مقالات وآراء

حرب إعلامية تزعج العلاقات المصرية – السودانية

محمد أبو الفضل

وسط تطورات إيجابية شهدتها العلاقات بين مصر والسودان على المستوى الشعبي مؤخرا، ظهرت حرب إعلامية متفاوتة في الحدة والقوة بني الجانبين، ولا أحد يعلم هل هي مقصودة أم صدفة، وتم توظيفها من أجل تحقيق أغراض سياسية قاتمة، كأن قدر البلدين أن يعيشا في توتر دائم، وإن لم يأخذ هذه المرة طابعا رسميا، فالعلاقات بين الدولة المصرية ومجلس السيادة الانتقالي جيدة، وتعززت مع انحياز القاهرة سياسيا إلى موقف الجيش السوداني في حربه ضد قوات الدعم السريع.

عرفت العلاقات بين مصر والسودان صعودا وهبوطا مستمرين، أكدا أن الوصول إلى فترة طويلة من الاستقرار عملية صعبة، ولو ظهرت مؤشرات تدعم تطوير العلاقات بينهما، فغالبا هناك رافضون لذلك ومتخوفون من تداعياته، وربما يعملون عن عمد على تخريب أيّ توجهات تدعم الأواصر السياسية، أو يتصيّدون أخطاء تحدث من جهات متباينة ويعملون على تغذيتها نحو الجانب السلبي.

تبدو الحساسية عنصرا مهما في زيادة التوتر، وتأتي في أحيان كثيرة من قبل دوائر إعلامية وسياسية سودانية، لها مصالح في منع تطوير العلاقات مع القاهرة، أو بحكم تعدد القوى وتضارب حساباتها الداخلية، فتذهب نحو استغلال خطأ ما لإحراج خصومها في الحكم بالخرطوم من البوابة المصرية، ولا تعدم هذه القوى وسيلة للمزايدة، وتجد في معلومات واجتهادات وشائعات ما يساعدها على تحقيق هدفها، وثمة ثلاثة تطورات رئيسية مثيرة حدثت مؤخرا، تعزز هذه الفرضية.

التطور الأول: تناقل وسائل إعلام سودانية ما قيل إنه موافقة من جانب مجلس السيادة السوداني على التنازل لمصر عن مثلث حلايب وشلاتين وأبورمادا، وهو منطقة متنازع عليها بين البلدين تسيطر عليها مصر، وجرى تجميد الموقف منذ سنوات كي لا يتحوّل إلى أزمة، ومع ذلك يتردد الحديث عنه كلما وجد البعض فرصة لطرقه بقوة، ويتجدد الخلاف حول تبعيته ثم سرعان ما يختفي أو يتوارى لظهور ما هو مهم لبحثه.

ونشر موقع فرنسي خبرا حول هذه القضية، نقلا عن مصادر لم يسمّها أو يشر إلى هوياتها، ضمن سياقات معالجة صحفية للموقع حول ترسيم الحدود البحرية بين السودان والسعودية، ومعرفة الحدود القارية لكل بلد في مياه البحر الأحمر، ولم يعرف مدى ما وصلت إليه المباحثات بين الخرطوم والرياض، ودواعي الزج بالمثلث الواقع بين جنوب مصر وشمال السودان، من جهة الشرق، لكن تلقفت وسائل إعلام التقرير ونسجت عليه رواية سياسية، بلا تحقق منها، مفادها أن الجيش السوداني يسترضي مصر لدفعها نحو زيادة وقوفها معه، في صراعه الضاري مع قوات الدعم السريع.

◙ العلاقات بين مصر والسودان عرفت صعودا وهبوطا مستمرين، أكدا أن الوصول إلى فترة طويلة من الاستقرار عملية صعبة

لم ترد مصر أو السودان رسميا، ولم تتوقف بعض التكهنات والتخمينات، ووصلت إلى حد التوسع في نشر الموضوع، والتعامل معه كواقع فعلي، لأن هناك جهات سودانية من مصلحتها توتير العلاقة بين البلدين، وتصوير ما وصلت إليه من شكل إيجابي، شعبي ورسمي، على أن له مقابلا ماديا حيويا، يكمن في تنازلات قدمتها المؤسسة العسكرية، وهدف المروجون إلى التشكيك في توجهات الجيش وخفض منسوب الثقة في ما يتخذه من تصرفات، وهي إشارة قد تكون بعيدة عن مصر، ولها أبعاد داخلية سودانية، لكن جاءت هذه المرة في ملف حساس، يمسّ ما يعتقد الكثير من المواطنين والنخب في السودان، هيبتهم الوطنية.

