مقالات وآراء

سُلْطَتَان فِي احْتِرَابِ السُودَانِ: صِفْرُ حُكُومَةٍ وَصِفْرُ دَوْلَةٍ (2)

 

بروفيسور مكي مدني الشبلي

الافتتاحية

إن انهيار الحكم تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF) لم يقتصر على شل الإدارة العامة؛ بل فكك الأسس الجوهرية للدولة السودانية ذاتها. فما بدأ كصراع سياسي وعسكري تحوّل إلى انهيار بنيوي شامل، بحيث لم يعد هناك أي كيان يملك الامتداد الإقليمي، أو القدرة المؤسسية، أو الشرعية اللازمة للقيام بأبسط وظائف الدولة. وفي ظل هذه الظروف، لم يعد السودان موجوداً ككيان سياسي، بل كأرض معركة: حدوده مفتوحة، اقتصاده قائم على النهب، ومؤسساته إما مدمرة أو مستوعبة داخل فصائل مسلحة.

هذا الانحدار إلى حالة “صفر دولة” ليس مجرد تجريد نظري، بل حقيقة ملموسة يمكن قياسها عبر الانهيار الاقتصادي، وتفكك السيطرة الإقليمية، وانهيار سيادة القانون، وتشريد الملايين. المقال السابق تناول سبب استحالة الحكم في ظل ثنائية القوات المسلحة–الدعم السريع أي حالة “صفر حكومة”؛ أما هذا المقال فيتصدى للحقيقة الأعمق: أن التمزق البنيوي والمؤسسي والإقليمي في السودان قد أفضى إلى حالة “صفر دولة”.

الانهيار الاقتصادي: دولة بلا قدرة مالية

المعمار المالي للسودان في حالة سقوط حر. فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 12% في عام 2023، بينما توقّع صندوق النقد الدولي انكماشاً إضافياً بنسبة 18.3% في 2024، أي انخفاضاً تراكمياً بأكثر من 50% خلال عامين. وتشير تقديرات بديلة إلى أن إيرادات الدولة قد انهارت بما يصل إلى 80%، نتيجة لفقدان السيطرة على أراضٍ واسعة وتحويل الموارد لتمويل المجهود الحربي. فقد البنك المركزي السوداني السيطرة على السياسة النقدية. إذ تتداول حالياً نسختان من الجنيه السوداني في آن واحد، بعدما فشلت حكومة بورتسودان في استبدال العملة القديمة حتى في المناطق الواقعة اسماً تحت سيطرتها. هذا النظام المزدوج للعملة يقوّض الانضباط المالي، ويغذّي تضخماً تجاوز الآن 400%، ويفتح المجال أمام التدفقات المالية غير المشروعة. رواتب القطاع العام، حين تُدفع، غالباً ما تُموّل عبر قنوات غير شفافة وغير منتظمة، وغالباً ما تُستكمل بتحويلات نقدية إنسانية. وانخفضت نسبة الضريبة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 2% فقط، بعدما كانت 5% قبل اندلاع النزاع، وهو ما يشير إلى التآكل شبه الكامل لقدرة الدولة على تعبئة إيرادات محلية. ويقدّر بنك التنمية الأفريقي أن السودان يخسر أكثر من 5 مليارات دولار سنوياً عبر هروب رؤوس الأموال، والتلاعب في الفواتير، والتهرب، وهي ممارسات تقوم بها المكونات المسيطرة في السلطتين المتنافستين في بورتسودان ونيالا.

التفكك الجغرافي والمؤسسي

لم يعد للدولة السودانية أي سلطة موحدة قادرة على فرض القوانين أو إدارة الخدمات عبر أراضيها المعترف بها دولياً.

• الخرطوم مدينة أشباح: بعدما كانت القلب الإداري والاقتصادي للسودان، أصبحت العاصمة شبه خالية من السكان منذ أوائل 2024، مع تسارع النزوح رغم السيطرة الاسمية للقوات المسلحة. الوزارات، والمحاكم، والمكاتب العامة لا تزال مغلقة، والخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء غائبة تماماً.

• المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع: يسودها غياب القانون. الضرائب العشوائية، والتجنيد القسري، وغياب الرقابة القضائية تدفع إلى نزوح جماعي من دارفور، وجنوب كردفان، وغيرها من المناطق المتنازع عليها.

