مقالات سياسية

الحزب الشيوعي السوداني والانقسام المدني: تحليل المواقف منذ ثورة ديسمبر وحتى حرب أبريل

1. المقدمة: ثورة ديسمبر – وحدة الميدان وتصدعات المنصات السياسية

شكلت ثورة ديسمبر ٢٠١٨ لحظة تاريخية فارقة في السودان، حيث توحدت جموع الشعب السوداني في الشوارع والميادين تحت شعارات “حرية، سلام، وعدالة”، مُجسدةً إرادة جمعية نادرة لإسقاط نظام استمر لثلاثة عقود. هذه الوحدة الميدانية، التي تجلت في أبهى صورها خلال اعتصام القيادة العامة، كانت القوة الدافعة التي أجبرت النظام على السقوط. إلا أنه تحت سطح هذه الوحدة الجماهيرية، كانت التصدعات الأيديولوجية والسياسية بين مكونات النخبة المدنية قد بدأت بالظهور مبكراً.

قاد الحراك الثوري تحالف واسع عُرف بـ “قوى إعلان الحرية والتغيير” (قحت)، والذي ضم طيفاً متنوعاً من الكيانات شمل تجمع المهنيين السودانيين، وتحالف قوى الإجماع الوطني (الذي كان الحزب الشيوعي جزءاً محورياً منه)، وقوى نداء السودان، والتجمع الاتحادي. ورغم أن هذا التحالف نجح في تعبئة الشارع وقيادة التفاوض الأولي، إلا أن الخلافات حول استراتيجية المرحلة الانتقالية، وتحديداً طبيعة العلاقة مع المكون العسكري الذي استولى على السلطة، سرعان ما تحولت إلى انقسامات عميقة.

يطرح هذا التقرير تحليلاً معمقاً لمواقف الحزب الشيوعي السوداني، كأحد أبرز الفاعلين التاريخيين في المشهد السياسي، منذ انطلاقة الثورة وحتى اللحظة الراهنة التي أعقبت اندلاع حرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣. ويسعى التقرير للإجابة على إشكالية محورية: كيف تطورت المواقف المبدئية للحزب الشيوعي، وما هو أثرها على وحدة القوى الثورية المدنية؟ وهل ساهمت مواقفه، في مراحل مفصلية، في تعميق الشرخ الذي أصاب الجسد المدني وأضعفه في مواجهة التحديات الجسيمة التي عصفت بالبلاد؟

لفهم مسار هذا الانقسام، يقدم الجدول التالي خارطة طريق زمنية لأبرز نقاط الاختلاف بين الحزب الشيوعي وبقية القوى المدنية التي شكلت لاحقاً “تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)”.

جدول 1: التسلسل الزمني لنقاط الاختلاف الرئيسية بين الحزب الشيوعي وقوى الحرية والتغيير/تقدم (٢٠١٩-٢٠٢٤)

الحدث/التاريخموقف قوى الحرية والتغيير/تقدم ومبرراتهموقف الحزب الشيوعي ومبرراتهالأثر الملحوظ على الوحدة المدنية
توقيع الإعلان الدستوري (أغسطس ٢٠١٩)قبول الشراكة مع المكون العسكري كضرورة واقعية لتأمين الانتقال وتجنب الصدام.

رفض الشراكة واعتبارها “وثيقة معيبة” تشرعن وجود “اللجنة الأمنية” للنظام البائد في السلطة.

بداية التمايز الاستراتيجي بين نهج “التسوية الواقعية” ونهج “القطيعة الثورية”.
اتفاق جوبا للسلام (أكتوبر ٢٠٢٠)اعتباره إنجازاً ينهي الحروب ويضم الحركات المسلحة للمسار الانتقالي.

انتقاده كـ”اتفاق محاصصة” يكرس وجود الميليشيات ويزيد من تعقيدات المشهد الأمني دون معالجة جذور الأزمة.

