب 1967، مُدركًا أنه يمتلك أصدقاءً في مصر “يفتحون له قلوبهم بينما القليلون جداً منهم يستطيعون أن يكلمونه بحرية”. لكن من جهة أخرى، يكشف محجوب عن أن ناصر “كان وراء المؤامرة التي ادت الى الانقلاب العسكري الثامن في السودان في أيار 1969 وأرسلتني الى المنفى”. هذا التناقض بين الصداقة والمصلحة السياسية يُفسر لماذا كان نقد محجوب لناصر قاسيًا، ولكنه كان دومًا “كلام صديق”.


القسم الرابع: دبلوماسية الأزمة والوحدة العربية: مشاركة فاعلة وتحليل نقدي

دور محجوب كوزير خارجية في أزمة السويس 1956 وحرب 1967

يُقدم محجوب سردًا مفصلًا لدوره كوزير للخارجية في الأزمات الإقليمية. فقد عُين في منصبه قبل 20 يومًا من تأميم ناصر لقناة السويس. ورغم أن ناصر لم يستشر السودان في قراره، فقد دافع محجوب عن شرعية التأميم. وقد شارك في اجتماعات جامعة الدول العربية، حيث لاحظ أن الخلافات بين الدول العربية كانت عميقة لدرجة أن المناقشات كانت “صريحة مشرقة، ومشحونة احياناً بالاتهامات المضادة”. وتوقع محجوب نشوب نزاع مسلح، حيث أرسل رسالة إلى رئيس الوزراء يطلب منه “تخزين البضائع الضرورية” استعدادًا لإغلاق القناة.

خلال حرب الأيام الستة عام 1967، يذكر محجوب أن السودان “تورط بصورة لا خلاص منها، دبلوماسياً ومعنوياً والى حد ما عسكريا”. هذا يُظهر أن السودان، كجزء من العالم العربي، لم يكن بمنأى عن هذه الصراعات.

موقفه في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية

استغل محجوب منصبه كوزير خارجية السودان ليكون صوتًا فاعلًا في المحافل الدولية. في أزمة السويس، على الرغم من أن السودان لم يكن عضوًا رسميًا في الأمم المتحدة، فقد عمل على تنسيق الوفود العربية والدفاع عن حق مصر في سيادتها على القناة. وقد انتقد بشدة العدوان الثلاثي، واصفًا إياه بأنه “مؤامرة بين ثلاث غزاة: بريطانيا، وفرنسا، واسرائيل”. كما انتقد الأمم المتحدة لفشلها في إجبار إسرائيل على الانسحاب الفوري وغير المشروط، معتبرًا أن هذا الفشل يُضعف من “قوتها المعنوية”.

وفي أزمة لبنان عام 1958، يروي محجوب دوره في إعداد القرار العربي الذي حظي بتأييد إجماعي في الأمم المتحدة. وقد واجه حينها ضغوطًا من وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس للتخلي عن القرار العربي، لكنه تمسك به، مؤكدًا أن “الدول الكبيرة تحتاج أحياناً الى مساعدة الدول الصغيرة”.

فحص رؤيته للوحدة العربية ونقده للطرق التي اتبعها ناصر

يُقدم محجوب نقدًا لاذعًا للطريقة التي حاول بها ناصر تحقيق الوحدة العربية، واصفًا أساليبه بأنها “مزعجة وغير ملائمة”. ويُشير إلى أن “جامعة الدول العربية باستعمال جهاز المخابرات على نطاق واسع ليس لها أي أمل في النجاح”. ويرى أن الأساليب الناصرية في إثارة القلاقل في الدول الأخرى أدت إلى “التفرقة العربية” بدلًا من الوحدة.

يقترح محجوب رؤية بديلة للوحدة العربية تستند إلى أسس أكثر واقعية وتدريجية، مُدركًا أن “الوحدة العربية مثل أعلى مرغوب فيه كثيراً لكن لا يمكن تحقيقها ابدا بمرسوم أو بالقوة”. يوضح الجدول التالي مقارنة بين أسلوب ناصر والأسلوب الذي يقترحه محجوب:

أسلوب ناصر في تحقيق الوحدة العربيةرؤية محمد أحمد محجوب البديلة

الاعتماد على أجهزة المخابرات لإثارة القلاقل.

إحياء الثقافة العربية وتقديمها بصورة مُشرقة.

التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

التنسيق الاقتصادي والتكامل ليُكمل بعضها بعضًا.

محاولة فرض الوحدة من الأعلى بقرارات سياسية.

التعاون التقني وتبادل الخبرات بين الدول.

اعتماد نظام الحزب الواحد.

إعادة تنظيم جامعة الدول العربية ببرلمان يُمثل فيه الأعضاء بالتساوي.


القسم الخامس: الديمقراطية الحقيقية مقابل الديمقراطية الشعبية: أسس رؤية محجوب للمستقبل

التمييز بين الديمقراطيتين

يُخصص محجوب الفصل 33 من القسم السابع من كتابه لمناقشة التمييز بين “الديموقراطية الحقيقية والديموقراطية الشعبية”. وعلى الرغم من أن النص المتوفر لا يحتوي على تفاصيل هذا الفصل، يمكن استنتاج رؤيته من سياق الكتاب العام. فـ”الديمقراطية الحقيقية” في نظره هي التي تقوم على “الحوار الحر” و”الحرية” كحجر أساس، وتُمكن الناس من تسوية خلافاتهم بشكل سلمي. أما “الديمقراطية الشعبية” فمن المرجح أنها، في سياق نقده للحكم العسكري، تُعد نموذجًا زائفًا يستخدمه القادة الشموليون لإضفاء شرعية شكلية على حكمهم، بينما يُفرغون النظام من محتواه الديمقراطي الحقيقي.

