مقالات وآراء سياسية

السودان وطن المتعدد

مها طبيق

قال أبٌ لابنته النوبة ذات يوم : ( لا تتعلم اللغة النوبة ، بحقرو بيكي ) . باختصار، باختصار تختصر مأساة طويلة من الاستعلاء اللغوي والثقافي في السودان، حيث تمكنت بعض اللغات من رمز للهوية إلى وسمة اجتماعية .
في حين يخاف أبنا على حديثه من خطاباتها الأم، فإن ذلك يعني دلالة واضحة بشكل جماعي عبر عقود، رُبطت فيها العربية بالهيبة والتقدم، في حين وُصمت بقية اللغات بالتخلّف والريفية. هكذا تشكلت خوفًا من جواز السفر ، وتحررت من الاعتراف الاجتماعي بالتخلي عن الذات .
ولأن المرأة هي أساس لحفظ اللغة داخل البيت من خلال الغناء والسرد والحكي، فإن حرمانها من لغتها لا يعني فقط مثلها، بل هو في الحقيقة للوصول للجذور ولسلسلة التوارث الثقافي . وهنا يتحول المنع البسيط إلى فعل سياسي مباشر غير متوقف عن إعادة إنتاج الشخصية العائلية داخل نفسها.
الأخطر أن هذا القمع يأتي من المهمشون ويلزمون حتى يردون خطاب الإقصاء على أبنائهم . هذا هو الاستلاب المزدوج : أن يتحول إلى أداة بيد القامع ، فيورث أجياله ذات الوعي المشوه .
لكن بناء مشروع وطني حقيقي لا يمكن أن يقوم على اللغة العربية وحدها . صحيح أن العربية جزء أساسي من أصول السودان الثقافية، ومع ذلك ليست المظلة وحدها ولا ينبغي أن تقاس الوطنية أو الحداثة بها وحدها . المشروع الوطني الذي نحتاجه هو مشروع متعدد التعددية ، حيث تعيش النوبة ، والبجاوية ، ولغات النوبة ، ودارفور ، مشهورة ، والجنوب إلى جنب مع العربية في المساواة من حيث القيمة والاعتراف .
حيث يتحول هذا الوعي إلى نهضة عملية ثقافية، لا بد من خطوات الإدارة :
أولها الاعتراف الدستوري بكل لغات السودان كلغات تتكلم عن الشعب لا مجرد تراث محلي ؛ وثانيها مطلق هذه اللغات في التعليم الأساسي حتى ينشأ الأطفال وهم يخسرون بأنفسهم ؛ وثالثها إصلاح الإعلام ليعكسا المتعددة بدل الاكتفاء بالصوت الواحد ؛ وأخيرًا تحرير الوعي من وهم أن العربية وحدها الهيبة ، وكسر فقط ما يجعل اللغة سببًا للاحتقار .
إن جملة لابنته ـ ( لتعلم اللغة النوبة ، صحيح بيكي ) هي مرآة لقرن من سياسات الإخبار . ومع ذلك، فلنتذكرنا بخيارنا الوحيد: أن نعيد بناء السودان على أساس الاعتراف بها لا إنكارها، وعلى احترام التعددية لا قمعها . عندها فقط ستنظم النوبية وغيرها من لغات السودان من وسمة يخافها الناس إلى عنوان للفخر الجماعي والاعتزاز بالهوية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..