نهر النيل: معادلة وجودية بلا حلول وسط

علي قاسم
لا يزال نهر النيل يجرّ خلفه تاريخًا من التوترات التي تتجدد مع كل محطة جديدة في مسيرة هذا الشريان الحيوي. تصريحات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الأخيرة خلال استقباله لنظيره الأوغندي حملت رسائل مبطنة تكشف عمق الأزمة التي تواجهها مصر في معركتها للحفاظ على حقوقها المائية. فحين يقول السيسي إن مصر “لن تغض الطرف” عن أيّ تهديد لأمنها المائي، فهو لا يعلن موقفًا فحسب، بل يرسم خطًا أحمرًا يصعب تجاوزه في لعبة شد الحبال الجيوسياسية حول مياه النيل.
في خلفية هذا التحذير الرئاسي، تطلّ علينا أزمة سد النهضة الإثيوبي بكل تعقيداتها. المشهد اليوم يشبه إلى حد كبير معركة وجودية تخوضها مصر على جبهات متعددة: جغرافية، سياسية، قانونية، وحتى دبلوماسية. فالدولة التي يعيش 105 ملايين من سكانها على مياه هذا النهر، وتحتضن حضارة عمرها آلاف السنين على ضفافه، لا يمكنها ببساطة أن تقف مكتوفة الأيدي أمام مشروع يهدد بقطع شريان حياتها.
لكن القصة لا تقتصر على مجرد صراع بين دولتي مصب ومنبع. هناك أبعاد أكثر تعقيدًا تكشف عنها تفاصيل التصريحات الرئاسية. حين يشيد السيسي بالدور الأوغندي في مبادرة حوض النيل، فهو يلمح إلى إستراتيجية مصرية أوسع تهدف إلى كسب حلفاء في المعركة القانونية والدبلوماسية القادمة. كما أن تركيزه على “المنفعة المشتركة” ليس مجرد لغة دبلوماسية معتادة، بل محاولة لاستعادة التوازن في معادلة أصبحت تميل لصالح أديس أبابا في السنوات الأخيرة.
ما بين دبلوماسية السيسي الهادئة ولكن الحازمة، وإصرار إثيوبيا على المضي قدمًا في مشروعها، تبقى المعادلة صعبة الحل
المفارقة تكمن في أن مصر، صاحبة الحضارة الأقدم على ضفاف النيل، تجد نفسها اليوم في موقف المدافع عن وجودها أمام مشروع تنموي لدولة تعتبر نفسها صاحبة الحق في استغلال مواردها الطبيعية. هذا التناقض يضع القاهرة أمام خيارات صعبة: كيف تدافع عن حقوقها التاريخية دون أن تبدو وكأنها تعيق تنمية جارتها؟ وكيف تحافظ على تدفق مياه النيل دون أن تتهم بالهيمنة على موارد دول أخرى؟
الحلول التقنية التي تعتمدها مصر، من تحلية مياه البحر إلى مشاريع ترشيد الاستهلاك، تبقى مجرد مسكنات لأزمة أعمق. فمهما بلغت كفاءة هذه المشاريع، فإنها لن تعوّض عن النقص الكارثي المتوقع في حصة مصر المائية إذا استكملت إثيوبيا ملء سد النهضة بالكامل. هذا ما يجعل من تصريحات السيسي الأخيرة أكثر من مجرد تحذير، بل إنذار أخير للمجتمع الدولي بأن الأزمة وصلت إلى نقطة اللاعودة.
يوفر نهر النيل تدفقًا مستمرًا طوال العام، ما يدعم اقتصادًا زراعيًا يكفل لقمة العيش لربع السكان. ومع تجاوز تعداد السكان مئة مليون نسمة قبل بضع سنوات، ارتفع الطلب على المياه بشكل لافت، فيما لا تتخطى الحصة المتاحة وفق اتفاقية منتصف القرن الماضي خمسة وخمسين مليار متر مكعب سنويًا. يقود هذا العجز إلى اعتبار النيل موردًا وجوديًا لا غنى عنه، إذ أن أيّ انقطاع في تدفقه يهدد الزراعة في دلتا النيل والصناعات المعتمدة على المياه، فتصبح أولويات الأمن القومي مرتبطة بالحفاظ على هذا النهر.
بموجب الاتفاقية الموقعة بين مصر والسودان، تُمنح لمصر الجزء الأكبر من مياه المصب، فيما تخصص حصص أصغر لأغراض التبخر ومصارف أخرى. بدأت إثيوبيا منذ مطلع العقد الماضي تعبئة سد النهضة بسعة تقدر بعشرات مليارات الأمتار المكعبة، وقد يقلص ذلك من التدفقات إلى مصر بحوالي ربع الكمية المعتادة خلال موسم الجفاف، ما يصعّب على السد العالي تعبئة خزاناته بالشكل المطلوب. وتُشير التقديرات إلى أن التخزين الكامل لسد النهضة قد يؤدي إلى نقص مائي سنوي ضخم يهدد حياة الملايين من السكان في الدلتا.
