أخبار متنوعة

فضيحة المفوضحين.. “أنغاليفو”… حكاية وطنٍ يبيع كل شيء حتى صمته

 

في ركنٍ منسيّ من حديقة الحيوانات القديمة بالخرطوم، كان يقف وحيدًا، صامتًا كمن أدرك كل شيء. كان ضخمًا كصخرة في وجه النسيان، وعيناه لا تزالان تُطالعان المكان نفسه منذ سنين، كأنها تفتّش عن قطيعٍ مضى، أو عن معنىً فُقد ذات رحلة.

كان اسمه “أنغاليفو”، وحيد قرن أبيض شمالي، جاء من الجنوب في عمر العامين، أُسر صغيرًا وانتُزع من قطيعه، ووُضع في قفص من حديد لا يُشبه شيئًا من السافانا التي وُلد فيها. هناك، خلف تلك القضبان، أمضى 18 عامًا من عمره في حديقة حيوانات الخرطوم.

 لا يزوره أحد، ولا يسمع عنه أحد، سوى أولئك العابرين الذين ما عادوا يرون في الحيوان أكثر من صورة باهتة لطفولة ضائعة.

كان قويًا في جسده، لكنه انكسر من الداخل مبكرًا. اعتاد على الوحدة، على الصمت، على أن يكون خلف السياج، فيما الناس في الخارج يركضون نحو مصائرهم وهم يهلّلون لحروب لا تنتهي.

لم يكن يعرف أن الحرب التي أنهكت الناس، هي نفسها التي أنهكته؛ إذ خُنقت الحديقة كما خُنقت البلاد.

انقطع التمويل، وجفّت الموارد، وصارت الحيوانات تتضور جوعًا، كما يتضوّر البشر جوعًا في أطراف المدن.

 قال لي أحد المسؤولين عن الحديقة حينها:

“لم تعد تذاكر الدخول تكفي حتى لإطعام الأسود، والمالية ترفض تمويلنا، والولاية تتبرأ منا، ووزارة الداخلية لا تعترف بنا… الحيوانات تموت ببطء، ولا أحد يهتم”.

وكان أنغاليفو واحدًا من هؤلاء الجوعى.

في صيف الخرطوم عام 1990، في زمنٍ امتلأت فيه المدينة بالجنود والشاحنات والأناشيد، كانت شاحنة صدئة تقف عند بوابة الحديقة. لا جمهور يودّع، لا أطفال يلوّحون، لا دمعة في عين أحد. فقط جنود بوجوه جامدة، وعمال ينقلون الأقفاص كأنهم ينقلون خردة لا حياة فيها. وفي أحد الأقفاص كان أنغاليفو يقف، ينظر من بين القضبان إلى المدينة التي سُرقت منه، كما سُرق هو منها.

تحركت الشاحنة، واهتز القفص على الإسفلت، بينما كان الهواء الساخن يصفع وجهه الرمادي. لم يكن يعرف أن تلك الرحلة لن تُعيده أبدًا. لم يكن يعلم أنه يُغادر، كما غادر قبله الناس والطيور والكتب.

يغادر ليضيع في المنافي، كما ضاع كل شيء.

كانت الخرطوم آنذاك منشغلة بـ”الجهاد”، بالشعارات التي تحوّل الموت إلى نصر كاذب، والصمت إلى عبادة. وفي ظل ضجيج البنادق، لم يسمع أحد صوت القفص الذي أُغلق على أنغاليفو إلى الأبد. حديقة الحيوانات التي تأسست عام 1901، وشهدت أجيالاً من السودانيين وهم يتعرفون على الأسود والزرافات والفِيَلة، أُغلقت بأمر من “الجبهة الإسلامية”. صارت الحيوانات تُباع كما تُباع الأراضي والأنهار.

كان البيع إلى ليبيا، كما قيل، جزءًا من صفقة لا يعرف أحد بنودها، لكنها أنهت قرنًا من التاريخ في ساعات.

لم يرَ القوم في ذلك خسارة، فهم الذين باعوا كل شيء؛ باعوا الأرض، واقتلعوا الأشجار، وخرّبوا الآثار، فكيف يعجزهم بيع  وحيد قرن؟

غابت أخبار أنغاليفو بعدها.

لم يعد أحد يسأل عنه، ولم تعد الصحف تذكر اسمه، كما لم تذكر أسماء أقرانه من الحيوانات التي حملتها الطائرات إلى أراضٍ لا نعرف عنها شيئًا. حتى جاءت تلك الفضيحة التي عرّت كل شيء: “أسود حديقة القرشي” تموت جوعًا، تُنقل خلسة، عبر الطائرات وتختفي، ومعها سيرتها في قلوب الناس.

لكن “أنغاليفو” عاد أيضًا.

