حديث الكتب (٦) ..”الرسالة الثانية من الإسلام”

حسن عبد الرضي الشيخ
الرسالة الثانية من الإسلام هو كتاب فكري عميق، كتبه الأستاذ محمود محمد طه في ستينيات القرن العشرين، ويعد أحد أعمدة الفكرة الجمهورية التي نادى بها لإحداث نهضة شاملة في فهم الدين، وإعادة بعث رسالة الإسلام بروح جديدة تتماشى مع تطور الإنسان واحتياجات العصر الحديث.
جاء الكتاب ليقدّم قراءة تجديدية وجذرية للإسلام، تفرق بين الرسالة الأولى التي تمثلت في الشريعة الإسلامية المطبقة في القرن السابع، وبين الرسالة الثانية التي تمثّل المقاصد العليا للإسلام، والممكنة التطبيق في مستقبل البشرية، حيث تنضج الإنسانية وتتهيأ لتطبيق تعاليم الإسلام العليا، القائمة على الحرية والعدالة والمساواة.يرى الأستاذ محمود أن الرسالة الأولى كانت تخاطب مجتمعات القرن السابع الميلادي، وتناسب تلك الظروف التاريخية، بينما الرسالة الثانية هي جوهر الإسلام وروحه، التي تعلي من شأن الحرية الفردية المطلقة، والمساواة بين الرجل والمرأة، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والاشتراكية التعاونية.
يرتكز الكتاب على أن القرآن المكي، الذي سبق الهجري، هو التعبير الأسمى عن هذه الرسالة الثانية، لأنه يحمل القيم النهائية التي لم تكن ممكنة التطبيق وقتها، نظرًا لبدائية المجتمع. بينما جاءت آيات القرآن المدني، في المرحلة الأولى من الإسلام، لتكون شريعة مؤقتة تراعي الواقع الاجتماعي المتأخر حينها.
✦ تشويه الفكرة وتكفير صاحبها
للأسف، جوبهت هذه الفكرة النورانية بالتكفير والتشويه من قبل بعض من يُطلق عليهم “رجال الدين”، الذين لم يتحملوا قوة الأستاذ محمود في نقد التقاليد الدينية الجامدة.
وبدلًا من مناقشته بالحجة، لجأوا إلى التحريض والتهييج، وانتهى الأمر بإعدامه ظلمًا عام ١٩٨٥، في مشهد مأساوي يؤرخ لجهل المؤسسة الدينية الرسمية، وعجزها عن قبول التجديد.
لقد تم منع الناس، خاصة الشباب والمثقفين، من قراءة كتبه، وتشويه فكره الثوري الذي أراد تحرير الإسلام من قبضة الجمود الفقهي، وتحرير الإنسان من الخوف والوصاية.
كل ذلك لأن فكر الأستاذ محمود كان يهدد مصالح سلطة دينية مستفيدة من بقاء الناس في الظلام.
✦ علاقة “الرسالة الثانية” بواقع اليوم
حين ننظر إلى واقعنا اليوم في ٢٠٢٥، نرى بأمّ أعيننا كم نحن في أمسّ الحاجة لفكر الأستاذ محمود محمد طه.
لا تزال مجتمعاتنا غارقة في:
الاستبداد السياسي وغياب الديمقراطية،
قمع الحريات باسم الدين والتقاليد،
تهميش المرأة،
التطرف والانغلاق الفكري،
التدهور الاقتصادي والتنموي.
كل هذه الأزمات تعود في جزء كبير منها إلى عجزنا عن تجديد فهمنا للدين، وتمسكنا بتطبيقات تاريخية تجاوزها الزمن، بدلًا من الانفتاح على روح الإسلام كما عرضها كتاب “الرسالة الثانية”.
لو كنا قد استوعبنا فكر الأستاذ محمود في حينه، وتبنّينا دعوته لفهم القرآن فهما جديدا واستوعبنا تطوير الشريعة المؤقتة نحو الشريعة الإنسانية العليا، لكنا اليوم في مصاف الأمم المتقدمة. لكن التأخير في الفهم والعجز عن التجديد هو ما أبقانا في ذيل الأمم.
✦ لماذا نحتاج الآن إلى “الرسالة الثانية”؟
نحتاج إلى “الرسالة الثانية” اليوم ليس فقط ككتاب، بل كمشروع فكري وتربوي وسياسي وأخلاقي شامل، يضع الإنسان في مركز الاهتمام، ويعيد تعريف الدين على أنه وسيلة لتحرير الإنسان، لا لتقييده.نحتاجها لنحقق:
مجتمعًا مختلطًا صحيًا، خاليًا من العقد الجنسية والنفسية،
تعليمًا يربّي لا يلقّن،
حرية فكرية تحمي التعدد والاختلاف،
اشتراكية تضمن الكرامة الاقتصادية للجميع،
وديمقراطية لا تقوم على الورق فقط، بل على الوعي والعدالة.
✦ خاتمة
الرسالة الثانية من الإسلام هي دعوة لإعادة اكتشاف الإسلام كرسالة حب وحرية وعدالة. هي نداء للمستقبل، كتبه رجل سابق لعصره، دفع حياته ثمنًا لفكر جريء. وكلما طال تأخرنا في قراءته، طال مكثنا في مستنقع الجهل والتخلف.
لقد آن أوان العودة إلى كتب الأستاذ محمود محمد طه، لا لنؤمن بها كما هي، بل لنتعلم كيف نفكر مثله: بجرأة، وبصيرة، وإنسانية.