تفاقمت هذه الأزمة بفعل التغيرات المناخية التي أثرت على نمط الفيضانات والجفاف؛ فقد شهدت دلتا النيل فيضانات مفاجئة أعقبتها موجات جفاف حادة قلّصت الموارد المائية بنسب تُقارب العُشر. أما النمو السكاني المتواصل، فما زال يزيد الضغط على شبكات الري القديمة التي تهدر نسبة كبيرة من المياه بسبب قنوات غير مبطنة، فتتصاعد أزمة الغذاء والصحة في المناطق الريفية وتتصاعد موجات الهجرة الداخلية نحو المدن الكبرى هربًا من تراجع مستوى المعيشة.
الأزمة تفاقمت بفعل التغيرات المناخية التي أثرت على نمط الفيضانات والجفاف؛ فقد شهدت دلتا النيل فيضانات مفاجئة أعقبتها موجات جفاف حادة قلّصت الموارد المائية بنسب تُقارب العُشر
هذا ما دفع مصر إلى تصعيد القضية دبلوماسيًا إلى مجلس الأمن في 2023، داعية إلى فرض عقوبات على إثيوبيا إذا استمرت في الملء دون اتفاق، لكن الدعم الدولي ظل محدودًا بسبب الاعتبارات الجيوسياسية. كما قدمت شكوى لدى الأمم المتحدة في 2025، مطالبة بتطبيق مبدأ “استخدام المياه العادل والمعقول” وفق اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، مدعومة بتقارير من خبراء دوليين. قانونيًا، تستعد القاهرة للجوء إلى محكمة العدل الدولية لتحديد الحصص بناءً على الاتفاقيات التاريخية، مع دعم من السودان الذي يشاركها القلق حول تأثير السد. إستراتيجيا، لا تستبعد مصر الردع العسكري كخيار أخير، حيث أجرت مناورات عسكرية مشتركة مع السودان في 2024، مع تعزيز تعاونها الأمني مع دول مثل كينيا لضمان تأمين موقفها التفاوضي ضد الإجراءات الأحادية.
في مطلع القرن الماضي، وقّعت بريطانيا نيابةً عن مصر وإثيوبيا معاهدةً نصّت على عدم المسّ بتدفق مياه نهر النيل، ما منح القاهرة أسبقيةً قانونيةً تاريخية في التعاملِ مع مجرى النهر. بعدها كرّس البريطانيون هذا الامتياز بمنح مصر حق الاعتراض على أيّ مشروعٍ عُلوي يهدّد جريان المياه وتثبيت حصص ثابتةٍ لها وللخرطوم، قبل أن يُحدّد اتفاق منتصف القرن حصصًا أخرى دقيقةً لكل طرف. غير أن أديس أبابا، التي لم تُشارك في صياغة هذه المعاهدات، ترى أنها ليست ملزمة، فانضمت في العقد الماضي إلى مبادرةٍ إقليمية تدعو إلى توزيعٍ أكثر عدالةٍ للمياه بين دول الحوض.
في المقابل، عملت مصر على تعميق تحالفاتها مع السودان وكينيا عبر محاورٍ عدة: من تصدير الطاقة الكهربائية إلى الخرطوم وبناء وصلات حديثة بين العاصمتين، إلى التعاون الأمني لمواجهة الجماعات المتطرّفة في شرق أفريقيا. وفي إطار جهودها للتكامل القاري أطلقت القاهرة مبادرةً اقتصاديةً شاملةً جمعت دول المنبع في رؤيةٍ مشتركةٍ للاقتصاد والتنمية، فاستقطبت استثماراتٍ مهمة من دولٍ مثل رواندا وتنزانيا، ضاغطةً بذلك على إثيوبيا لقبول اتفاقٍ يُلزمها بضمان التدفق المستدام للمياه.
ما بين دبلوماسية السيسي الهادئة ولكن الحازمة، وإصرار إثيوبيا على المضي قدمًا في مشروعها، تبقى المعادلة صعبة الحل. لكنْ شيء واحد واضح: مصر التي بنت حضارتها على ضفاف النيل لن تسمح بتحويل نهرها إلى مجرد ذكرى في كتب التاريخ. المعركة القادمة قد تحدد ليس فقط كميات المياه المتدفقة، ولكن أيضًا مصير منطقة بأكملها ستشهد تحولات جيوسياسية كبرى في السنوات المقبلة.
العرب