التطور الثاني: يتعلق بتصريحات أطلقها الإعلامي المصري توفيق عكاشة، المعروف بشطحاته السياسية أحيانا، وأشار فيها إلى أن السودان يجب أن يعود إلى السيادة المصرية، لأنه كان جزءًا من مصر التاريخية منذ آلاف السنين، وأن انفصاله لم يجلب له سوى التدهور والانقسام. ومع أن سودانيين عقلاء وضعوا الكلام في سياقه المحدود، لكن هناك من نفخوا في الأمر واعتبروا عكاشة يعبّر عن موقف شبه رسمي في مصر، وهو غير صحيح، لأنه واحدة من “تخاريف” إعلامي يريد لفت الانتباه إليه، وهو خيال يجهضه الواقع، فمصر مهمومة بمشاكلها، ولا تريد زيادتها، والسودان لأهله، ولا تنقصه توترات داخلية وخارجية، وليست هناك حاجة للتذكير بقرار منظمة الوحدة الأفريقية للحفاظ على حدود الدول بعد خروج القوى الاستعمارية من القارة.

المشكلة أن الاهتمام بهذه النوعية من “الخرافات” تجد تجاوبا من شريحة سودانية، لها مواقف قاتمة من التحسن مع مصر، وتستثمر كل ما له علاقة سلبية بها، لتأكيد “مسلّمة” راسخة في وجدان البعض حول الفوقية أو عدم الندية في أيّ علاقات بين مصر والسودان، وهي مسألة تجهضها الأهمية الإستراتيجية التي يمثلها كل بلد للآخر، ناهيك عن جملة كبيرة من الروابط الحيوية، التي تؤكد ضرورة الحفاظ عليها، وعدم تعرضها لمشكلات هامشية قد تتحول إلى أزمات رئيسية حقيقية، انطلاقا من أكاذيب وشائعات تلقى رواجا إعلاميا.

التطور الثالث: يخص احتجاز قائد ما يسمى فيلق “البراء بن مالك” المصباح أبوزيد طلحة في مصر، ثم إطلاق سراحه، حيث تحدث سودانيون عن الأمر، باعتباره تصفية حسابات من القاهرة مع الجناح الإسلامي في الجيش، وأشار آخرون إلى تواطؤ من قيادات في المؤسسة العسكرية السودانية للتخلص منه، وتوالت الروايات بما يشير إلى محاولة اختلاق أزمة بين البلدين، تداخلت فيها التقديرات السياسية مع الأمنية، وأدت إلى هواجس حول ما ينتظر العلاقات المشتركة من مفاجآت، خاصة أن الحركة الإسلامية في السودان لديها شكوك كبيرة في تصورات النظام المصري بسبب موقفه الصارم من جماعة الإخوان، والتي تحاول أن تستعيد زمام السلطة في السودان.

لا يتوقف مصريون كثيرون عند القضايا الخارجية الشائكة، بينما يُغرم غالبية السودانيين بالاشتباك معها، ولديهم فائض من الانخراط في السياسة على المستويين الداخلي والخارجي، وربما يكون هذا المحدد أحد مشاكل السودان، وبدلا من أن يتحول إلى ميزة أصبح عائقا، بسبب كثرة القوى العاملة في الفضاء العام وتناقض توجهاتها، وعلاوة على المكايدة الظاهرة بين الحكم والمعارضة.

وتصاعد الأمر عقب اندلاع الحرب بين قوات الجيش والدعم السريع، وبذل كلاهما جهودا كبيرة لاستقطاب عناصر مؤيدة وتحييد أو هدم القوى الرافضة، حيث تحوّل الصراع إلى معادلة قاسية، كل طرف يسعى للفوز فيها.

ما يزعج العلاقات بين مصر والسودان أنها باتت رهينة، في جزء كبير منها، لما يتردد من شائعات، وتتأثر بما يمكن أن يتفوه به إعلامي من هنا أو هناك، أو خبر مجهول نشر بلا معلومات مؤكدة يهدف منه أصحابه إلى إحداث شرخ بين البلدين، لأن القوام الرئيسي لا يزال مختلا، ويرتبط بطبيعة النظام الحاكم في كل دولة، والقوى النشطة، خاصة في السودان، والذي يتعاطى أهله السياسة كجزء من حياتهم اليومية، وبعد اندلاع الحرب زاد الانقسام، بعد ميل القاهرة إلى الجيش، اتساقا مع رؤيتها في دعم الجيوش النظامية، واعتقادها أن انهيارها في بعض الدول العربية، عرّضها للخطر.

محمد أبو الفضل

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..