مقالات سياسية

أزمتنا التي انتهت بهذه الحرب

احمد الفكي

قدمت هذه الملاحظات اثناء تواجدي في القاهرة قبل شهر كمساهمة في نقد روية صمود. ولاني اظن ان هذه المساهمة تتعدي مذكرة صمود وتحاول مقاربة أزمتنا منذ ان نالت بلادنا استقلالها رأيت ان اخرج بهذه الملاحظ الي قطاعات اوسع من بنات وابناء شعبنا.

الغرض هو فتح باب النقاش البناء والجاد حول أزمتنا التي انتهت بهذه الحرب كاحد ثمارها المرة.

والان الي ملاحظاتي التي لا ادعي انها الحقيقة الكاملة او النهائية:

تأتي هذه المذكرة كمساهمة نقدية بنّاءة تهدف إلى تعزيز وثيقة “صمود” عبر تسليط الضوء على ما نعتقد أنه قصور في معالجة جذور الأزمة السودانية.

فالمشكلة لا تكمن فقط في العسكر أو الإسلاميين كفاعلين سياسيين، بل في البنية الكلية للدولة السودانية، التي أخفقت تاريخيًا في إدارة تنوعها، وبناء نظام سياسي يعكس تعددها البنيوي.

ثانياً: جوهر الأزمة السودانية – أزمة هوية وعقد اجتماعي

السودان ليس أمة متجانسة، بل دولة شعوب متعددة اللغات، الأديان، والثقافات.

وقد فشلت النخب السياسية المتعاقبة في بناء عقد اجتماعي طوعي يعترف بهذا التعدد، بل اعتمدت على نماذج حكم قائمة على المركزية القسرية، والهيمنة الثقافية والدينية، وعسكرة السياسة.

إن إعادة بناء السودان لا تبدأ من استبدال من في السلطة، بل من إعادة تعريف الدولة ذاتها، وهويتها، ووظيفتها، وحدود شرعيتها.

ثالثاً: ما غفلت عنه وثيقة صمود

رغم أن الوثيقة تطرح مطالب عادلة في ظاهرها، إلا أنها أغفلت تناول الجذور الحقيقية للأزمة السودانية، ومنها:

الهوية الوطنية الغامضة: لم تُقدّم الوثيقة تصورًا واضحًا لهوية وطنية تتّسع للجميع دون صهر أو استيعاب.
نمط الدولة المركزي: لم تُطرح بدائل هيكلية كافية لإعادة توزيع السلطة على أساس ديمقراطي يعترف بتعدد الأقاليم.

العدالة الثقافية: لم يتم الاعتراف بأن الإقصاء في السودان لم يكن فقط سياسيًا واقتصاديًا، بل ثقافيًا ولغويًا ودينيًا.
الفهم الأداتي للديمقراطية: تُعامل الديمقراطية كمجرد آلية للحكم دون مساءلة لمدى مواءمتها مع الواقع الاجتماعي والسياسي المركب في السودان.

رابعاً: نحو نموذج سياسي جديد – التعدد المتماسك وتوطين الديمقراطية

١- التعدد المتماسك (Coherent Heterogeneity):

ينبغي الاعتراف بأن السودان لا يمكن أن يُدار كوحدة متجانسة، بل يجب أن يُعاد بناؤه كدولة تقوم على مبدأ:

“الاختلاف المعترف به، المنظم دستوريًا، والمحفوظ ضمن وحدة طوعية.”
وهذا يقتضي:
نموذج فدرالي عميق يعطي الأقاليم صلاحيات تشريعية وتنفيذية حقيقية.
حماية التنوع اللغوي والثقافي في التعليم والإعلام والسياسات العامة.
اعتراف دستوري بأن السودان بلد متعدد الهويات والانتماءات.

٢- الديمقراطية المتجذّرة (Bounded Applicability):

تجارب الديمقراطية السودانية، رغم قلتها، كانت ديمقراطيات “بُعاتية” (Zombie Democracies)، بلا روح، بلا قبول للاختلاف، ولا أدوات لاستثماره.

نقترح تبني نهج:

“التطبيق المحدود للديمقراطية الليبرالية” – أي:
نستلهم المبادئ الكبرى مثل التداول السلمي، الحريات، فصل السلطات،
لكننا نبتدع الهياكل والنظم والطرق التي تُناسب واقعنا الثقافي والاجتماعي.
بمعنى: نحن نحتاج إلى ديمقراطية متجذّرة، لا منسوخة.

خامساً: مقترحات عملية

صياغة دستور تأسيسي جديد يعترف بالتعدد كقيمة لا كعبء.
بناء نظام فدرالي حقيقي يمنح الأقاليم سلطات تشريعية ومالية وإدارية.
إصلاح التعليم والإعلام لخلق وعي وطني تعددي.
إدماج العدالة الثقافية ضمن العدالة الانتقالية، مع جبر الضرر الثقافي واللغوي.
ابتكار نماذج تمثيل سياسي مرنة (كوتا ثقافية، مجالس محلية قوية، دوائر انتخابية عادلة).
إنشاء ميثاق وطني للتعايش يُدرّس في المدارس ويُترجم في السياسات العامة.

سادساً: خاتمة

لا يمكن للسودان أن ينهض ما لم يُواجه الحقيقة الجوهرية:

أن المركزية القهرية انتهت،
وأن التعدد لا يُدار بالهيمنة بل بالاعتراف والتمكين والمساواة.
نحن بحاجة إلى مشروع سياسي جديد، يربط بين:
التنوع الحقيقي الذي هو جوهر السودان،
والوحدة الطوعية التي تحفظه من الانهيار.

ليس المطلوب أن نعيد بناء الدولة القديمة بوجوه جديدة،
بل أن نبتدع دولة جديدة تليق بتعقيدنا وتاريخنا وأحلامنا

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..