يوميات “البحير”: قصة الفرح الآتي؟!

الجميل الفاضل
في ظني أن طيورًا خرافية من نوع “السمندل” أو “الفينيق” لا تزال تحتل حيّزًا في قلب هذه المدينة البرزخية، نيالا.
أسمع من هنا أصوات كائنات أسطورية، كأنها تقول بلسان حال هذه البقعة النائية: “كلما احترق الجناحان، اقتربتُ من الحقيقة، وانبعثتُ من الرماد”.
فلو أن الحرب قد بعثرت ما في صدور أهل هذه الديار، لوجدت أن نيالا، مدينة البعث والقيام، قد اقتربت اليوم بسرعة مذهلة من حقيقة كونها عاصمة لسودان جديد “لنج”، ينهض على سوقه رويدًا رويدًا.
فهي مدينة لا تجيد لعبة الانحناء أمام العواصف، ولا تقبل الركوع تحت وطأة أي ظرف.
فقد عاد أهل هذه المدينة، بأسرع مما أتصور، لملء فراغات الأمكنة هنا، وللاكتظاظ بالأسواق التي تعالت فيها أصوات وجلبة الباعة الجائلين والمرشدين إلى خطوط المواصلات.
إطارات السيارات تعانق الأسفلت بحرارة لا تُضاهى، لتكتب مجدها هذه المرة على شوارع أخري من جديد.
المارة، وعابرو السبيل، والمتسكعون على الأرصفة وحواشي الطرق، عادوا لممارسة هواياتهم القديمة.
الرجال يتحلّقون حول “ستات الشاي”، ومنصات أجهزة الإنترنت الفضائي “ستارلينك”، يلهثون وراء الأخبار، ويواصلون أرحامهم، والبعيدون من ذوي قرباهم، بمكالمات عبر تطبيق التراسل الفوري “واتساب”.
الواح الطاقة الشمسية مبثوثة في كل مكان لتمنح المدينة قبلة الحياة.
المهم يبدو أن مياه نيالا بدأت تعود تدريجيًا إلى مجاريها المعتادة، رغم ما تركه جدري الحروب من ندوب وثقوب على حوائط وجدران منازلها وواجهات محالها ومرافقها الحيوية.
ومع ذلك، فإن نيالا مدينة لا تُخفي جراحها، التي باتت تُحوّلها إلى وشم يجسد كبرياءها، وإلى شهادة ميلاد لعصر جديد يُكتب هكذا من تحت الرماد.
إذ في نيالا، لا وقت الآن للدموع ولا أحد يملك ترفا للتباكي علي ما فات.
فالناس هنا يحفرون المستقبل بأظافرهم، يزرعون أملهم بين شقوق الحيطان.
هي مدينة حين تمشي في شوارعها، تشعر وكأنها تُلقي عليك التحية بإيماءة خفية تلوح مع حفيف الاغصان التي نجت بأعجوبة من الحريق.
أجساد متعبة تتحرك في إيقاع يومي صاخب، كأنها تقول للعالم: “نحن لا نعيش فقط رغم الحرب.. بل نُعيد تعريف الحياة ذاتها” علي نحو مختلف.
تسمع ضحكات الأطفال في الأزقة، تعلو فوق هدير مولدات الكهرباء.
في “البحير”، لا وقت لليأس، ولا متسع كذلك لرفاهية الانتظار.
إنها مدينة قررت أن تبدأ، الآن، من قلب العتمة، من العدم ذاته، تكتب سردية سودانها الجديد بأصابع مُثقَلة بالتجارب، لتؤكد أنها لا تزال قادرة على الغرس.
هنا، يتشكل نموذج لا يعرف المساومة مع الماضي، ولا يقدم الاعتذار للحاضر.
ف”چنالا”، التي كانت تُصنَّف لوقت طويل كآخر محطة بعيدة للقطار، قررت أن تُصبح وجهة لا متناهية للسموق والطول في ذاكرة الأيام.
قررت أن تتجاوز دور الضحية، لتقوم بدور “العاصمة” لا كمجرد توصيف إداري، بل كمفهوم رمزي عميق، لعصر يعيد كتابة قصة السودان برمتها.
المهم فإن نيالا تكتب، الآن، فصلاً جديداً من التاريخ، تفتحه بلا ضجيج، لتقرأه على العالم بلغتها الخاصة: لغة البقاء والإصرار والإنبعاث من الرماد.
يوميات “البحير”: (2)
هنا، ميزان الحرب يتبدل داخل الأذهان؟!
“نيالا”، مدينة صرت انأي عن زماني الخاص، كلما بت أدنو رويدا رويدا من تضاريسها ومن معالمها.
رغم أنها مدينة ظلت تعتصر آلامها، تنطوي علي جراحها الغائرة، بين قعقعة السلاح ودوي المدافع، وأزيز الطائرات.
دفعت ثمن جلدها وصبرها عقابا يوميا قاسيا كان يوقعه عليها جبابرة هذا الزمان، مرسلو المسيرات، وصانعو “الكباب البشري”، بفولاذهم الطائر فوق مساكنها ليخبز سكانها تحت الانقاض.
عما قليل، ستصبح هذه المدينة الجريحة ذاتها، عاصمة لسودان جديد مكتمل الأركان، يقوم علي مبدأ وفكرة احداث تغيير جذري شامل، يطال بنية الدولة وكافة أجهزتها لا سيما الجيش الذي لا زال الإسلاميون يراهنون حتي في مقبل الأيام علي استمرار دوره كغرفة للتحكم والسيطرة علي البلاد.
أكد ذلك، اعتراف نادر نشرته وكالة رويترز للانباء، للقيادي الإسلامي احمد هارون أقر فيه بالقول: ليس سرًا أننا نؤيد الجيش استجابةً لنداء القائد العام، و”من أجل بقائنا”.