تعميق الخلاف حول كيفية تحقيق السلام الشامل.
انسحاب الشيوعي من قحت (نوفمبر ٢٠٢٠)اتهام الحزب الشيوعي بالتعنت ومحاولة فرض رؤيته على التحالف.

اتهام مكونات في “قحت” بعقد اتفاقات سرية والتخلي عن أهداف الثورة وتبني سياسات صندوق النقد الدولي.

أول انشقاق رسمي كبير يضعف “قحت” كحاضنة سياسية موحدة للحكومة الانتقالية.
انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١إدانة الانقلاب والدعوة لمقاومته، مع بدء البحث عن مخرج سياسي.

اعتباره نتيجة حتمية لمسار الشراكة الخاطئ منذ البداية، والدعوة لإسقاطه الكامل دون تفاوض.

توحد الشارع مؤقتاً ضد الانقلاب، لكن الخلاف حول كيفية مواجهته (تسوية أم إسقاط) ظل قائماً.
الاتفاق الإطاري (ديسمبر ٢٠٢٢)اعتباره خطوة ضرورية لإنهاء الانقلاب واستعادة المسار المدني الديمقراطي.

رفضه بشكل قاطع ووصفه بـ “اتفاق إذعان” يعيد إنتاج الأزمة ويشرعن للانقلابيين والدعم السريع.

ترسيخ الانقسام بين معسكرين مدنيين: “التسوية السياسية” (قحت) و”التغيير الجذري” (الشيوعي).
اندلاع حرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣إدانة الحرب والدعوة لوقفها، وتشكيل جبهة مدنية مناهضة للحرب (“تقدم”).

إدانة طرفي الصراع (الجيش والدعم السريع) واعتبارهما وجهين للثورة المضادة، ورفض الاصطفاف مع أي منهما.

تباين في تحديد طبيعة الصراع والمسؤولين عنه، مما أثر على إمكانية تشكيل موقف مدني موحد.
تأسيس “تقدم” (أكتوبر ٢٠٢٣)

بناء أوسع تحالف مدني ديمقراطي لإنهاء الحرب واستعادة الحكم المدني.

رفض المشاركة بسبب “التباين الواسع في الرؤى” واستمرار “تقدم” في نهج “الهبوط الناعم” والتسويات.

ظهور كتلتين مدنيتين رئيسيتين مناهضتين للحرب لكن برؤى مختلفة (“تقدم” و”التغيير الجذري”).
إعلان أديس أبابا (يناير ٢٠٢٤)

توقيع اتفاق مع الدعم السريع كخطوة عملية لوقف العدائيات وحماية المدنيين.

إدانته بشدة واعتباره “اتفاقاً سياسياً” يمنح الشرعية للدعم السريع ويكرس الشراكة مع الميليشيات ويتجاوز مبدأ المحاسبة.

ذروة القطيعة السياسية بين الحزب الشيوعي و”تقدم”، وتعميق الاتهامات لـ”تقدم” بالانحياز لأحد طرفي الحرب.
انقسام “تقدم” (فبراير ٢٠٢٥)

انقسام التحالف إلى “صمود” و”تأسيس” بسبب الخلاف حول تشكيل حكومة موازية بالتحالف مع الدعم السريع.

اعتباره دليلاً على صحة موقف الحزب من خطورة التحالف مع أي من طرفي الحرب.إثبات أن الخلافات حول العلاقة مع القوى المسلحة كانت هيكلية داخل القوى المدنية ولم تكن مقتصرة على موقف الحزب الشيوعي.

2. الفترة الانتقالية الأولى (٢٠١٩ – ٢٠٢١): جذور الخلاف حول “الشراكة” و”التغيير الجذري”

لم يكن الانقسام الذي شهده المسار الانتقالي وليد اللحظة، بل إن جذوره تمتد إلى الأيام الأولى التي تلت سقوط نظام البشير، وتحديداً حول السؤال الجوهري: كيف يتم التعامل مع المؤسسة العسكرية والأمنية التي ورثت السلطة؟ لقد شكل هذا السؤال نقطة الافتراق الأساسية بين رؤيتين متناقضتين لمفهوم “الانتقال” نفسه.

