مقالات سياسية

الإحساس البعيد عند النخب السودانية بعلاقة المجتمع السوداني بمجتمع ما بعد الثورة الصناعية

طاهر عمر

إنتبه كثر من مفكري العالم العربي و الإسلامي التقليدي الى أن لأول مرة بعد الثورة الصناعية يصبح تاريخ البشرية تاريخ واحد للبشرية كافة و أصبحت دائرة الضؤ تتسع منذ إنطلاقها مع الثورة الصناعية و تزداد دائرتها لتشمل شعوب أخرى الى أن وصلت اليوم الى بلوغ كل من الهند و الصين الى مستوى إنتاجية متساوية مع إنتاجية الدول الصناعية الأوروبية و هذا له دور كبير في تسارع أحداث العالم اليوم.

و نتيجته بأن أوروبا اليوم لم تستطع أن تستغل موارد الشعوب غير الأوروبية كما كانت في زمن الإستعمار و علية فإن سياسات ترامب الضريبية ما هي إلا عودة الى أن الديناميكيات الإقتصادية السابقة لم تعد تعمل كما ينبغي و هذا يوضحه إستهداف ترامب للإتحاد الأوروبي بسياساته الضريبية.

و هذا يذكرنا بأن سياسات ترامب الضريبية قد أصبحت فك إرتباط لقديم السياسات الإقتصادية الأمريكية مع أوروبا منذ عام 1941 عندما قبلت الدول الاوربية دخول أمريكا في الحرب العالمية الثانية لصالح أوروبا ضد النازية بشرط تبعية الإقتصاد الاوربي للإقتصاد الأمريكي و بالفعل كانت خطة مارشال لإعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية و كانت إتفاقية برتون ودز.

و هذا يذكرنا بأن تبعية الإقتصاد الأوروبي للإقتصاد الامريكي قد إستمرت لستة عقود كانت فيها ديناميكية الكنزية بعد الحرب العالمية الثانية و جاءت بعدها ديناميكية النيوليبرالية و الأن قد إتضح بأن الدول الأوروبية و عقلها الذي أعقب الحرب العالمية الثانية قد وصل لمنتهاه و لم يعد يعمل و عليه تواجه الدول الأوروبية ديناميكية جديدة تعيد التوازن الإجتماعي و الإقتصادي لفعله الإجتماعي و فعله الإنساني العفوي الذي تفسره معادلة الحرية و العدالة في تفسيرها لظاهرة المجتمع البشري.

و ظاهرة المجتمع البشري تفترض عقلانية الفرد و أخلاقه فالعقلانية و الأخلاق ركائز بنيوية في صميم الفرد و علاقته بالمجتمع و لا تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع لذلك كانت أفكار آباء الفكر الليبرالي ترتكز على أخلاق الفرد و عقلانيته و من هنا جاءت فكرة أن الحرية هي قيمة القيم و لا تتحقق قيمة القيم إلا بمجد العقلانية و إبداع العقل البشري في نظرتها لكل إنسان بأنه غاية في حد ذاته و عقلانيته و أخلاقه تجعله يسلك سلوك يقبل بحرية الآخر فيما يتعلق بضميره و من هنا جاءت فكرة النزعة الإنسانية و إعادة خلق المجتمع على قدرة تصور عقلنا البشري و بعيدا عن فكرة الإرادة الإلهية كما تصورها مدينة الله كما يعتقد القديس أوغسطينس.

بل طالب الفلاسفة بمجد العقلانية و إبداع العقل البشري في إعتقادهم بأن عقلانية الفرد و أخلاقه تجعله يسلك سلوك نحو الآخر المختلف يرتقي الى مستوى التشريع أي أن يعامل الآخر المختلف بما يحب أن يعامل به هو و هذا هي روح الفكر الليبرالي في سعييها الى إعادة المجتمع البشري الى الفعل الإنساني التلقائي العفوي و هذا ما يجعلنا نسير في ظل إنسانية تاريخية و إنسان تاريخي وفقا لقدرة عقلنا البشري و تجربته في ضمير الوجود.

بالمناسبة من هنا جاءت أفكار ماكس فيبر و هي تبجّل فكر الحضارة الغربية و لا يخفي إفتخاره بتفوقها على الحضارات التقليدية كالهندية و الصينية و الحضارة العربية الإسلامية التقليدية و قال أن الحضارة الغربية فكرها قائم على العقلانية التي لا تظهر لها علامات في الحضارات التقليدية و من ضمنها الحضارة الإسلامية العربية التقليدية.

و هنا يمكننا أن نقارن جهود ثلاثة مفكريين و هم ماكس فيبر و نهرو أب الديمقراطية في الهند و طه حسين عميد الادب العربي. لاحظ ماكس فيبر و كان عالم إحتماع و إقتصادي و مؤرخ غير تقليدي أن سياسات بسمارك أي الإحاكة في الظلام لم تعد تعمل و أن العالم غشته تحولات هائلة في المفاهيم لم يعد معها العقل القديم يعمل.

