
علاء خيراوي
ليست هذه المرة الأولى التي يتلاعب فيها حكّام الأمر الواقع بمصير السودان لكنها المرة الأشد خطراً منذ أن رُسمت حدود هذا الوطن.
أن تُقدِم سلطة انقلابية بلا شرعية، جاءت على فوهة البندقية، على الاعتراف بسيادة دولة أخرى على أرض سودانية خالصة، هو فعل لا يرقى إلى الخطأ السياسي، بل إلى الخيانة الوطنية الموصوفة في كتب الدساتير والقوانين منذ العقود الاولي لنشوء الدولة الحديثة.
الأرض هنا ليست مجرد تراب، بل سجلّْ دماء وأرواح ضحّت عبر التاريخ، من المهدية، إلى جبهات المقاومة والتحرير، إلى المقاومة المدنية الحديثة، وأن يجرؤ مجلس سيادي مؤقت لم ينتخبه الشعب على محو هذه الصفحة وتسليمها في صفقة سياسية يعني أنه لا يتحدث باسم الأمة بل باسم مصالحه الضيقة وصفقاته الخفية.
هذه ليست تسوية حدودية، بل بيع علني لجزء من الجسد السوداني في سوق السياسة الإقليمية بثمن بخس لا يساوي حفنة رمال من شواطئ البحر الأحمر. والأخطر أن هذه الخطوة تأتي في لحظة ضعف مدروسة حيث الانقسام الداخلي والحرب العبثية وفوضى الإقليم لتمرير ما لم يجرؤ عليه حتى المستعمر الأجنبي، والسكوت على ذلك ليس حياداً بل مشاركة في الجريمة.
ما جرى ليس مجرد خطوة عابرة في ملف نزاع حدودي بل فعل سياسي جسيم يرقى إلى التفريط المباشر في أرض سودانية بقرار صادر عن مجلس سيادي انقلابي لا يملك شرعية انتخابية ولا تفويضاً شعبياً لاقتطاع شبر واحد من تراب الوطن أو الاعتراف بسيادة الغير عليه.
الحديث هنا عن مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد أرض سودانية الهوية والسيادة وفق الوثائق التاريخية منذ العهد العثماني والتي احتلتها مصر بالقوة العسكرية منذ منتصف التسعينيات مستفيدة من محاولة اغتيال حسني مبارك التي اتُّهم نظام الخرطوم وقتها بالضلوع فيها، ورغم كل ما جرى ظل الموقف السوداني الرسمي حتى في أضعف لحظاته متمسكاً بالحق التاريخي والقانوني ومطالباً بالتحكيم الدولي وهو ما كانت القاهرة ترفضه دوماً، لكن اليوم يأتي هذا الاعتراف المزعوم ليحوّل الاحتلال إلى شرعية مكتوبة وليمسح أي أمل في مسار قانوني مستقبلي.
هذا الاتفاق، إن صدقت التقارير المبذولة عنه، لا ينفصل عن سجل سلطة بورتسودان المخذئ في الإضرار بالوطن من قمع الداخل وإدارة الحرب بدلاً من إيقافها وتصفية مؤسسات الدولة الوطنية إلى إغراق البلاد في عزلة دبلوماسية واقتصادية خانقة. والآن يمتد العبث إلى التخوم حيث تتحول حدود السودان إلى أوراق مقايضة في صفقات لا يعلم الشعب عن تفاصيلها شيئاً ولا يُستشار فيها برلمان ولا تُعرض على استفتاء.
لهذا الاتفاق المجحف في حق الارض والشعب مخاطر ثلاثة؛
أولاً، خطر التفريط في الأرض، بإعطاء مصر اعترافاً ملزماً سيُستخدم ضد السودان في أي محفل دولي.
ثانياً، خطر الإضرار بالموقف التفاوضي البحري، إذ تُضعف هذه الخطوة قدرة السودان على حماية حدوده البحرية ومياهه الاقتصادية أمام السعودية ودول البحر الأحمر.
ثالثاً، خطر تكريس الحكم غير الشرعي، فسلطة الأمر الواقع تؤسس لقاعدة أن الانقلابات تستطيع بيع الأرض والحدود بلا حسيب أو رقيب.
ومن يفرّط اليوم في حدود البلاد لا يعبث فقط بالجغرافيا بل يخرق مبدأ عدم جواز التنازل عن الإقليم دون تفويض شعبي وهو مبدأ راسخ في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، إذ لا يملك أي نظام غير منتخب أو سلطة أمر واقع شرعية التصرف في الأرض أو تعديل حدود الدولة.
ورغماً عن خطورة الآتفاق الا ان السيادة ستظل ملكاً حرّاً وحكراً للأمة لا للحاكم وأي اتفاق يتم خارج إرادة الشعب باطل قانوناً ويُعدّ لاغياً حتى لو وُقّع أو أُودع في الأرشيف الدولي، ولذا فإن اعتراف سلطة الانقلاب بسيادة دولة أخرى على أي جزء من السودان ليس سوى ورقة سياسية بلا قوة إلزامية أمام محكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن إذا ما قررت الأمة استعادة حقها، فالأرض لا تسقط بالتقادم والشعوب التي تملك إرادتها قادرة على إبطال كل ما تم باسمها زوراً، واسترداد كل ما سُلب منها مهما طال الزمن.
ليظلّ أيّ اتفاق ينتزع السيادة من يد الشعب هو اتفاق باطل وأي حاكم يوقّع على بيع الأرض باسم السودان وهو بلا تفويض من الأمة إنما يوقّع على وثيقة عار ستطارده في التاريخ وفي وجدان الأجيال.
هذا الاتفاق إن نُفّذ لن يكون مجرد ورقة بين الخرطوم والقاهرة، بل سيكون جرحًا مفتوحًا في قلب الوطن ووصمة لا تُغتفر في جبين من خانوا السيادة والتي سوف تظلّ بعيدة كل البعد من ان تكون منحة من انقلاب ولا سلعة في أسواق السياسة، بل حق أصيل للأمة لا يسقط بالتقادم ولا يُباع بالمساومة ومن يظن أن الشعب السوداني سيلزم الصمت أمام بيع ترابه لم يقرأ تاريخ هذا الشعب، وأن من يتجاوزه إنما يضع نفسه في مواجهة أمة بأكملها أمة لا ترحم حين تُستباح أرضها ولا تتراجع حتى تسترد حقها كاملاً .
[email protected]
ارجو اعادة تحرير هذا المقال حتى يصبح مفهوما .. توجد فيهو مشكلة . يبدو ان اللخبطة حدثت عند ارساله ولم يراجع .