من جهة، تبنت غالبية مكونات قوى الحرية والتغيير نموذج “تقاسم السلطة” كضرورة واقعية وحتمية. ارتكز هذا التوجه على قراءة مفادها أن الجيش يمتلك القوة الفعلية على الأرض، وأن أي محاولة لإقصائه بالكامل قد تقود إلى مواجهة دموية أو انقلاب عسكري مباشر، مما يجهض الثورة في مهدها. بناءً على هذه الرؤية البراغماتية، تم قبول التفاوض مع المجلس العسكري وتوقيع “الإعلان الدستوري” في أغسطس ٢٠١٩، الذي أسس لشراكة هشة في هياكل السلطة الانتقالية.

على النقيض تماماً، تبنى الحزب الشيوعي نموذج “القطيعة الثورية”. فمنذ البداية، رفض الحزب أي شكل من أشكال الشراكة مع من أسماهم “اللجنة الأمنية لنظام الإنقاذ المدحور”، معتبراً أنهم امتداد للنظام القديم وأن أي تسوية معهم ليست إلا إعادة إنتاج للأزمة. ووصف الحزب “الإعلان الدستوري” بأنه “وثيقة معيبة” شرّعت لوجود العسكر في قلب السلطة، وأبقت على الميليشيات (في إشارة لقوات الدعم السريع)، وفتحت الباب أمام التدخلات الخارجية التي تسعى لمشروع “الهبوط الناعم” الذي يهدف إلى احتواء الثورة وتفريغها من مضمونها الجذري.

هذا الخلاف الفلسفي لم يلبث أن تحول إلى مواقف سياسية متباعدة. فبينما انخرطت “قحت” في إدارة تحديات الحكم الانتقالي، كثّف الحزب الشيوعي من نقده للحكومة، متهماً إياها بالتخلي عن أهداف الثورة، والخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي، وعقد “اتفاقات سرية ومشبوهة” مع المكون العسكري. وبلغ هذا المسار ذروته في نوفمبر ٢٠٢٠، حين أعلنت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الانسحاب رسمياً من هياكل قوى الحرية والتغيير.

لم يكن انسحاب الحزب الشيوعي مجرد قرار معزول، بل كان عرضاً symptomatic لفشل “قحت” في الحفاظ على تماسكها الداخلي وإدارة التناقضات العميقة بين مكوناتها. فالتحالف نفسه كان يعاني من خلافات حادة، بدأت بتجميد حزب الأمة لنشاطه في وقت سابق، واستمرت مع تصاعد الخلافات بين مختلف الكتل السياسية. وبهذا، فإن خروج الحزب الشيوعي، رغم تأثيره، لم يكن سبباً في تصدع التحالف بقدر ما كان الكشف الأوضح عن تصدعات كانت موجودة بالفعل. لقد حرم هذا الانسحاب الحكومة الانتقالية من قاعدة جماهيرية منظمة وقوة نقدية كان يمكن أن تعمل من الداخل، وترك الساحة مفتوحة لمزيد من الاستقطاب الذي مهّد الطريق للأحداث اللاحقة.

3. من انقلاب أكتوبر ٢٠٢١ إلى الاتفاق الإطاري: نقطة اللاعودة في الانقسام المدني

جاء انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، الذي قاده المكون العسكري ضد شركائه المدنيين، ليؤكد صحة مخاوف الحزب الشيوعي وتحذيراته المتكررة من مغبة الشراكة مع العسكر. بالنسبة للحزب، لم يكن الانقلاب حدثاً مفاجئاً، بل نتيجة منطقية وحتمية للمسار “المعيب” الذي بدأ بتوقيع الوثيقة الدستورية. وفيما توحد الشارع السوداني في البداية في رفض الانقلاب، سرعان ما عاد الانقسام المدني ليظهر مجدداً، وبشكل أكثر حدة، حول كيفية مواجهته.

