
في يونيو 1995، وأثناء قمة منظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا، تعرض موكب الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك لمحاولة اغتيال تورط فيها قادة نظام الإنقاذ الإسلامي في السودان، وهو ما أكدته لاحقا تقارير استخباراتية وأممية، وفي أعقاب هذه الحادثة، تحركت القاهرة بسرعة لاستغلال الظرف، فدفعت بقوات عسكرية إلى داخل مثلث حلايب في منتصف العام نفسه، وبسطت سيطرتها العسكرية والإدارية عليه بشكل كامل، ولم تبدي الخرطوم آنذاك أي ردة فعل تجاه هذا التعدي السافر على الأراضي السودانية، وقد فُسِّر هذا الصمت على نطاق واسع كثمن غير معلن دفعته الخرطوم لتجنب أي ملاحقات دولية أو تحرك قانوني مصري ضد قادة النظام.
ومنذ العام 1995 وحتى سقوط حكم البشير في أبريل 2019، ظل المثلث تحت الإدارة المصرية الكاملة، بينما اكتفت الخرطوم بمخاطبات محدودة وخجولة، من بينها دعوة وزير الخارجية الأسبق علي كرتي عام 2010 للتحكيم الدولي، والتي رفضتها القاهرة متمسكة بأن “حلايب أرض مصرية”.
وفي مارس 2021، وخلال زيارته الرسمية إلى القاهرة، ألقى رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك كلمة في ندوة بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، قال فيها: “علينا أن نتحدث في المسكوت عنه”، في إشارة إلى ملف حلايب، وكان ذلك أول تصريح علني من مسؤول سوداني رفيع بهذا الوضوح منذ 26 عاما، ما أثار قلق الكثير من الدوائر المصرية، وتشير بعض القرائن التي تداولتها تقارير إعلامية إلى أن هذا الموقف لعب دورا رئيسي في زيادة التوتر بين الخرطوم والقاهرة قبل انقلاب 25 أكتوبر 2021، إذ نسبت تقارير صحيفة واستخباراتية في حينه لمصادر سياسية قولها إن القيادة السياسية المصرية أجرت اتصالات مع أطراف نافذة في السودان، من بينها قيادات عسكرية، لإيصال رسالة مختصرة: “حمدوك لازم يمشي”.
لم تقتصر الخطوة المصرية على فرض السيطرة العسكرية والإدارية على مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد، بل رافقها مسارا موازيا من الحرب الناعمة عبر وسائل الإعلام والمنصات المختلفة، هدفه ترسيخ الانطباع بأن المثلث جزء أصيل من الأراضي المصرية، وتمثل ذلك في بث خرائط توضيحية للسودان تظهر حدوده مبتورة من هذه المنطقة، حتى في سياقات لا علاقة لها بالنزاع الحدودي، في محاولة منهجية لتطبيع الفكرة وترسيخها في الوعي العام محليا وإقليميا ودوليا.
وفي ذات السياق فقد شهدت الساحة السياسية في السودان خلال الأيام الماضية حالة من الجدل الواسع إثر تقرير فرنسي أفاد بأن القائد العام للجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان قد أخطر لجانا سودانية مختصة باعتماد خريطة جديدة تضم مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد ضمن الحدود المصرية، وذلك في إطار مناقشات ترسيم الحدود البحرية بين السودان والسعودية، فإذا ثبتت صحة هذه الخطوة، فإنها تثير الكثير من التساؤلات القانونية والسياسية المعقدة، إضافة إلى تداعيات محلية وإقليمية هامة، ومع ذلك، لا يمكن فهم هذا التحرك بمعزل عن السياق العام والظروف المحيطة به، إذ يجب النظر اليه كجزء من التسويات الإقليمية والدولية الجارية حاليا حول عدد من الملفات الاقليمية الحساسة، حيث تلعب قضية الحرب والسلام في السودان دورا محوريا ضمن هذا الإطار.