رسالة الأمل والدروس المستفادة

يختتم محجوب تأملاته برسالة أمل موجهة “للجيل الطالع”. وهو يرى أن بلاد العرب وأفريقيا، بعد خروجها من الاستعمار ومحنة الانتقال، ستطور ببطء “طرقها واساليبها الخاصة، وانظمتها ودساتيرها”. هذا التفاؤل ليس ساذجًا، بل هو مبني على قناعته بأن القيادة التي تقوم على “النية الحسنة والترضية والتضحية” لن تكون معدومة أبدًا.

يُقدم محجوب دعوة واضحة للجيل الجديد لبناء “صرح الجمهورية الديموقراطية السودانية”. وتتلخص رسالته في ضرورة إدراك أن “لا قيمة للدستور… اذا لم يدعمه الشعب ويطعمه”. ويُشير إلى أن بناء الأمة مسؤولية جماعية تتطلب من كل فرد أن يؤدي واجبه: “على العمال في المصانع أن يضاعفوا انتاجهم، والفلاحين… ان يعتنوا بالبذور… والتاجر… ان يظل أمينا”. ويؤكد أن النجاح في بناء هذا الصرح يستلزم التعلم من “أخطاء الماضي” التي أدت إلى الانقلابات، والإيمان بأن “الواجب يأتي أولا، فلنؤد جميعاً واجباتنا كي نكسب حقوقنا وننعم بها”.


الخاتمة: إرث فكري للبحث عن ديمقراطية مستقرة

يُعد كتاب “الديمقراطية في الميزان” أكثر من مجرد سيرة ذاتية؛ فهو وثيقة تحليلية عميقة تُقدم رؤية شاملة لمسيرة السودان والعالمين العربي والأفريقي خلال حقبة ما بعد الاستعمار. يُقدم محمد أحمد محجوب من خلاله شهادة شخصية تُبين أن فشل الديمقراطية في المنطقة ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتيجة لتفاعل عوامل معقدة تتراوح بين إرث السياسات الاستعمارية، والمنافسات الداخلية، والطموحات السياسية غير المدروسة لقادة مثل جمال عبد الناصر.

تظل أفكار محجوب ونقده البناء ذات أهمية بالغة في السياق الراهن، حيث لا تزال المنطقة تواجه تحديات مشابهة في بناء دول مستقرة وديمقراطية. فرسالته الأساسية تتلخص في أن الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم، بل هي “إيمان عتيق” ومسؤولية جماعية تتطلب التزامًا عميقًا من كل فرد في المجتمع. وبتوثيقه لأخطاء الماضي، يُقدم محجوب للجيل القادم فرصة لتعلم الدروس وتفادي الأشواك، مُرسخًا إيمانه بأن ما جاهد من أجله من أجل بلده سينجح في نهاية المطاف.

‫2 تعليقات

  1. ان المحجوب فى كتابه الديموقراطية فى الميزان قد قدم جردا ناقصا لسنينه التى تولى فيها مسؤولية رئاسة الوزراء فلم يقدم مثلا رؤية تنموية للنهوض بالبلاد رغم الفرصى التى كانت متاحة يومئذ ولم يورد فى كتابه اى سيرة لخطة بهذا الصدد او الرغبة فى وضعها مما يعنى ان الحكومة قضت كل جهدها فى تنازعاتها الداخلية… حكى لى بعض معاصريه ممن عملوا معا فى الجمعيات التاسيسية المختلفة بانه كان عنصريا ينظر باستعلاء الى المكونات غير العربية سواء فى الحكومة او البرلمان بل ان مناكفاته فى مقاعد البرلمان امتدت الى العنصر النسائى كواقعة الجمل مع المرحومة فاطمة احمد ابراهيم.. اهدر المحجوب وقتا غاليا فى الذود عن شئ هلامى اسمه الوحدة العربية وكان يمنى نفسه ويتناقض فى اعجابه بعبد الناصر ودفاعه عن الديموقراطية… وحسنا فعل باعترافه بتورط السودان فى الحرب العربية الاسرائيلية واقر بخطا ذلك الموقف فلا يزال السودان يدفع ثمن ذلك الموقف حتى يومنا هذا.. قدم السودان قدر استطاعته بما سمى بالمجهود الحربى العربى وهو ما لم ينل السودان منه الا جزاء سنمار سواء من مصر او من غيرها من الدول العربية…. كان المحجوب من انصار رفع وتيرة الحرب فى الجنوب وكان من دعاة التعريب المتعجل فيه وفى غيره من مناطق السودان المختلفة وتراه لا يقر بالتنوع الثقافى والاثنى فى السودان ,,, عموما الكتاب يستحق الاطلاع وفيه توثيق لحقب من تاريخ السودان وسرد لتجارب احرى ان تعرفها الاجيال اللاحقة… فقد سنحت لى الفرصة الاطلاع على نسخته المترجمة باللغة الانجليزية بعنوان Democracy on Trial

  2. من افضل السياسيين الذين تعاقبوا على السودان وانجحهم على الاطلاق
    له الرحمة والمغفرة والعتق من النار
    يا ليت قومي يفقهون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..