بعد أشهر من الاحتجاجات والمبادرات المتعثرة، برز “الاتفاق الإطاري” في ديسمبر ٢٠٢٢ كخارطة طريق جديدة اقترحتها قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) بدعم من الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، إيغاد) وقوى دولية وإقليمية. هدف الاتفاق إلى إنهاء الانقلاب وتشكيل حكومة مدنية جديدة. ورأت القوى الموقعة عليه أنه يمثل المخرج العملي الوحيد من الأزمة، وأنه يقدم صيغة أفضل من وثيقة ٢٠١٩ عبر إبعاد العسكر عن مجلس السيادة وإخضاعهم للسلطة المدنية نظرياً.

إلا أن الحزب الشيوعي قاد جبهة الرفض المطلق للاتفاق، واصفاً إياه بـ “اتفاق إذعان” و”تسوية فوقية” تلتف على مطالب الشارع. وتمثلت أبرز انتقادات الحزب في أن الاتفاق:

  1. يعيد شرعنة الانقلابيين: من خلال التفاوض معهم والتوصل إلى تسوية بدلاً من إسقاطهم ومحاسبتهم.

  2. يفتقر للشمولية: حيث تم بين مجموعة محدودة من القوى المدنية والعسكر، وأقصى قوى ثورية فاعلة.

  3. يكرس نفوذ الدعم السريع: حيث اعتبر الحزب أن الاتفاق يقوي من موقع قوات الدعم السريع كفاعل سياسي وعسكري رئيسي في مستقبل البلاد.

  4. يخضع للإملاءات الخارجية: حيث رأى الحزب أن الاتفاق فُرض بضغط من محاور دولية وإقليمية تسعى لنهب ثروات السودان وتمرير أجندتها.

لم يكتفِ الحزب بالرفض، بل بادر إلى تأسيس إطار بديل، وهو “تحالف قوى التغيير الجذري”، الذي ضم إلى جانبه فصيلاً من تجمع المهنيين وكيانات أخرى، رافعاً شعار “لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية” مع الانقلابيين، ومتمسكاً بخيار إسقاط السلطة العسكرية بالكامل عبر الحراك الجماهيري.

لقد كانت مرحلة الاتفاق الإطاري بمثابة نقطة اللاعودة في الانقسام المدني. فبينما حظي الاتفاق بدعم دولي وإقليمي ومحلي واسع نسبياً، وفشلت دعوات الحزب الشيوعي لإسقاطه في حشد زخم شعبي كافٍ ، إلا أن رفضه القاطع ساهم في تشتيت الضغط الجماهيري المناهض للانقلاب. فبدلاً من تركيز كل الجهود في جبهة موحدة ضد الحكم العسكري، انقسمت القوى المدنية والشارع بين معسكر يدعم التسوية كـ”أهون الشرين”، ومعسكر يرفضها تمسكاً بـ”الطهارة الثورية”. هذا الانقسام أضعف الموقف المدني بشكل عام، ومنح المكون العسكري، المنقسم على نفسه أيضاً، مساحة للمناورة والاستفادة من غياب جبهة مدنية متماسكة.

4. تحليل مواقف الحزب الشيوعي في أعقاب حرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣

مع دوي الرصاص الأول في الخرطوم صباح ١٥ أبريل ٢٠٢٣، دخل السودان في نفق مظلم من حرب مدمرة. وفي خضم الفوضى والاستقطاب الحاد، اتخذ الحزب الشيوعي موقفاً متمايزاً عن معظم القوى السياسية الأخرى، استناداً إلى تحليله لطبيعة الصراع وأطرافه.

