مقالات وآراء

هل يصدّق المعلّمون كذبة “اهتمام الوزارة بالتعليم ومصلحة التلميذ”؟! (٢ – ٢)

حسن عبد الرضي الشيخ

مواصلةً لمقالنا السابق، الذي تناولنا فيه سنوات الإنقاذ الثلاثين التي خضع فيها النظام التعليمي في السودان لسلطةٍ سياسيةٍ تعاملت مع التعليم لا كحقٍّ أساسي أو استثمارٍ في مستقبل الأمة، بل كأداةٍ للتوظيف الأيديولوجي، ومصدرِ إزعاجٍ إداري، يمكن تقليصه أو تهميشه حسب مقتضيات السلطة. في ظل هذا الواقع، تم تدمير التعليم بصورة ممنهجة: انهارت المناهج التعليمية، وتآكلت البنى التحتية للمدارس، وتدهورت أوضاع المعلمين ماديًا ومهنيًا حتى صاروا من أكثر فئات المجتمع هشاشة. دعونا نقدح الذهن، ونقدّم بعض الأفكار نُساهم بها في خلق رأيٍ عام يسحب ملف التعليم من أُناسٍ يستحقون المحاسبة على ما تعمّدوا من تخريب فيه.

لم يكن الأمر محضَ تقصيرٍ إداري أو ضعفًا في القدرات التخطيطية، بل كان انعكاسًا مباشرًا لرؤية سلطوية ترى في المعلم موظفًا قابلًا للتطويع، وفي المدرسة ساحةً لضبط الوعي أكثر من كونها فضاءً للمعرفة، وفي التلميذ مشروعًا لتكريس الولاء، لا لبناء الشخصية المستقلة والفاعلة.

واليوم، وبكل بساطة، يعود أولئك الذين ساهموا في إضعاف التعليم إلى المنصات الإعلامية، وهم يتحدثون – بلا أدنى قدرٍ من الشعور بالمسؤولية – عن “إصلاح التعليم”، و”إعادة الاعتبار للمعلّم”، وكأن المأساة التي نعيشها لم تكن نتيجة مباشرة لسياساتهم، بل لعوامل غيبية لا يمكن مساءلة أحد عنها! منطق الإصلاح المغشوش…

إنّ أيّ حديثٍ عن إصلاح التعليم، ما لم يستند إلى مراجعةٍ شجاعة وشاملة للمرحلة السابقة، هو مجرّد خطابٍ تجميلي لا يهدف إلى التغيير، بل إلى امتصاص الغضب العام وتثبيت الوضع القائم.

ذلك أن من أفسد المنظومة التعليمية بسياساتٍ إقصائية، وقراراتٍ ارتجالية، وميزانياتٍ هزيلة، لا يُتوقّع منه أن يحمل مشروعًا حقيقيًا للإصلاح. فالعدالة التعليمية لا تتحقّق في ظل بنيةٍ تفكّر بمنطق السيطرة، ولا في بيئةٍ تستمر في معاملة المعلم بوصفه أداة لا شريكًا أساسيًا في البناء الوطني.

أصبح المعلمون بين القهر المؤسسي ومطلب التغيير. والقضية المطروحة أمام المعلمين اليوم تتجاوز المطالب التقليدية من تحسين الرواتب أو بيئة العمل، على أهميتهما، لتصل إلى عمقٍ أعمق بكثير:
هل يمكن أن يُبنى تعليم وطني حديث في ظل تغييب دور المعلم وتهميشه؟
هل يُمكن أن تتحقق نهضة تعليمية دون تمكينٍ حقيقي للكوادر التربوية، معنويًا ومهنيًا وماديًا؟

المعلمون في السودان مطالبون اليوم بوعيٍ مضاعف، يقاوم محاولات الالتفاف على مطالبهم، ويدرك طبيعة الصراع الذي يخوضونه؛ فهو ليس فقط صراعًا على الحقوق، بل على هوية التعليم ذاته:
هل هو مشروع وطني للتحرير وبناء الإنسان؟
أم مجرد نظامٍ بيروقراطي يُدار من خلف المكاتب لخدمة سلطةٍ غير مبالية؟

ومن هنا، فإنّ على المعلمين والمعلمات أن يتجاوزوا حالة التشتت، وينظّموا صفوفهم ضمن كيانٍ نقابيّ حرٍّ ومستقل، يعبّر عنهم بصدق، ويملك القدرة على التفاوض والضغط بكل الوسائل المشروعة، دون خضوع لابتزازٍ سلطوي أو ترهيبٍ إداري.

تحتّم ضرورة المشروع البديل أن يكون المطلوب اليوم ليس فقط مقاومة السياسات الحالية، بل بلورة مشروعٍ بديلٍ للتعليم في السودان، يقوم على:

مركزية المعلم كفاعل تربوي ومجتمعي، لا كعنصر تنفيذي؛

إعادة صياغة المناهج على أسس علمية وإنسانية تُراعي حاجات المجتمع ومقتضيات العصر؛

تطوير شامل للبنية التحتية للمدارس، خصوصًا في المناطق المهمّشة؛

إدماج التكنولوجيا والابتكار في العملية التعليمية؛

ومأسسة التدريب المستمر للمعلمين بما يعزّز من كفاءتهم ومكانتهم.

دون هذا المشروع، سيبقى التعليم رهينًا للقرارات العشوائية، وسيظل المعلم في موقع الضحية.

في خاتمة المقال، نقول بالفم المليان:
لا إصلاح بلا مساءلة.
فإن ما جرى للتعليم في السودان خلال العقود الماضية ليس حادثًا عرضيًا، بل حصيلة مباشرة لسياسات واعية هدفها السيطرة لا التنوير، والولاء لا الكفاءة، والاستمرارية السلطوية لا التغيير البنيوي.

ولذا، فإنّ أيّ إصلاحٍ حقيقي لا يمكن أن يتم دون مساءلةٍ واضحة لمن تسببوا في هذا الانهيار، ودون إشراك المعلمين أنفسهم في صياغة مستقبل التعليم. أما الاكتفاء بالشعارات الجوفاء، والمبادرات الشكلية، فلن يُنتج سوى إعادة تدوير الفشل.

لقد آن أوان أن يقول المعلمون كلمتهم، لا فقط احتجاجًا على الظلم، بل دفاعًا عن حق المجتمع في تعليم نزيه، حر، وعادل.
وعلى من بيدهم القرار أن يدركوا: أن المعلم الذي أُهين طويلًا لن يقبل بعد اليوم أن يكون تابعًا، بل شريكًا أصيلًا في إعادة بناء السودان من القاعدة التعليمية أولًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..