
لم يكن حراك ديسمبر الثوري حدثًا عابرًا، ولا مجرد احتجاجات متقطعة على ضيق العيش وندرة الخبز؛ كان، في جوهره، ارتطام وعي جمعي بلحظة استحالة الاستمرار في ظل البنية الكاملة لنظام عاش على إذلال الشعب السوداني، ثلاثين عامًا.
خرج الناس أول مرة كما يخرج الدخان من صدرٍ مكتوم، لكن ما لبث أن تحول ذلك اللهيب الخافت إلى نارٍ تأكل رماد الخوف، فأيقن الجميع أن هذه ليست انتفاضة موسمية، بل تحوّل نوعي في المزاج العام، يشبه ما وصفه أنطونيو غرامشي حين قال: “الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ يظهر كثير من الأعراض المرضية.”
لكن ما ميّز ديسمبر عن غيرها من انتفاضات السودان هو أنّها نجحت، ولو للحظة، في تجاوز صيغ الاحتجاج الجزئي إلى ما يشبه الإجماع الشعبي — ما يُسميه الفيزيائيون “الكتلة الحرجة”، ويسميه السياسيون لحظة استحالة العودة إلى ما قبلها. بدأ كل شيء في الدمازين، حين خرج عشرات من الشباب والنساء في ديسمبر 2018 يهتفون ضد الغلاء والقمع. كانت تلك اللحظة أشبه بشرارة صغيرة في ركام خانق، لم يتوقع أحد أن تمتد ألسنتها لتشعل مدنًا بعيدة. بعد أيام، التقطت عطبرة النداء، تلتها العاصمة المثلثة، مدني، بورتسودان، كوستي، سنار، سنجة، الأبيض، الفاشر، الجنينة ثم اشتعلت شوارع كل مدن السودان بمواكب لا تهدأ.
وحين تحرّك قطار عطبرة إلى الخرطوم، محمّلًا بالثائرات والثوار، لم يكن مجرد وسيلة نقل عام، بل صار أيقونة الانتقال من الهامش إلى قلب السلطة، وإعلانًا أن الاحتجاجات لم تعد محلية أو موسمية، بل صارت وعيًا يتجاوز الجغرافيا. ثم تمددت الذاكرة الحية إلى كل الأقاليم، وتدفقت الجموع إلى قلب الخرطوم.
في تلك الأجواء، جاءت نساء وادي هور بالطعام إلى ميدان الاعتصام في مشهد مُهيب، تبعهن في التوافد معظم الإثنيات من الشعوب السودانية من أقاصي البلد المترامي الأطراف، حتى بدا وكأن الوطن نفسه قد أعاد ترتيب أعضائه ليقف على قدميه بعد عقود من الانحناء.
غير أنّ من أسقط رأس النظام لم يكن قادرًا وحده على إسقاط جسده العميق. فـ”الكيزان” — الدولة العميقة المكوَّنة من شبكات الحزب الحاكم وأذرعه الأمنية والاقتصادية والإعلامية — لم يكونوا كائنًا غريبًا على جسد الدولة، بل كانوا نسيجًا داخليًا فيها. وقد فهم الخاتم عدلان، مبكرًا، أن معركة التغيير في السودان لن تُحسم بالانقلابات أو بالشعارات، بل “ببناء وعي مدني يُقصي العسكر من السياسة، ويعيد السياسة إلى المجتمع”، وإلا فإن كل ثورة ستجد نفسها رهينة من انحازوا لها مؤقتًا من أجل أن يجهضوها.