4.1 الموقف المبدئي من الحرب: رفض الاصطفاف وإدانة “شراكة الدم”

منذ اللحظات الأولى، رفض الحزب الشيوعي السوداني الانحياز لأي من طرفي النزاع، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. وفي بياناته الأولى، وصف الحرب بأنها “عبثية وكارثية”، محمّلاً مسؤوليتها بشكل مباشر للقوى التي دعمت مسار “الهبوط الناعم” والتسويات السياسية مع العسكر، بالإضافة إلى “تآمر القوى الدولية والإقليمية” التي غذّت الصراع.

لم يكن موقف الحزب موقفاً محايداً يسعى للوقوف على مسافة واحدة من الطرفين بهدف التوسط، بل كان موقف “طرف ثالث” يرفض كلاً من الجيش والدعم السريع. فالتحليل الذي قدمه الحزب، والذي ظل ثابتاً طوال فترة الحرب، يرى أن الصراع ليس حرباً بين مؤسسة وطنية وميليشيا متمردة، بل هو صراع بين “جنرالات اللجنة الأمنية” وحلفائهم، وهو امتداد مباشر لـ”شراكة الدم” التي تشكلت لإجهاض الثورة. واعتبر الحزب أن الخلاف بينهما يدور حول “المحاصصة في السلطة والثروة” وتقاسم النفوذ، وليس حول أي مبدأ وطني أو ديمقراطي.

بناءً على هذه القراءة، دعا الحزب باستمرار القوى المدنية والجماهير إلى عدم الانخراط في “سرديات الحرب المدمرة” التي يروج لها الطرفان، ورفض دعوات الاستنفار وتسليح المدنيين، محذراً من أن هذه الخطوات ستقود إلى حرب أهلية شاملة وقد تنتج “دعماً سريعاً جديداً” في المستقبل.

4.2 البديل المطروح: مشروع “الجبهة الجماهيرية الواسعة” ونقد المبادرات الخارجية

في مقابل رفضه لطرفي الصراع، طرح الحزب الشيوعي بديلاً سياسياً واضحاً، لا يهدف فقط لوقف الحرب، بل لـ”استرداد الثورة” وتحقيق أهدافها الأصلية. تمثل هذا البديل في الدعوة المتكررة لبناء “أوسع تحالف جبهوي جماهيري” أو “جبهة شعبية واسعة” تكون قاعدتها هي القوى الحية للثورة، من لجان مقاومة ونقابات مهنية ولجان إضراب ومنظمات مجتمع مدني، بهدف خلق قطب ثالث قادر على ممارسة ضغط شعبي منظم لوقف الحرب وفرض سلطة الشعب المدنية الكاملة.

وانسجاماً مع هذا الطرح، اتخذ الحزب موقفاً نقدياً وحذراً من كافة المبادرات الإقليمية والدولية التي سعت للوساطة، مثل منبر جدة، ومبادرة دول الجوار المصرية، وجهود الاتحاد الأفريقي. ينبع هذا الموقف من تحليل ماركسي يرى أن هذه المبادرات ليست جهوداً محايدة، بل هي أدوات تعكس صراع المحاور الدولية (الولايات المتحدة، روسيا، الصين) والإقليمية (الإمارات، السعودية، مصر) على الموارد والنفوذ في السودان ومنطقة البحر الأحمر. وعليه، فإن أي حل سياسي تفرضه هذه القوى لن يخدم مصالح الشعب السوداني، بل سيكرس التبعية للخارج ويعيد إنتاج الأزمة تحت مسميات جديدة.

ومع ذلك، لم يرفض الحزب كل أشكال التدخل الخارجي بالمطلق. فقد رحب بشكل مشروط بالجهود الدولية التي تهدف حصراً إلى وقف إطلاق النار وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، شريطة ألا تكون هذه الجهود مرهونة بفرض تصور سياسي أو حكومة لا يرتضيها الشعب السوداني. وبهذا، حاول الحزب الموازنة بين الحاجة الإنسانية الملحة ورفضه المبدئي للوصاية الخارجية على القرار الوطني.

