مقالات وآراء

مثلث حلايب – شلاتين – أبورماد سيظل سودانيا

محور اللقيا
د. عمر بادي

تتناقل وسائل الإعلام منذ يومين خبر إعتراف مجلس السيادة السوداني بمثلث حلايب- شلاتين- أبورماد الحدودي ضمن الحدود المصرية وذلك قبل إنطلاق المفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية، وهذه الخطوة جاءت بناء على إتفاق الفريق أول عبد الفتاح البرهان مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من أجل إنهاء النزاع الحدودي القديم. لقد كان الخبر صادما للشعب السوداني ولكل الملمين بأمر هذا المثلث وتنازعه الذي إستمر قرنا وربع القرن من الزمان بين السودان ومصر. دخلت إلى الإنترنت وطفت في عناوين مقالاتي التي فاقت الأربعمائة مقالة و وجدت مقالة لي بعنوان (إلى حين إسترداد مثلث حلايب الجافل علينا بقرع مثلث بير طويل) كنت قد كتبتها بتاريخ 14 ديسمبر 2014 . هي مقالة حاوية لا تستدعي مني أي تعديل سوى حذف فقرتها الأخيرة التي إعتدت أن أختم بها مقالاتي السياسية حينذاك وفيها مطالبة بالعودة إلى المكون السودانوي وإلى التغيير الجذري في المفاهيم وفي الرؤى المستحدثة وفي الوجوه الكالحة التي ملّها الناس! وأضفت إليها دعوة تحالف القوى المدنية الديموقراطية لإتخاذ الإجراءات القانونية لإسترداد مثلث حلايب – شلاتين – أبورماد. إليكم بمقالتي القديمة – الجديدة:

لقد صرح السيد علي كرتي وزير الخارجية في يوم الجمعة 12/12/2014:( أنه لا يجب أن تكون منطقة حلايب وشلاتين منطقة نزاع بين مصر والسودان، ومن الممكن أن تكون منطقة تكامل، وتعود بالفائدة على البلدين، وأن من يسكنون بالمنطقة لا يريدون أن يصنفوا أنفسهم كسودانيين أو غير سودانيين لأن المنطقة بها تداخل ثقافي وتجاري، رغما عن أن رؤية الحكومة واضحة أن حلايب وشلاتين منطقة سودانية ولدينا الوثائق التي تثبت ذلك، بينما رؤية الحكومة المصرية أنها منطقة مصرية، ولا بد من البحث عن موقف مشترك فيه نوع من الشراكة والتكامل).
لقد سبقت هذا التصريح الأخير كتابات ومقالات عدة رفد بها الكتاب الوطنيون ما يعتور الساحة من صمت رسمي مطبق في بداية الأمر حينما زج الرئيس المصري حينذاك حسني مبارك بقواته العسكرية لتحتل مثلث حلايب والذي يشمل حلايب وشلاتين منذ عام 1995 بعد فشل مؤامرة إغتياله في أديس أبابا من قبل تنظيم الأخوان المسلمين المصري بمؤازرة نظرائهم في السودان كما قيل، رغما عن أن الحكومة السودانية كانت نظمث ثلاثة إنتخابات في مثلث حلايب وبه سلطات سكانية وإدارية وأمنية كلها سودانية. بعد ذلك ومع ثورات الربيع العربي بدأت التصريحات الرسمية تترى مطالبة بحق السودان في مثلث حلايب، وكادت المشكلة أن تحل أثناء حكم الرئيس مرسي، ولكن بعد فوز الرئيس عبد الفتاح السيسي تعقد الأمر وصارت حلايب وشلاتين تابعتين لمحافظة أسوان وتحت إدارتها. من ضمن تلك التصريحات كان تصريح السيد رئيس الجمهورية عمر البشير قبل ذهابه إلى مصر ولكنه عند زيارته لمصر إتفق مع الجانب المصري على عدم التطرق للقضايا الخلافية. رغم ذلك ظهرت رسوم كاريكاتيرية وكتابات صحفية عدة كما في صحيفة (الوفد) وأحاديث متلفزة أثارت غضب السودانيين لأنها كانت مفعمة بالسخرية وقد تعامل معها الجانب السوداني بكل ضبط للنفس حتى غادر السيد ياسر يوسف وزير الدولة للإعلام إلى مصر وعقد معهم إتفاقا لوقف كل تلك الترهات. رغم ذلك فمنذ بضعة أسابيع يتناقل الناس في الواتساب حديثا للصحفي والإعلامي توفيق عكاشة في قناة (مصر) كله إسفاف وتلفيق وتجني.