منذ لحظة سقوط البشير، بدأ هؤلاء في إعادة تموضعهم. استثمروا اختراقهم للأجهزة الأمنية والجيش والقضاء، وتركوا واجهة الحكم لمجلس عسكري مؤقت، ثم شاركوا على مضض في سلطة انتقالية، فقط ليقوّضوها من الداخل. وعندما اصطدموا بصلابة لجنة إزالة التمكين، انقلبوا عليها بالقضاء والإعلام، ومهّدوا الأرض لانقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي مثّل استدعاءً فجًّا لزمن الإنقاذ بثياب أقلّ إيديولوجية وأكثر فجاجة في طلب المصالح، تحت مسمي “تصحيح المسار”
لكن الانقلاب لم يمنحهم النصر النهائي. فشوارع الخرطوم وأم درمان وبحري وبقية الأقاليم ظلت تصرخ: “لا تفاوض، لا شراكة، ولا شرعية”. ومع تزايد مأزقهم، جاء خيارهم الخائب والأكثر خطورة: إشعال الحرب.
في 15 أبريل 2023، أطلقت كتائب الإسلاميين الرصاصة الأولى في المدينة الرياضية، فانفجرت المواجهة بين الجيش والدعم السريع، لكنها لم تكن حربًا بين مؤسستين بقدر ما كانت إعادة توزيع للأدوار في مسرح قديم.
في الساعات الأولى، فُتحت أبواب سجن كوبر، وغادر قادة الإنقاذ زنازينهم نحو فضاءات بلا قيد، وكأن الحرب صُممت لتُعيدهم إلى الشارع السياسي. كانت هذه هي “الفوضى الخلاقة” في صيغتها السودانية: إحراق البيت من أجل طرد الضيوف، مع العلم أن الرماد سيُعاد تشكيله على هيئة القصر القديم.
وفي كل ذلك، كان الخوف الحقيقي للكيزان ليس من الرصاص أو من خصومهم المسلحين، فقد سمعنا سناء حمد تقول: “وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا”. خوفهم الحقيقي كان من تلك “الكتلة الحرجة” التي صنعت ديسمبر. فالكتلة الحرجة، كما أدرك مهدي عامل في قراءته للثورات العربية المعاصرة، ليست مجرد رقم في الشارع، بل “تلك اللحظة التي يدرك فيها الناس أن النظام القائم ليس قدَرًا، بل حادثة قابلة للإلغاء”. هذه اللحظة إذا وُلدت مجددًا، ستجعل كل هندسة الفوضى وكل أدوات الإعلام المضلل عاجزة عن إيقافها.
ولهذا، جاء هجومهم المضاد على الوعي: جيش من “اللايفاتية” الذين يسكبون السم عبر القنوات، و“القونات” اللواتي ُيستَخدَمن لإغراق الخطاب العام في سطحية وأغاني حماسية مُسلية وركيكة، وناشطو التيك توك الموجّهون لصرف الغضب الشعبي نحو معارك جانبية. إنها محاولة لتفتيت الوعي قبل أن يتراكم إلى حجمٍ يُربكهم. لأن الكتلة الحرجة لا تُهزم بالسلاح وحده، بل تُهزم حين يُعاد تعريف الواقع بحيث يبدو الاستبداد ضرورة، والحرية ترفًا.
لكن، كما أثبتت ديسمبر، فإن الوعي حين يتسع، لا يعود إلى قمقم الخوف. قد يتأخر، قد يتشتت، لكنه في لحظة ما، يتجمع في شكل موجة هادرة لا يوقفها حاجز. وفي هذه المرة، حين تعود الكتلة الحرجة إلى الميدان، لن تكون عابرة، ولن تسمح بأن يُعاد تدوير الخراب نفسه تحت شعارات جديدة. ستخرج، وهي تعرف عدوها جيدًا، وتعرف أن الطريق إلى المستقبل يمرّ عبر تفكيك الدولة العميقة لا عبر التعايش معها.
في النهاية، ربما يكون السؤال ليس كيف أسقطت ديسمبر البشير، بل كيف ستسقط، للمرة الأخيرة و إليّ الأبد، ذلك التحالف العضوي بين البندقية والفساد، وتفتح الطريق أمام ميلاد الجديد الذي تحدّث عنه غرامشي. وحينها، لن يكون القديم في حالة احتضار… بل في حالة دفن نهائي.