ويأتي الحديث عن التنازل عن المثلث في وقت بالغ الحساسية بالنسبة للسودان، حيث يشهد البلد حالة هشاشة أمنية إثر حرب مدمرة وانقساما داخليا، ما يجعله أكثر عرضة لضغوط الفاعلين الإقليميين، وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الخطوة المحتملة للبرهان كجزء من تسوية إقليمية أوسع، قد تتضمن اولا تنازلات من القاهرة لحلفائها في المنطقة فيما يتعلق بوقف الحرب في السودان، ومن جانب آخر تضمن للبرهان تفاهمات مع القاهرة مقابل دعم سياسي وأمني في مواجهات داخلية محتملة مع أطراف (ضمن تحالف بورسودان) بسبب جهود وقف الحرب، وعلى رأسهم التيار الإسلامي الذي تعتبره مصر مهددا لأمنها القومي، ومن جانبها، قد ترى مصر في هذا التوقيت فرصة لترسيخ سيطرتها على المثلث بشكل نهائي، مستفيدة من الظروف الحالية التي يمر بها السودان.
ولكن، هل يملك البرهان حق التنازل عن مثلث حلايب؟، فمن منظور القانون السوداني، فالسيادة على الأرض ملك للشعب، وأي تعديل في الحدود لا يتم إلا باستفتاء شعبي أو قرار من برلمان منتخب، والبرهان، بصفته القائد العام للجيش وعلى رأس سلطة إنقلابية غير معترف بها، يفتقر إلى التفويض الشعبي أو البرلماني الذي يمنحه صلاحية التنازل عن أراضي وطنية، ووفقا للقانون الدولي، وتحديدا اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات (1969)، فإن أي معاهدة أو اتفاق ينتهك قاعدة دستورية أساسية، مثل وحدة الأراضي، يمكن الطعن فيه واعتباره باطلا، وهذا يعني أن أي “اعتراف” من البرهان بسيادة مصر على المثلث قد يحمل وزنا سياسيا على الأرض، لكنه سيبقى عرضة للطعن القانوني داخليا وخارجيا.
إن إحكام مصر سيطرتها على مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد لا يمثل – في المنظور الاستراتيجي المصري – نهاية المطاف لمطامعها في السودان، بل قد يشكل نقطة انطلاق لتمدد نفوذها باتجاه ملفات وموارد أخرى، خاصة في ظل هشاشة الدولة السودانية، والانكشاف السياسي والعسكري الذي يغري بمزيد من التغلغل في الشأن السوداني تحت ذرائع الأمن القومي أو المصالح المشتركة، فجميع المؤشرات تشير إلى أن أطماع القاهرة في السودان قد تتجاوز هذا المثلث، وقد ظلت مصر تاريخيا تنظر إلى السودان باعتباره عمقا استراتيجيا جنوبيا، وتحرص على ضمان نفوذ سياسي واقتصادي وأمني فيه من استثمارات زراعية في الشمال والوسط، إلى مشروعات ربط سككي وموانئ، وصولا إلى تنسيق أمني في قضايا إقليمية، (مياه النيل، سد النهضة، وأمن البحر الأحمر)، ويبدو أن القاهرة تسعى لترسيخ ارتباط السودان بمصالحها الحيوية على المدى الطويل.
الواقع أن الصراع السوداني المصري حول حلايب وشلاتين يجسد حالة التوتر الكلاسيكي بين القوة الفعلية والشرعية القانونية، فمن الناحية الفعلية، تسيطر مصر على المثلث منذ منتصف التسعينيات وتدير شؤونه إداريا وعسكريا، مستفيدة من تفوقها السياسي والعسكري، ولكن من الناحية القانونية، لا يزال السودان يتمسك بحقه في المثلث، ويملك الأساس القانوني للمطالبة به في أي محفل دولي، شرط أن تتوفر له الظروف السياسية الملائمة، ففي ظل الحرب المشتعلة بالسودان، فإن أي خطوة من البرهان في هذا الاتجاه ستظل مثار جدل داخلي ودولي، حتى وإن دعمتها قوة الأمر الواقع، لتبقى الأسئلة الأهم اليوم ليست فقط: “هل تنازل البرهان عن حلايب؟” بل أيضاً: “إلى أي مدى سيصل النفوذ المصري في السودان في وجود البرهان؟” و”هل يمكن للسودان، في ظرفه الراهن، أن يحافظ على سيادته كاملة؟”.