و من هنا جاءت أفكاره أي ماكس فيبر بالجديد الذي لم تظهر له أي علامات في وسط فكر نخبنا السودانية التي لم تدرك بعد بأن عقلها القديم لم يعد يعمل و قد وصل لمنتهاه كما وصلت من قبل فكرة مدينة الله الى منتهاها و جاءت فكرة النزعة الإنسانية. لذلك إذا إنتبه المثقف السوداني بأن عقلنا القديم المحروس بالوصاية و ممنوع من التفكير لم يعد يعمل لما تلجلج المثقف السوداني في قبول فكرة سودان علماني ديمقراطي حديث و تقني.

و للمرة الثانية إذا إنتبه المثقف السوداني الى عطب عقلنا القديم الذي لم يعد يعمل كما لا حظ ماكس فيبر أن عقل أوروبا القديم لم يعد يعمل لما تعثرت ثورة ديسمبر على يد حمدوك و ابراهيم البدوي و لا شك في أنهما إقتصاديان لا يشق لهما غبار و لكنهما يفتقران لفكرة الشرط الإنساني المتمثل في الفلسفة السياسية إذا ما قارنهما و فكرهما بفكر نهرو و قد كان سياسيا مدرك لفكرة الشرط الإنساني و مدرك للفلسفة الإقتصادية.

لذلك أختار للهند و قرر أن تكون هند ديمقراطية و علمانية و حديثة و تقنية و أقنع بأفكاره المهاتما غاندي الذي كان يحلم بعودة الهند القديمة و هذا كان المنتظر من حمدوك و ابراهيم البدوي أي إقناع النخب السودانية الكاسدة بأن العقل السوداني القديم لم يعد يعمل و لا يمكننا الإتيان بديمقراطية و علمانية بفكر أتباع المرشد الكيزاني و الامام الأنصاري و الختم.

لذلك يمكننا القول أن نهرو يمكن مقارنته بروزفلت و دوره العظيم في إنتشال أمريكا من محنة الكساد الإقتصاد العظيم عام 1929 لأن نهرو كان سياسيا مدرك لفكرة الشرط الإنساني و كان مثقف ملم بالفلسفة الإقتصادية لأنه لم يختار للهند الشيوعية و عندما سئل لماذا لم يختار للهند للشيوعي قال أنه قراء كتاب رأس المال لماركس و لم يجد فيه ما يجعله أن يكون ماركسيا و هذا سبب إختياره العلمانية و الديمقراطية للهند و ليس الشيوعية.

أما روزفلت كان سياسيا و كانت حقبته مفصلية و إنقلاب زمان أما إلمامه بالفلسفة الإقتصادية فيرويه جون ماينرد كينز عندما قابله و تحاور معه في كيفية خروج أمريكا من الكساد الإقتصادي العظيم قال كينز أنه وجد روزفلت ملم بفكرة الشرط الإنساني في فهمه للفلسفة السياسية. و الأغرب من ذلك وجده ملم بالفلسفة الإقتصادية بل كانت أفكار روزفلت الإقتصادية لا تختلف عن أفكار كينز التي قد خرجت في النظرية العامة.
و لهذا أنقذ كل من نهرو و روفلت بلديهما أي الهند و أمريكا. أنقذ نهرو الهند خلال فترة رئاسته للوزراء خلال سبعة عشر عام و بها أسس لنظام ديمقراطي علماني. و أنقذ روزفلت أمريكا من كسادها الإقتصادي العظيم و كليهما قد أدركا بأن العقل القديم في كل من الهند و أمريكا لم يعد يعمل و هذا الذي كنا ننتظره من كل من ابراهيم البدوي و حمدوك و لم يكن.

و السبب ضعفهما و أقصد حمدوك و ابراهيم البدوي بالفلسفة السياسية و فكرة الشرط الإنساني رغم أن تخصصهما في الإقتصاد يجعلهما أقرب لفهم فكرة الشرط الإنساني الذي تحققه فكرة التدخل الحكومي كما نجده في النظرية الكنزية و به و عبره تتحقق فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و عبره تتخلق فكرة الدولة الحديثة التي تتعامل مع الفرد مباشرة وفقا لمعادلاته السلوكية التي تسير على مسار معادلة الحرية و العدالة.

و خاصة بعد إنخراطهما في العمل العام فكان المنتظر منهما أي ابراهيم البدوي و حمدوك أن يقوما بدور كل من نهرو و روزفلت و خاصة أن السودان بعد ثورة ديسمبر قد أصبح في موقع الهند بعد الإستقلال و أمريكا بعد الكساد الإقتصادي العظيم.