يقول السيد توفيق عكاشة أن (الرئيس) عمر البشير يتكلم عن حلايب وشلاتين بينما الإعلام المصري يتبنى أن السودان مصري وهم لن يتركوا الكل لكي يتشاجروا في الجزء، وهل قبل عام 1953 كان هنالك شيء إسمه السودان؟ ولذلك فإن ما بني على باطل فهو باطل. يستمر ويقول لا فض فوه أنه كانت هنالك دولة واحدة منذ زواج رمسيس من نفرتاري السمراء النوبية وبنائه لمعبد أبي سنبل ولذلك فمنذ ستة آلاف عام لم يكن هنالك بلد إسمه السودان! وأن حدود مصر كانت من البحر الأبيض شمالا وإلى حدود الحبشة وسميت ببلاد الشمس ثم بلاد سدّة ثم سدن ثم السودان! ونحن جنس واحد ولكن يصير اللون أغمغا من أسيوط وإلى حدود الحبشة وفقا لحرارة الشمس، وفي نهاية حديثه هاجم الرئيس جمال عبد الناصر لأنه وافق على تقسيم مصر إلى دولتين!

لقد أغضبني حديث هذا الفلولي سليط اللسان والمدعي للمعرفة ولكن بلا إلمام بحقائق التاريخ والجغرافيا، وتفنيدا لكلامه تناولت من مكتبتي كتاب (لمحات عن ممالك كوش) للدكتور إدريس البنا إصدار 2003 ودخلت إلى الإنترنت وأعددت هذه السطور القادمة: عندما أرادت مصر بناء خزان أسوان في عام 1907، وخشية من أن تغمر المياه آثار النوبة، دعت عالم الآثار الأمريكي جورج رايزنر والذي إستمر في إكتشافاته حتى جبل البركل المقدس وبذلك تمت معرفة تاريخ السودان، وقد أثبتت الحفريات في جزيرة بدين جنوب الشلال الثالث وجود آثار بها لأناس عاشوا قبل مليون ونصف سنة، وفي كرمة حضارة كانت قبل 2400 عام قبل الميلاد! وبذلك فإن تاريخ السودان سابق للتاريخ المصري بآلاف السنين. في زيارة لي لمدينة أكسفورد وجدت في متحف التاريخ بها بعض الاثار الحجرية والفخارية بجانب لوحة كتب عليها (حضارة إنسان الخرطوم النيوليتي وقد كانوا أول من توصل لصناعة الفخار قبل 10 ألف عام، وكانت الأصل الذي خرجت منه الحضارة المصرية)! لقد ذكر بعض المؤرخين ومنهم هيرين أن المصورات شمال مدينة شندي كانت مهبط الوحي وكانت بها معابد للإله جوبيتور وللإله آمون وقد إعتبرها القدامى من مهد الفنون والعلوم وبها تم إختراع الكتابة الهيلوغلوفية وبها نشأت المعابد والإهرامات حين لم تكن مصر تعرف لها وجودا، ومنها تدفق ينبوع الحضارة شمالا مع النيل إلى أن وصل إلى بلاد الإغريق والرومان. لقد كان الآثاريون القدامى يحطمون الآثار لينهبوا الكنوز التي بداخلها ومنهم كان الطبيب الإيطالي فيرليني الذي حطم أهرام مروي ونهب من الهرم رقم (22) كنز الملكة الكنداكة أماني شيخيتو وهرب به حيث باعه في أوربا، والكنز موجود حاليا في متحف ميونيخ بألمانيا.