هذه الرغبة في البقاء بالحكم هي ربما ما دفع هارون لأن يرجح استمرار الجيش في السياسة بعد الحرب، وإلي حين الانتخابات التي قال أنها قد توفر طريقا لعودة حزبه والحركة الإسلامية الي السلطة.
علي الأقل هكذا يفكر هارون ومن معه إلي يومنا هذا.
فقد قال صن تزو في كتابه فن الحرب: “إذا كنت تعرف عدوك وتعرف نفسك، فلن تخشى نتيجة مائة معركة.
وإذا كنت تعرف نفسك ولا تعرف عدوك، فسوف تعاني من الهزيمة مع كل انتصار تحققه.
وإذا كنت لا تعرف عدوك ولا تعرف نفسك، فسوف تستسلم في كل معركة”.
فميزان مثل هذه الحروب لا يتبدل علي الأرض، بل يتبدل أول ما يتبدل داخل العقول والاذهان.
ولهذا كنت اقضي غالب يومي بين العامة في الأسواق من موقف الجنينة الواقع أقصي غرب المدينة، والي “الملجة” شرقيها، وفي سوقها الكبير العائد بعد غياب للاتجار والتسوق، أنقب في الأذهان ما استطعت إلي ذلك سبيلا.
علي أية حال، هنا روح العنقاء قوية جدًا.
العنقاء ذلك الكائن الخرافي قادر على أن يحترق بالكامل ويبعث من رماده، في عملية قد تؤدي إلى تغييرات جذرية وإيجابية للغاية، من خلال محو كل أعباء الماضي، والبدء من جديد.
هناك في هذه الأسواق كما يقول طرفة بن العبد:
سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً
وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تَبِع لَهُ
بَتاتاً وَلَم تَضرِب لَهُ وَقتَ مَوعِدِ.
فضلا عن اني في نيالا الآن، ضيفا علي نفسي أحل، أتجاذب معها أطراف الحديث، لا أحول بين عقلي وتشاؤمه أحيانا، وبين إرادتي وتفاؤلها الراجح في أغلب الأحيان.
يوميات “البحير” (7):
حين تتبدل تفاصيل الحياة الصغيرة؟!
فاجأتني صيدلانية في نيالا بقولها: “لقد انفصل خط إمدادنا الدوائي من الشرق، ولذلك ينبغي أن توطّن نفسك على استخدام هذا النوع من الحبوب كبديل لما كنتَ تستخدمه في السابق من دواء.”
يبدو أن ما تبدّل في نيالا، وفي الغرب عمومًا، ليس الدواء فحسب.
أتصوّر أن نظرة الناس إلى الأشياء، في كل تفاصيلها الصغيرة، قد تبدّلت بدرجة كبيرة.
فأرض السودان الآن أرض يعتريها صدع ضخم وهائل، بلغ من الشأو ما لم يَدَعْ ما كان في هذه البلاد بديهيًا، بديهيًا بعد اليوم.
كل شيء في وطننا هذا بات حاليًا قابلاً للأخذ والرد والنقاش.
ما كان يبدو في تصورات عموم الناس هنا مسلّماتٍ لا تنتطح حولها عنزان، لم يعد في هذه اللحظة محلَّ وفاقٍ أو اتفاق.
لقد اختلط، إلى حدّ بعيد، حابل الأشياء في الداخل بنابلها في الخارج.
لقد بتنا يوميًا أمام تحدّي إعادة تعريف أبسط الأشياء، إلى حدّ يستدعي إخضاع كل صغيرة وكبيرة لنوع من الفحص والاختبار المستمر، لإعادة ضبط الهويات وتحديد الانتماءات على ضوء إيقاع هذه المتغيرات اليومية المتسارعة.
وبدا كأنّ كلًّا منا يصدر من نقطة توتر فاعلة في لاوعيه، تنشط من داخل عقله الباطن، وتلقي بظلالها على كل ما يرى أو يسمع أو يقرأ.
نقطة التوتر هذه تُنشئ لدى كلٍّ منا منطقة رد فعله الخاص تجاه ما يعتبره “آخرًا” غريبًا عنه: في الوجه، في اليد، وفي اللسان، مختلفًا في الرؤى والأفكار والمكان.
لتصبح، من ثمّ، بؤرة هذه النقطة منصّة الانطلاق الأولى نحو التعاطي مع جزئيات هذا الواقع المربك وتفاصيله.
وبالتالي، ووفق هذا النهج، بوعي أو دون وعي، يرسم كلٌّ منا مواقفه من الأحداث، بل ومن الأشخاص: مع أو ضد.
إنّ آلة فرز عاصف تنشط الآن بقوة في هذا المنعطف الوجودي من حياة أهل السودان.
ففي مثل هذا الوضع غير الطبيعي الذي يجتاح البلاد بأسرها، من المستحيل أن يظلّ كائنٌ من كان في حالته الطبيعية كإنسان.
ولعله من نافلة القول: إنني لم أدخل نيالا هذه المرة في نزهة عابرة، إذ لست نبيًّا بكل تأكيد، لأبقى دوماً على الحياد، منكرًا لذاتي، متجرّدًا من محيطي، متصنّعًا وقارًا زائفًا، وإنصافًا كذوبًا، ونزاهة مشوّهة.
هنا، أهبط إلى أرض عاديّتي بسلام.
أعيد اكتشاف ذاتي ونواقصي، وأتنازع بيني وبيني في اشتباك داخلي بفعل قوانين الجاذبية.
وللحقيقة، فإن قوانين الطبيعة لن تسمح بالمكوث والبقاء لأكثر من هذا، عند نقطة توتر كهذه…
هي على مسافة واحدة من كل مكونات هذه الفسيفساء.