5. المواجهة مع “تقدم”: إعلان أديس أبابا كذروة للقطيعة السياسية

بعد اندلاع الحرب، برزت “تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)” كأكبر تحالف مدني مناهض للحرب، حيث ضمت معظم مكونات قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي وأحزاباً وحركات موقعة على اتفاق جوبا وشخصيات مستقلة، تحت قيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك. ورغم الهدف المشترك المعلن في وقف الحرب، إلا أن الخلافات الأيديولوجية والاستراتيجية العميقة بين الحزب الشيوعي وهذا الجسم الجديد سرعان ما أدت إلى قطيعة سياسية كاملة.

رفض الحزب الشيوعي منذ البداية الانضمام إلى “تقدم” أو المشاركة في مؤتمرها التأسيسي الذي عُقد في أديس أبابا في مايو ٢٠٢٤. وبرر الحزب موقفه بوجود “تباين واسع في الرؤى”، معتبراً أن “تقدم” ما هي إلا استمرار لمسار “الهبوط الناعم” والتسويات الذي رفضه الحزب منذ عام ٢٠١٩.

ووصلت هذه المواجهة إلى ذروتها في يناير ٢٠٢٤، عندما وقعت “تقدم” على “إعلان أديس أبابا” مع قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو. كان الإعلان يهدف، بحسب “تقدم”، إلى وضع أسس لوقف العدائيات وحماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية. لكن الحزب الشيوعي رأى في الإعلان كارثة سياسية وتجسيداً لكل مخاوفه السابقة. وأصدر الحزب بياناً شديد اللهجة أدان فيه الاتفاق، معتبراً أنه:

  • تحول إلى اتفاق سياسي: تجاوز مهمته الإنسانية المزعومة ليمنح شرعية سياسية لقوات الدعم السريع، أحد طرفي الحرب المسؤولين عن الفظائع المرتكبة.

  • يكرس الشراكة مع الميليشيات: حيث يعيد إنتاج منطق الشراكة مع القوى المسلحة بدلاً من إخضاعها للمساءلة والسلطة المدنية، مكرراً بذلك خطأ شراكة ٢٠١٩.

  • يتحايل على مبدأ المحاسبة: من خلال الحديث الفضفاض عن “العدالة الانتقالية”، مما يفتح الباب أمام الإفلات من العقاب عن جرائم الحرب وجرائم فض الاعتصام.

  • يتجاوز صلاحيات القوى المدنية: حيث انتقد الحزب خوض “تقدم” في تفاصيل شكل الدولة المستقبلي (الفيدرالية)، معتبراً أن هذه القضايا المصيرية يجب أن يقررها مؤتمر دستوري قومي يمثل كل السودانيين، وليس اتفاقاً بين فصيل مدني وميليشيا مسلحة.

لم يكن موقف الحزب الشيوعي معزولاً تماماً. فمن داخل “تقدم” نفسها، برزت انتقادات حادة، أبرزها مذكرة حزب الأمة القومي التي انتقدت “شبهات غياب الحياد” و”الانحياز الإعلامي لأحد طرفي الحرب” والتوقيع المنفرد مع الدعم السريع. هذه الانتقادات الداخلية كشفت أن القضايا التي أثارها الحزب الشيوعي من الخارج كانت هي نفسها نقاط الخلاف الجوهرية التي كانت تتفاعل داخل أكبر تحالف مدني. وقد أثبتت الأيام صحة هذا التحليل، عندما انفجر تحالف “تقدم” نفسه في فبراير ٢٠٢٥ وانقسم إلى كتلتين (“صمود” و”تأسيس”) بسبب الخلاف الحاد حول نفس القضية: درجة التحالف مع الدعم السريع ومسألة تشكيل حكومة موازية. وبهذا، أظهر انقسام “تقدم” أن الشرخ حول العلاقة مع القوى المسلحة كان بنيوياً وعميقاً داخل المشهد المدني بأسره.

