مقالات سياسية

الموظف الأممي: قناعٌ على وجه الوطن

دكتور الوليد آدم مادبو

*“لا تحاول أن تكون محبوبًا، بل حاول أن تكون صادقًا، فالحقيقة وحدها تترك أثرًا خالدًا.”*
— جلال الدين الرومي

رأيته أوّل مرّة في ردهة الفندق الكبير بالخرطوم، ينزل من سيارةٍ بيضاء تحمل شعار الأمم المتحدة. مشى بخطى محسوبة، بربطة عنق زرقاء تلمع تحت شمس مغبرة، كأنما جاء ليعلن افتتاح زمنٍ جديد. لكن ما إن اقترب، حتى بدا وجهه أقرب إلى قناعٍ من بلاستيك: ابتسامة ثابتة، نظرة زجاجية، وحركة يد مدرّبة على المصافحة أكثر مما هي صادقة في المودّة.

ذلك هو *الموظف الأممي*؛ كائنٌ مشطور بين عالمين: بجسده يقيم بيننا، لكن عقله ما يزال حبيس قاعات فيينا وجنيف. يعرف كيف يتحدث الأسبانية والفرنسية، كيف يلوك مفردات المؤتمرات، كيف يرصّع خطاباته بعبارات من قبيل الحوكمة والتمكين المؤسسي، لكنه عاجز عن أن يفهم دمعة أرملة أو أنين يتيم أو شكاية فلاح. *يتقن اللغة لكنه يجهل الروح، يردد الكلمات لكنه لا يعي المعاني* (اللوحة أعلاه للفنان إبراهيم الصلحي).

يحسب الثقافة زينةً تُضاف إلى سيرة ذاتية أو وسامًا للتلميع الإعلامي، لا أداةً للاستنارة ولا سُلّمًا للتجذر المعرفي. يكتب تقاريره كما يوضّب حقيبة سفر: بمهارة آلية، بلا عمق، بلا وعيٍ بما وراء الأرقام والعبارات الرسمية. *يضحك في الندوات ضحكًا أجوف، ويستعرض شهاداته الأكاديمية كأنها صكوك غفران تمنحه قداسة مصطنعة*. وهو في ذلك كله متملّقٌ يجعل مرضاة مديره أهم من الحقيقة العلمية أو المنطق المهني، مجبول على توضيب الأوراق لكنه يجهل منهجية التفكير، متلهفٌ إلى مكانته في عيون الآخرين، لا في مرآة ذاته.

وليس ذلك فحسب: ففي بيته المشيّد على أطراف المدينة، يلمع حوض سباحة زرعته يد مقاولٍ محلي، كجائزة صغيرة على عطاءٍ أممي كبير. *هناك، في عزلة مترفة، يعيش الرجل الذي يفترض أنه ممثل لقيم النزاهة والشفافية.* كيف له أن يتحدث عن الفقر وهو يساوم المقاولين على رشوة خفية؟ كيف له أن يعظ عن الكرامة وهو يطأطئ الرأس لبغل من بغال العسكر؟

هو أيضًا جاهلٌ بتاريخ الأرض التي يزعم أنه جاء لإنقاذها. لا يعرف جغرافيتها الاجتماعية ولا مرجعية أهلها الأخلاقية، ولا يفقه شيئًا من تراثها، ورغم ذلك يرى لنفسه حقًا على الشعب، بينما لا يرى للشعب أي حق عليه. *نرجسي ينصب جل تفكيره على معاشه الشخصي، بدل سفرياته وتأمينه الصحي*، ينسى معاناة أهله الأقربين والأبعدين، وكأن وطنه مجرد خلفية لتصوير صورته، وأمته مجرد منصة لصعوده.

أخطر ما فيه هشاشته: *رجلٌ لا يقوى على الوقوف خارج الدائرة الرمادية*. لا يجرؤ أن يقول “نعم” كاملة، ولا “لا” صريحة. يساير الجميع، يهادن الجميع، يرضى بالقليل من أجل أن يظل في المشهد. تراه يلهث خلف مرضاة مديره الأجنبي، كأن مرضاته أسمى من منطق العقل أو من شرف الحجة.

وعند كل نائبة تحل بالوطن، يتسلل انتهازية إلى السطح. *يرى في انهيار الدولة فرصة لتتويج طموحه، وفي دماء الأبرياء منصة لصعوده*. لا يحس بثقل المأساة، بل يراها حجرًا آخر يُضاف إلى سلّمٍ شخصي يبنيه ليصعد في هرمٍ دولي بارد.

ورغم أنه عاش سنوات في أوج الحضارة الإنسانية، ما يزال عقله ووجدانه يرسفان في أغلال القرون الوسطى. *يلعن الفاشية الدينية وهو ينقاد للفاشية الوطنية. يتحدث عن الحرية والديمقراطية، ثم يردد شعارات غوغائية كأنها تعويذة للبقاء*. إنه كائن بلا جذور، مسكون بهزيمة داخلية لم يعترف بها يومًا، هزيمة جعلته يرى بياض الأوروبي فخارًا مستحقًا، والأمم الأخرى درجات أدنى في سلّم الحضارة.

طوال سنوات الغربة عاش ذاك الموظف الأممي متخفيًا، يقيم الناس له قدرًا ويظنون به خيرًا، بل يتهيبونه لما يتخيّلون لديه من تحصيلٍ ثقافي ومعرفي. بمعنى آخر، *كان يعتقدون أن “القبة تحتها فكي” كما يقول الأهالي، لكن الأيام ما لبثت أن كشفت ستره، وأبانت للناس حقيقته*؛ فإذا هو خواء لا يملأ فراغًا، وسرابًا لا يروي عطشًا، فلا هو باء بالتقدير، ولا عرف حسن التدبير لحاله، ولا نكاد نرى فيه إلا قناعًا لامعًا يخفي هذا الفراغ الداخلي وظُلمة تغطي تلك الذات المقيتة.

فلنحذر، إذن، أن ننخدع مستقبلًا بالبريق الشخصي. ولنعلم أن الموظف الأممي ليس قائدًا، ولا زعيمًا، ولا نبيًا مرسلًا. وقد دلت التجارب على أنه موظف فحسب . والويل لأمةٍ تنسى أن القناع ليس الوجه، وأن الظل ليس الضوء *”أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا”* (الفرقان: 45).

August 17, 2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..