صفقة السكر بين السودان وشركة “رائج” السعودية: شراكة استراتيجية أم خدعة لبيع الأصول؟

مهدي داود الخليفة
في خضم أزمة وطنية شاملة يعيشها السودان، وفي ظل عجز الدولة عن تمويل متطلبات الإنتاج بسبب انشغالها باقتصاد الحرب، خرجت علينا الحكومة السودانية في نهاية يوليو 2025 بإعلان غريب عن توقيع مذكرة تفاهم مع شركة سعودية تُدعى “رائج” لتأهيل وتحديث مصانع السكر الحكومية.
وُصفت الصفقة بأنها “شراكة استراتيجية”، لكن الحقيقة التي تفرضها الوقائع تشير إلى احتمال أنها ليست سوى خدعة جديدة لبيع أصول الدولة في غياب الشفافية والمهنية، ووسط ظروف اقتصادية مأساوية تفتقر فيها البلاد لأي قدرة تفاوضية حقيقية.
من هي شركة “رائج”؟
بحسب المعلومات المتاحة من السجل التجاري السعودي:
الاسم: شركة رائج لتنظيم المعارض والمؤتمرات
التخصص المُعلن: علاقات عامة، تسويق، تنظيم فعاليات
تاريخ التأسيس: 4 يناير 2023
رأسمال الشركة: 40,000 ريال سعودي فقط (حوالي 10,500 دولار أمريكي)
النشاط الصناعي: غير موجود
الخبرة في صناعة السكر: صفر
السؤال الجوهري هنا: هل تحقق السيد جاد الرب خالد، المدير العام لشركة السكر السودانية، من هذه الخلفيات قبل التوقيع؟
وهل السيد أحمد بن حسن السهلي، الذي تصدر نشرات الاتفاق، مستثمر جاد أم مجرد واجهة لصفقة غامضة؟
قبل فترة، وخلال أجواء الفترة الانتقالية، ظهر وفد يزعم أفراده أنهم رجال أعمال سعوديون جاءوا يبشرون السودان بمشروعات استثمارية كبرى. لكن الحقيقة انكشفت سريعًا، إذ أكدت السفارة السعودية أنهم ليسوا سعوديين على الإطلاق، بل سودانيون ارتدوا العقال والعباءة في مشهد استعراضي تلفزيوني يفتقر إلى الحد الأدنى من الاحترام للبلاد.
وقد تردّد لاحقًا أن أحد هؤلاء كان مواطنًا من منطقة الحاج يوسف، اشترى زيه الخليجي أثناء زيارة شخصية للسعودية، ثم عاد ليتقمص أمام الكاميرات دور رجل الأعمال السعودي، جالسًا على طاولة رسمية مع أعضاء المجلس السيادي.
إن الحديث عن تحديث مصانع السكر في السودان ليس ترفًا، بل قضية أمن غذائي واقتصاد وطني.
هذا القطاع الحيوي، الذي تأسس في السبعينات خلال فترة حكومة مايو، خضع في الثمانينيات لتجربة تحديث حقيقية تحت رعاية وزير الصناعة الأسبق السيد مبارك المهدي و بقيادة خبراء سودانيين وعلى رأسهم الاقتصادي بدر الدين هباني المسؤل التنفيذي عن تحديث قطاع السكر ، وبدعم من البنك الدولي.
وكانت النتيجة: رفع الطاقة الإنتاجية من 150 ألف طن إلى أكثر من 450 ألف طن. تطوير خطوط الإنتاج، والريّ، والطاقة. بناء قاعدة من الكوادر الفنية السودانية المؤهلة. مثلت تلك التجربة بمقاييس الدول المتقدمة نجاحًا كبيرا لأنها اعتمدت على تمويل مؤسسي، دراسات جدوى، وتعاون مع بيوت خبرة صناعية عالمية. فهل يعقل أن تتم مقارنة تلك التجربة الجادة بشركة علاقات عامة أنشئت قبل عام، ولم تنتج قطرة سكر واحدة؟
للأسف، في ظل انشغال الدولة بالحرب، يجد البعض في أصول السودان صيدًا سمينًا، يساعدهم في ذلك فنيون قليلو التأهيل وعديمو الخبرة في مواجهة ألاعيب التماسيح، ممن يُجيدون التلاعب بالمفاهيم الاستثمارية لتبرير الخصخصة المقنّعة. الصفقة الموقعة تخالف بوضوح:
قانون الإجراءات المالية والمحاسبية (2007): المادة 7(1): تمنع التصرف في ممتلكات الدولة دون موافقة وزارة المالية والتقييم الفني
المادة 27: تشترط دراسة جدوى وموافقة رقابية قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص (2021): يفرض مناقصة علنية، تقييم فني مستقل، لجنة شراكة، ونشر العقد النهائي أين هي هذه الشروط؟ وأين وزارة المالية؟ وأين الجهاز القومي للاستثمار؟
كل المؤشرات تدل أن ما يجري هو محاولة للاستحواذ على أصول الدولة في الظلام. صفقة “رائج” تبدو أقرب إلى شكل من أشكال الخصخصة المقنّعة أو “البيع الرمادي” لمصانع الدولة، بعيدًا عن الأطر القانونية والدستورية. لا توجد مناقصة، ولا دراسة جدوى منشورة، ولا تقييم فني مستقل. كما أن غياب التمويل الحقيقي والنية الإنتاجية يثير مخاوف حقيقية من أن يكون الهدف هو السيطرة على أصول الدولة أو استغلالها لتمرير أجندات سياسية. في ظل استمرار صادرات الذهب والصادرات الزراعية، السودان لم يكن مضطرًا لعقد صفقات مشبوهة مع شركات علاقات عامة. الحكومة كان بإمكانها أن: تخصص جزءًا من عائدات الذهب لتحديث قطاع السكر تطرح مناقصة عالمية أمام شركات متخصصة تؤسس صندوقًا وطنيًا لدعم الصناعات الغذائية تتعاون مع الجامعات السودانية والمراكز البحثية لتأهيل الكوادر وابتكار حلول صناعية إن صفقة “رائج” ليست سوى علامة إضافية على عمق الانحدار المؤسساتي في البلاد، وخطورة الطريق الذي يُدفع السودان إليه: بيع الأصول الوطنية باسم الشراكة، واستغلال الفوضى لتفكيك ما تبقى من القطاعات الإنتاجية.
المطلوب الان :
* تجميد الاتفاق فورًا حتى انتهاء التحقيق القانوني والفني في خلفيات الشركة
* مطالبة السفارة السعودية بتوضيح رسمي بشأن هوية من شاركوا في توقيع الاتفاق، وما إذا كانت الشركة ضمن الاستثمارات السعودية المعتمدة.
ان إنقاذ قطاع السكر لا يكون عبر التهليل لرجال أعمال بلا سجل، ولا بالتوقيع مع شركات بلا مصانع. بل بوطنية حقيقية، وعقول خبيرة، وإرادة سياسية تعرف قيمة الصناعة، وتحترم عقول الشعب.