6. تقييم الأثر: هل ساهمت مواقف الحزب الشيوعي في شرخ وحدة القوى الثورية؟

عند تقييم دور الحزب الشيوعي في الانقسام الذي أصاب القوى المدنية الثورية، من الضروري تجنب الإجابات التبسيطية. فالإجابة ليست مجرد “نعم” أو “لا”، بل تكمن في تحليل متعدد الأوجه يميز بين التسبب في الانقسام والتعبير عنه، وبين إضعاف الجبهات الموحدة والتمسك بالمبادئ الثورية.

من جهة، لا يمكن إنكار أن مواقف الحزب الشيوعي وسياساته التنظيمية ساهمت بشكل ملموس في تعدد وتشتت المنصات المدنية. فانسحابه المبكر من “قوى الحرية والتغيير” في ٢٠٢٠ أحدث أول شرخ كبير في الحاضنة السياسية للثورة. كما أن رفضه القاطع لـ “الاتفاق الإطاري”، الذي حظي بتأييد قطاعات مدنية واسعة ودعم دولي، خلق استقطاباً حاداً في صفوف المعارضة للانقلاب. علاوة على ذلك، أدى رفض الحزب للحوار المباشر مع “تقدم” ككتلة موحدة ، وتأسيسه لـ “تحالف قوى التغيير الجذري” كقطب موازٍ ، إلى ترسيخ واقع سياسي مدني مجزأ. وقد تجلى هذا النهج المتشدد تنظيمياً عندما تنصلت قيادة الحزب من بيان مشترك أصدره أعضاء بارزون فيه مع حزبي الأمة والبعث، مما أظهر صعوبة بناء جسور حتى مع القوى الأقرب إليه فكرياً.

لكن من جهة أخرى، فإن تحميل الحزب الشيوعي وحده مسؤولية الشرخ يتجاهل الأسباب البنيوية والجذرية للانقسام. فالخلاف الأساسي الذي فجّر كل التحالفات المدنية، من “قحت” إلى “تقدم”، كان يدور حول سؤال واحد: كيفية التعامل مع القوى العسكرية والمسلحة. لقد كانت الانقسامات داخل “قحت” نفسها عميقة ومستمرة قبل وبعد انسحاب الشيوعي. والأهم من ذلك، أن الانهيار الكبير لتحالف “تقدم” في ٢٠٢٥ وانقسامه إلى “صمود” و”تأسيس” حدث بسبب الخلاف حول التحالف مع الدعم السريع وتشكيل حكومة موازية، وهي القضايا ذاتها التي حذر منها الحزب الشيوعي، مما يثبت أن هذه التناقضات كانت كامنة في صلب المشروع المدني ولم تكن مجرد نتاج لمواقف الحزب.

هنا، يجب التمييز بين “التسبب في الشرخ” و”رفض المشاركة في إجماع خاطئ”. من منظور الحزب الشيوعي، هو لم يخلق الانقسام، بل رفض أن يكون جزءاً من مسار تسويات اعتبره خيانة لمبادئ الثورة الأساسية المتمثلة في الحكم المدني الكامل والمحاسبة. من وجهة نظر خصومه، فإن تمسكه بما وصفوه بـ “الطهارة الثورية” أدى إلى إضعاف الجبهة المدنية الموحدة في مواجهة خصومها. الحقيقة أن موقف الحزب أدى إلى تعدد المنصات المدنية، لكنه لم يكن السبب الوحيد في وجود الانقسام الجوهري نفسه.

في هذا السياق، يمكن القول إن مواقف الحزب الشيوعي، رغم ما سببته من عزلة سياسية، لعبت دور “الضمير النقدي” للثورة. فمن خلال رفضه المبدئي والمستمر لأي شراكة أو تسوية مع القوى العسكرية والمليشياوية، أبقى الحزب على سقف المطالب الثورية مرتفعاً (حكم مدني كامل، تفكيك دولة ٣٠ يونيو، محاسبة مجرمي الحرب، عدم الإفلات من العقاب). هذا الموقف، وإن بدا غير عملي من منظور السياسة الواقعية (Realpolitik)، منع السردية الثورية من الذوبان بالكامل في مشاريع التسوية التي أثبتت فشلها في نهاية المطاف، من شراكة ٢٠١٩ إلى حرب ٢٠٢٣.

