عبدالله على إبراهيم: حين يرقص المثقف على إيقاع المدفع!

دكتور الوليد آدم مادبو
*“السلطة في بلادنا كالماء المالح، كلما شربت منه ازددت عطشًا.”*
— الطيب صالح
في لحظات التاريخ الحاسمة، يتكشّف معدن المثقف كما يتكشف معدن السياسي. هناك من يقف في صف المستضعفين ولو جرّده ذلك من كل نفوذ، وهناك من يختار الانحياز إلى حيث تظل السلطة واقفة، حتى وإن كانت على ركام المدن (الرسم التشكيلي أعلاه للفنان إبراهيم الصلحي).
في ذلك الزمن الذي سبق الانفجار الكبير، ذهبتُ بنفسي إلى بيت عبدالله علي إبراهيم في الحاج يوسف، أيام حملته الانتخابية المترنحة، بينما كانت الساحة السياسية تضج بتشاكس مناوي مع الحكومة. لم يكن المشهد مجرد زيارة شخصية، بل اختبارًا لرجل طالما قدّم نفسه بوصفه صوتًا نقديًا، وحارسًا لذاكرة السودان الفكرية.
حملتُ في ذهني أسئلة عن قربه من المجرم علي عثمان، وعن ابتعاده عن الحركات الثورية، التي لم يكن قد تكشف إجرامها بعد، رغم خلفيته اليسارية التي يُفترض بها أن تحمله نحو المستضعفين بلا قيد. *كيف لرجل خبر أدبيات النضال أن يتجاوز وجوه الذين طحنهم ظلم السلطة؟* أردت أن أفهم: هل هي واقعية سياسية، أم انحراف عن البوصلة الأخلاقية، أم شيء أعمق يتجاوز السياسة إلى البنية النفسية والاجتماعية؟ كنت أبحث عن تبرير، لا عن إدانة مسبقة.
لكن الإجابة جاءت على نحو لم أكن أتوقعه، لا من رجل في مقامه ولا من مثقف يزعم الترفع عن ضيق الانتماءات: *“جنًّا تعرفه ولا جنًّا ما تعرفه”. جملة قصيرة، لكنها كانت كافية لتعرّي طبقات كاملة من تفكيره.* لم تكن عبارة عابرة، بل كانت تلخيصًا لمبدأ انتماء يقوم على الدم والجهة، مبدأ يضع الانتماء المكاني قبل الانتماء للقيم. لحظتها، شعرت أنني لا أستمع إلى مثقف نقدي، بل إلى قائد عنصري يوزع الولاءات على أساس الخرائط البشرية.
ولذا، فلم أستغرب إنحياز ذلك “الجُلك” لاحقًا إلى البرهان في لحظة كانت البلاد تحتاج فيها من مثقفيها أن يرفضوا عسكرة السياسة. لقد كان ذلك الانحياز، في جوهره، استمرارًا لقناعة جهوية ترى أن أبناء الشريط الممتد من عطبرة إلى الجيلي هم الأقدر على الحكم، سواء أكان ذلك “قدراً” أم صناعة سياسية محمية بالقوة. *إنها رؤية تحصر السودان في حزام سلطوي ضيق،* وكأن بقية البلاد مجرد حواشٍ جغرافية تُستدعى فقط عند الحاجة إلى الوقود البشري.
هذا النمط من التفكير ليس وليد لحظة أو نتيجة موقف سياسي منفرد، بل هو امتداد لسردية قديمة صنعتها النخب المركزية: أن الحكم حق طبيعي لأبناء “الشريط النيلي”، وأن كل ما عداها قابل للتهميش أو الإدارة من علٍ. في مثل هذه الرؤية، لا تعني العدالة أكثر من كونها ترتيبات تحفظ الهرم القائم، ولا تعني الثورة أكثر من كونها تعديلًا في المقاعد الأمامية.
لقد فهمت حينها مغزى ما قاله لي حيدر إبراهيم يوم ذهبت أتوسط بينهما: “يا وليد، عبدالله رجل من جوّه ما نضيف”. لم يكن يقصد الإهانة الشخصية، بل توصيف العطب الأخلاقي الذي يجعل صاحبه غير قادر على رؤية الآخر إلا عبر مرآة مشوهة. ذلك العطب يتخفى أحيانًا في لغة أكاديمية رفيعة أو في مجاز شعري جذاب، لكنه يظل متصلًا بجذر واحد: *الخوف من المساواة الحقيقية بين أبناء الوطن.*
ولا عجب أن تنهزم هذه العقلية أمام امتحان الحرب. فهي، وإن تزيّت بخطاب يساري أو قومي، تحمل في جوهرها حسًا إقطاعيًا لا يرى في السلطة مشروعًا لخدمة الجميع، بل ملكية خاصة ينبغي الدفاع عنها ضد “الطارئين على التاريخ ”. من هنا، يمكن فهم كيف يستعير عبدالله استعارات مثل “التانغو” ليصف حربًا تمزق المدن، وكأنها عرض فني يمكن التلذذ بإيقاعه، بينما هو في الواقع صخب المدافع وصرخات الأمهات (راجع مقالة إبراهيم برسي: عبدالله علي إبراهيم… المثقف الذي جعل الحرب لحنًا لرقصته).
*إن خطورة هذا الموقف ليست في شخص عبدالله وحده، بل في أنه يعكس بنية فكرية متجذرة بين كثير من مثقفي المركز، حيث يلتقي الامتياز الجهوي مع البلاغة الأدبية ليصنعا غطاءً ناعمًا لعنف الدولة.* هؤلاء يظنون أنهم حماة الوعي، بينما هم في الحقيقة حراس البوابة الخلفية — بعد أن تهدمت تلكم الأمامية — التي تمنع انتقال السلطة إلى هوامش البلاد. إنهم يعيدون إنتاج المعادلة نفسها التي حوّلت الجيش إلى وصي على السياسة، وحوّلت الحرب إلى أداة “لإعادة ترتيب البيت” بدلًا من أن تكون جرس إنذار لانهياره.
لهذا، فإن مواجهة هذه العقلية تبدأ من فضحها، لا باعتبارها انحيازًا سياسيًا فحسب، بل باعتبارها خللاً في منظومة القيم. *فالثورة التي لا تقتلع الجذر الجهوي من خطاب المثقف، ولا تفكك تحالف الامتياز مع السردية السلطوية، ستلد من جديد نفس الوجوه التي ثارت عليها.* إن السودان لن ينجو بالرقص على إيقاع المدفع، ولا بالتمسك بخرائط الولاء القديمة، بل فقط حين يُعاد تعريف الحكم باعتباره خدمةً لا امتيازًا، ومواطنةً لا ميراثًا. عندها فقط يمكن أن نغلق باب الدائرة التي ظل أمثال عبدالله يدورون فيها منذ عقود، ونفتح نافذة على وطن يرى نفسه بكل ألوانه، لا بلون واحد ينعكس في مرآة ضيقة.