 عاد كذكرى جارحة في خبرٍ نُشر قبل أيام، بعد 11 عامًا على وفاته، عاد ليحكي ما لم يُحكَ، ليُذكّرنا بأننا لا نُحسن حتى الحزن، فبعد أن سيطر أصحاب اللحى والجلابيب البيضاء على مقاليد السلطة، وطفقوا يبحثون عن المال تذكروه وأعلنوا أنهم سيرفعون دعوى ضد حديقة الحيوانات التي استضافته لخمس سنوات محاولة أن تداوي أمراضه، وسعت لإنهاء وحدته، وبلا شك هم يعلمون أنه قد فارق الحياة منذ العام 2014، لكن لا بأس من البحث في رفاته عن بعض الدولارات.

من هو أنغاليفو؟

كان أنغاليفو واحدًا من فصيلة وحيد القرن الأبيض الشمالي، نوعٌ لم يبقَ منه إلا القليل. عند وفاته في 14 ديسمبر 2014، لم يكن قد تبقى في العالم سوى ستة، اثنان فقط من الذكور، وكان هو الذكر الوحيد في القارة الأمريكية، يعيش في حديقة سفاري سان دييغو، بعد أن انتُزع من الخرطوم في صفقة لم يُفصح عنها أحد، ولم تكتب عنها الصحف إلا السبت الماضي.

وُلد في البرية حوالي عام 1968، وأُسر صغيرًا، ثم نُقل إلى حديقة حيوان الخرطوم.

 وفي أغسطس 1990، أُعير إلى الولايات المتحدة، حيث عاش هناك حتى وفاته الطبيعية بعد 46 عامًا.

وراء الأسوار… قصة انقراض

وحيد القرن الأبيض الشمالي كان يعيش في شرق ووسط إفريقيا. انقرض تقريبًا بسبب الصيد الجائر. في عام 2009، حاولت حديقة حيوان “دفور كرالوفي” في التشيك إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فأرسلت أربعة أفراد إلى محمية في كينيا، حيث يوجد “سودان” وهو الذكر الآخر من هذه الفصيلة على أمل أن يساعدهم المناخ الطبيعي على التزاوج. لكن الأمور لم تنجح.

أما أنغاليفو فقد كان عاجزًا عن التزاوج بسبب تقدمه في السن. حاول الأطباء أخذ عينات من سائله المنوي على أمل استخدامها لاحقًا في تقنيات التلقيح الصناعي، لكن المحاولات فشلت، كما فشلت محاولات الحفاظ عليه في موطنه الأول.

أنغاليفو ليس مجرد وحيد قرن، هو مرآة لوطن باع كل شيء. قصة وطنٍ فرّط في التاريخ، في الذاكرة، في الكائنات التي سكنت حدائقه وحدوده، وباعها، بلا حزن، بلا وداع، بلا خجل.

موته لم يُحزن الخرطوم، لم تهتز له صحيفة، ولم يُذكر في نشرة أخبار.

العالم بكى عليه، ونحن كنا مشغولين بأكاذيب المجاهدين، والشجر الذي يكبر، والشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

أنغاليفو خرج من السودان صامتًا، وعادت سيرته – بعد موته – فضيحة داوية. عارٍ على من باعه، على من يحاول أن يتاجر برفاته الآن، وعلى من نسيه، على من لا يزال حتى اليوم يبيع ويُسكت، ينهب ويخطب، يدّعي الدين ويأكل من جوع الحيوانات، لكن المأساة الكبرى لم تكن موته، بل خروجه من السودان.

في عام 1990، كانت الخرطوم مشغولة بتفويج شبابها إلى محارق الجنوب، ترفع أناشيد الحرب في كل شارع، وتنصب سرادق الموت في كل حي. وفي خضم هذا الجنون، قررت حكومة الجبهة الإسلامية إغلاق حديقة الحيوان العريقة، ضمن صفقة مع الحكومة الليبية. ولكن المأساة أن عودة سيرته كانت في الأجواء ذاتها إن لم تكن أفظع وكأن لعنة “أنغاليفو” قد أصابت من مكروا به، فالفندق الذي احتل مكان حديقة الحيوانات تحول إلى أطلال، والرجل الذي قاد صفقة البيع مختبئ، لا يعلم أحد مكانه، ووزير عدل حكومة الحرب يسرب للمواقع الإخبارية يقول ما نصه “أعلنت وزارة العدل السودانية عن بدء إجراءات رفع دعوى تعويضية ضد حديقة سان دييغو سفاري بالولايات المتحدة، للمطالبة بحقوق السودان في وحيد القرن الأبيض الشمالي النادر “أنغاليفو”، أو الحصول على تعويض عنه”.

أفق جديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..