7. الخاتمة: مستقبل القوى المدنية في السودان وموقع الحزب الشيوعي

في ختام هذا التحليل، يتضح أن مسار الحزب الشيوعي السوداني منذ ثورة ديسمبر ٢٠١٨ تميز بثبات أيديولوجي لافت، ارتكز على رفض قاطع لأي شكل من أشكال الشراكة أو التسوية مع المكونات العسكرية والمليشياوية. هذا الموقف المبدئي، الذي اعتبر أن أي حل لا يبدأ بالقطيعة الكاملة مع منظومة الحكم القديمة هو مجرد إعادة إنتاج للأزمة، وضعه في مسار تصادمي مستمر مع بقية القوى المدنية التي انتهجت مسارات أكثر براغماتية.

لقد ساهم هذا النهج في تعدد الجبهات المدنية وأضعف قدرتها على تقديم صوت موحد في المحطات الحاسمة، من مفاوضات ما بعد الثورة إلى مواجهة الانقلاب، وصولاً إلى التعامل مع كارثة الحرب. لكنه في الوقت ذاته، لم يكن السبب الجذري للانقسام، بل كان انعكاساً لشرخ بنيوي أعمق داخل النخبة السياسية السودانية حول كيفية إدارة العلاقة الملتبسة مع السلطة العسكرية، وهو الشرخ الذي أدى في النهاية إلى انهيار أكبر التحالفات المدنية من داخلها.

اليوم، يقف السودان أمام واقع مرير من التشظي السياسي والدمار الإنساني. القوى المدنية منقسمة إلى كتل متعددة: “صمود” و”تأسيس” المنشقتان عن “تقدم”، و”تحالف التغيير الجذري” بزعامة الشيوعي، والكتل الأخرى الموالية للجيش. وفي ظل استمرار الحرب وتفاقم الاستقطاب، تبدو مهمة توحيد هذه القوى شبه مستحيلة.

إن التحدي الأكبر الذي يواجه جميع الفاعلين المدنيين، بمن فيهم الحزب الشيوعي، هو القدرة على تجاوز الخلافات الأيديولوجية والاستراتيجية لصياغة “حد أدنى” من التوافق الوطني. هذا الحد الأدنى يجب أن يرتكز على أولويات لا تقبل المساومة: وقف الحرب فوراً، حماية المدنيين، إيصال المساعدات الإنسانية، والحفاظ على ما تبقى من وحدة الدولة ومؤسساتها. بدون هذا التوافق، ستظل كل الفصائل، بغض النظر عن مدى صحة مواقفها المبدئية، مجرد متفرجين عاجزين عن التأثير في مسار الأحداث التي تهدد وجود السودان كدولة موحدة.

أما بالنسبة للحزب الشيوعي تحديداً، فإنه يقف عند مفترق طرق حاسم. فإما أن ينجح في ترجمة وضوحه الأيديولوجي إلى قوة جماهيرية فاعلة على الأرض عبر “الجبهة الشعبية الواسعة” التي ينادي بها، ليصبح قوة تغيير حقيقية، أو سيظل في موقع المعارضة المعزولة التي تمتلك نقاءً ثورياً لكنها تفتقر إلى التأثير السياسي العملي.
المعضلة التي تواجهه، والتي تواجه الكثير من الحركات الثورية حول العالم، هي كيفية الموازنة بين التمسك بالمبادئ وضرورات العمل السياسي في واقع شديد التعقيد والدموية، حيث قد يكون ثمن “الطهارة” المطلقة هو الخراب الشامل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..