الدولة المصرية القديمة كانت معروفة بنظام الأسر عبر مسيرها منذ 4400 عام قبل الميلاد، وقد بدأ غزو مصر لبلاد كوش في عهد الأسرة الثانية في عام 2800 ق.م بقيادة الملك جير وتركز الغزو في المنطقة جنوب الشلال الأول جنوبي أسوان. في الألفين قبل الميلاد كانت ممالك كوش في أوج مجدها بعد إكتشافهم لصهر الحديد، وفي تلك الفترة غزا الهكسوس الدولة المصرية في عام 1800 ق.م وكونوا الأسرتين 15 و 16 واستمروا لمدة 500 عام، ثم ثار عليهم المصريون وطردوهم بقيادة قائدهم أحمس وكونوا الأسر حتى الأسرة 21، ثم غزا مصر الليبيون عام 1085 ق.م وشكلوا الأسرة 22، ثم هجم الكوشيون على مصر في عام 740 ق.م بقيادة الملك بعانخي واستمروا فيها 80 عاما و وصلوا منطقة الشام و آزروا بني إسرائيل ضد الأشوريين ولذلك تجمع الأشوريون في جيش لجب وهجموا على مصر انتقاما من تهارقا الذي هزمهم في الشام، وبذلك إنسحب الكوشيون جنوبا إلى كوش، وكون الأشوريون في مصر الأسر من 27 إلى 30 ، ثم أتى الإسكندر الأكبر بجيشه إلى مصر وطرد الأشوريين في عام 332 ق.م وبذلك حكم البطالسة مصر حتى إنتهى حكمهم بحكم الملكة كيلوباترا في عام 47 ق.م ، نتيجة لغزو الرومان بقيادة يوليوس قيصر لمصر وإستمر حكم الرومان لمصر حتى الفتح العربي الإسلامي لمصر في عام 641. بعد ذلك استمرت مصر تحت حكم الدويلات الإسلامية كالأيوبيين والمماليك والإخشيديين والفاطميين وغيرهم حتى غزاها الأتراك بقيادة محمد علي وصار يحكم مصر ممثلا للسلطان العثماني، وبعد الثورة الفرنسية في عام 1789 غزا مصر الفرنسيون بقيادة نابليون بونابرت، ثم تلاهم الإنجليز وقد تركوا عائلة محمد علي تحكم مصر إسميا، وإستمر الوضع هكذا إلى أن قامت ثورة 1952 وظهر الرئيس جمال عبد الناصر قائدا وحاكما مصريا لمصر بعد آلاف السنين من عدم حكم المصريين لأنفسهم . لقد كانت مصر عبر تاريخها منذ زمان الفراعنة تابعة لمحتليها من الأجانب وهذا المصير حتمه الموقع الجغرافي لمصر، كما حتم نفس موقع مملكة كوش الجغرافي أن تكون في حروب دائمة مع محتلي مصر من الأجانب عندما يريدون تأمين حدودهم الجنوبية أو التوسع فيها. كما أن إعلام الدول التي إحتلت مصر والإعلام الشمالي عامة قد أظهر الآثار المصرية وجعل الآثار السودانية تابعة لها وغير ذات أهمية ولولا المنظمات الدولية وعلماء الآثار الذين توافدوا إلى السودان قبل بناء سد أسوان والسد العالي لما عرف الكثير عن حضارة النيل الأوسط وكوش. نأتي إلى عتامة الإسم فقد زار هيرودوت المؤرخ الإغريقي مملكة كوش وأطلق على الإقليم جنوب مصر إسم إثيوبيا ويعني باللغة اللاتينية أرض السود وصار إرثنا يعتبر إرثا لإثيوبيا الحالية التي إستحوذت على الإسم وقد كانت تعرف بالحبشة، وعند العرب سكان الجزيرة العربية كان كل الساحل الغربي الإفريقي من البحر الأحمر عندهم هو الحبشة ولذلك كان الدكتور عبد الله الطيب موقنا أن الهجرة الثانية للمسلمين الأوائل في زمن دعوة النبي صلوات الله وسلامه عليه كانت للساحل السوداني ولدولة المقرة.