المهم في الأمر فيما يتعلق بحمدوك و ابراهيم البدوي ما علينا فلتركهما لحالهما و لنذهب لعميد الأدب العربي طه حسين فما علاقته بماكس فيبر و كنز. طه حسين في كتابه مستقبل الثقافه في مصر أدرك أن عقل مصر القديم لم يعد يعمل أي عقلها الإسلامي العربي التقليدي. لذلك قال بأن مصر لم يعد أمامها حل غير الرجوع لعقلها الإغريقي الروماني و هنا تظهر عظمة طه حسين في إدراكه أن عقل مصر القديم لم يعد يعمل و لا يمكنها الخروج من مأزقها إلا بالرجوع الى عقلها الأغريقي الروماني.

و السبب لأن طه حسين مثل ماكس فيبر يعرف بأن العقل الإغريقي الروماني قد أورث أوروبا العقلانية و لذلك تفوقت الحضارة الغربية على الحضارات التقليدية و من ضمنها الحضارة الإسلامية العربية التقليدية و لذلك لا يمكن لمصر أن تخرج من مأزق الحضارة العربية الإسلامية التقليدية إلا بالرجوع لعقلها الإغريقي الروماني القديم.

و لكن طه حسين لم يكن سياسيا كروزفلت و غاندي لكي ينقذ مصر بل دوره فيما يتعلق بالفكر و قد قدمه بلا خوف و لا وجل و ربما يكون طه حسين قد أدرك بأن مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية قد أصبحت مآل كل البشرية لذلك فلتستثمر مصر في عقلها الإغريقي الروماني لكي تصبح جزء من تاريخ مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية الذي و لأول مرة قد أصبح تاريخ للبشرية كافة و في نظر طه حسين مصر أغرب إليه بحكم ماضيها بل أن عقلها إغريقي روماني.

في الجزء الثاني من هذا المقال سوف أتحدث عن ملاحظة في رأي أنها مهمة و هي ما المدة الزمنية التي يحتاجها فكر عالم الإجتماع و الإقتصادي و السياسي و المفكر الذي يلاحظ بأن العقل القديم لم يعد يعمل؟ و بالتالي يحتاج المجتمع لديناميكية جديدة تعيد إليه فعله الإنساني العفوي التلقائي الذي يعيده لنقاط التوازن الإجتماعي و الإقتصادي.

مثلا فكر ماكس فيبر أحتاج لكي يتضح معناه لحقبة قاربت الثلاثة عقود و هي حقبة أوروبا بين الحربين العالميتين و بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إتضحت فكرة العقلانية في فكر ماكس فيبر و فكره فيما يتعلق بالإقتصاد و المجتمع.

أما كينز فقد إحتاج لأربعة سنوات لكي يقدم تفسير لظاهرة الكساد الإقتصادي العظيم و عبرها قدم نظريته العامة و كما قلنا يمكن ملاحظتها في فعل روزفلت السياسي و قد أحتاج روزفلت لعقد من الزمن لكي يخرج من ظلام الكساد الإقتصادي العظيم رغم ظهور هزات إرتدادية للكساد العظيم إلا أن روزفلت كان مدرك لفكرة الشرط الإنساني و قد نجح في تحقيق فكرة الشرط الإنساني بسياساته الإقتصادية.

أما نهرو في الهند فقد أسس لهند ديمقراطية و علمانية خلال مدة إمتدت لسبعة عشر عام خلال رئاسته للوزراء في الهند. الأكيد عندنا بعد ما رأينا السودان في حربه العبثية بين الجيش الكيزاني و صنيعته الدعم السريع فقد تأكد لنا أن العقل السوداني القديم لم يعد يعمل و تأسيس عقل جديد في السودان يتكئ على العقلانية و فكرة الشرط الإنساني يحتاج لما يقارب العقدين من الزمن و لا يكون إلا تحت سياسي يدرك فكرة الشرط الإنساني كما كان نهرو في الهند و سياسي مدرك لفكرة الشرط الإنساني و يستطيع إنزالها بفهمه للفلسفة الإقتصادية كروزفلت في زمن الكساد الإقتصادي العظيم.

و هذا السياسي المدرك لفكرة الشرط الإنساني نادر ندرة الكبريت الأحمر وسط النخب السياسية السودانية الكاسدة و الدليل على كسادها أنها لم تدرك بعد أن عقلنا القديم لم يعد يعمل.

و عليه وصيتي أننا نحتاج لعقل سياسي جديد يدرك أن لأول مرة قد أصبح تاريخ الإنسانية تاريخ لكافة البشرية في ظل عالم أصبحت أحداثه متسارعة بل يتخلق ليولد من جديد لكي تصبح الثورة الصناعية هي قاسم مشترك لمجتمعات ما بعد الثورة الصناعية رغم أننا في السودان لم نتوفق بعد في نقل أي تجربة صناعية إلا أننا جزء من بشرية مجتمعاتها تميزها صفة مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..