لقد كانت حدود مملكة كوش من ألفانتين حيث مدينة أسوان وبالقرب من جزيرة فيلة وتستمر جنوبا حتى وسط السودان الحالي، وفي العهد الإسلامي إستمرت الحدود على حالها، وفي عهد السلطنة الزرقاء وعهد التركية وعهد المهدية إستمرت الحدود كما هي. بعد الغزو الإنجليزي المصري أريد ترسيم الحدود بين مصر والسودان وكان ممثل السودان كتشنر ولم يكن ملما بتاريخ شمال السودان فوافق في عام 1899 على أن تكون الحدود بمحاذاة خط العرض 22 شمالا، وبذلك أضيفت الأراضي من الشلال الأول جنوب أسوان وحتى الحدود الحالية إلى مصر وكذلك أضيفت الأراضي التي يسكنها البجا من البشاريين والأمرأر في مثلث حلايب إلى مصر، وعند الإحساس بالخطأ السياسي والإداري أعيد ترسيم الحدود بموجب إتفاقية 1902 وفيها أضيفت أراضٍ تقع على الحدود شرق النيل معروفة بمثلث بير طويل لمصر نسبة لإستعمالها من قبل العبابدة الذين يتمركزون في أسوان وهي أرض جبلية وصحراوية جرداء، وأضيفت أراضي مثلث حلايب إلي السودان نسبة لسكانه البجا السودانيين وهي منطقة تحتوي جبالها على كميات هائلة من الذهب و المنغنيز والحديد والكروم والجرانيت. الآن كل من السودان ومصر يطالبان بمثلث حلايب وكلاهما لا يطالبان بمثلث بير طويل. منطقة بير طويل مساحتها تعادل 2000 كيلومتر مربع وصارت غير تابعة لمصر أو للسودان.

على ذلك فقد ظهر من يريدون إمتلاك منطقة بير طويل بقانون وضع اليد، ومنهم الأمريكي جيريميا هيتون الذي أتى إلى منطقة بير طويل في عام 2014 وغرس علمه ذا اللون الأزرق في قمة جبل طويل وأعلن أنه قد تملك الإقليم وأسماه (مملكة شمال السودان) ونصّب إبنته إميلي أميرة عليها، فإبنته كانت تحلم أن تكون أميرة وقد وعدها أن يحقق لها حلمها في الأرض المغبرة التي لا يريدها أحد. ألا تكفينا دولة جنوب السودان حتى تظهر لنا مملكة شمال السودان!

الآن، بعد إعتراف مجلس السيادة السوداني بتبعية مثلث حلايب – شلاتين – أبورماد للدولة المصرية كما أوردت في بداية هذه المقالة، على الشعب السوداني وتحالف القوى المدنية الديموقراطية والمنظمات الحقوقية الا يصمتوا عن الحق الذي يثبته التاريخ والوثائق بان هذا المثلث سوداني وأن رئيس مجلس السيادة أو مجلسه لا يملكون شرعية إتخاذ القرار بإسم الشعب السوداني، وأن السودان طيلة العقود الماضية كان يجدد شكواه لمنظمة الأمم المتحدة بتطبيق التحكيم الدولي في شأن تبعية المثلث وليظلوا على ذلك حتى يتم إسترداده.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..