• انهيار المؤسسات: السلطة القضائية، والخدمة المدنية، وأجهزة الشرطة إمّا توقفت عن العمل بالكامل أو استُبدلت بهياكل قيادة فصائلية، مما زاد من تآكل ثقة العامة.

الانهيار الإنساني خير شاهد على غياب الدولة إن الكارثة الإنسانية في السودان هي في آنٍ معًا نتيجة لانهيار الدولة ودليلٌ قاطع عليه.

• النزوح: وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، تمّ إجبار 12.8 مليون شخص على مغادرة منازلهم، من بينهم 3.9 مليون لجأوا إلى الدول المجاورة.

• التعليم: تشير اليونيسف إلى أنّ ما يقارب 17 مليون طفل—أي نحو 90% من أطفال السودان في سن الدراسة، خارج المدرسة، في واحدة من أكبر أزمات التعليم في العالم.

• الصحة: يواجه أكثر من 25 مليون شخص الآن انعدامًا حاداً في الأمن الغذائي. كما يُهدِّد سوء التغذية الحاد الوخيم 770,000 طفل دون سن الخامسة في عام 2025، فيما أصاب تفشي الكوليرا ما يقارب 100,000 شخص وامتدّت إلى تشاد.

• الجوع: تضرب أزمة غذاء هائلة أكثر من 25 مليون شخص. وقد ترسّخت المجاعة والجوع الحاد في عدة مناطق، بما فيها شمال دارفور.

إن عجز أيٍّ من السلطتين في بورتسودان ونيالا عن الحفاظ على منظومتَي التعليم والصحة بوصفهما خدماتٍ عامةً عاملة يرسّخ غياب قدرة الدولة.

غياب العدالة وانهيار سيادة القانون

انهار النظام القانوني في أجزاء واسعة من السودان إلى درجة يتعذّر ترميمها. فقد دُمِّرت أو نُهِبت أو تُرِكت مخافرُ الشرطة والمحاكمُ ومرافقُ السجون.

وفي مخيمات النازحين والمناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، لا توجد أجهزة لإنفاذ القانون تعمل فعلًا.

وثّق مكتب مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان مقابر جماعية تضمّ أكثر من 1,000 جثة قرب مواقع احتجاز تابعة لقوات الدعم السريع في الخرطوم وأم درمان. وقد حلّت الاعتقالات التعسفية والإخفاءات القسرية والإعدامات خارج نطاق القضاء محلّ الإجراءات القانونية الواجبة. وتُحسَم حقوق الملكية والنزاعات المدنية بشكل متزايد على يد قادة الميليشيات، بما يعمّق نظام أمراء الحرب.

الاقتصاد السياسي لصفرية الدولة

لقد أصبحت اقتصادات الحرب النظام السياسي–الاقتصادي المهيمن في السودان اليوم.

• اقتصاد الذهب لدى قوات الدعم السريع: بالسيطرة على المناطق الغنية بالذهب في دارفور وجنوب كردفان، تقوم قوات الدعم السريع بتهريب سبائك الذهب عبر قنوات مرتبطة بدولة الإمارات. وتشير التقديرات إلى أن الصادرات غير المسجَّلة من الذهب تبلغ قيمتها مليارات الدولارات سنويًا، ما يحرم الخزينة العامة من موارد حيوية.

• احتكارات الممرات التجارية لدى القوات المسلحة السودانية: تستغل القوات المسلحة السودانية سيطرتها على ميناء بورتسودان وممر البحر الأحمر لفرض رسوم جمركية وأجور مناولة الموانئ وضرائب على الوقود، فيتم تحويل جزء كبير من هذه الإيرادات إلى حسابات عسكرية خارج الموازنة.

• تخلّي كامل عن أولويات المدنيين: حلت مخصصات الإنفاق العسكري محل الميزانيات الموجهة للبنية التحتية والتعليم والصحة. وباتت المنظمات الإنسانية هي التي تقدم الخدمات التي كانت الدولة تضطلع بها سابقًا، مما يكرّس أكثر فأكثر حالة غياب الحكم.

إن اقتصاد الحرب ليس مجرد نتاج ثانوي للنزاع؛ بل يمثل حافزاً بنيوياً لاستمراره. فكلا الطرفين يحققان مكاسب مالية مباشرة من استمرار الأعمال القتالية، مما يجعل السلام تهديداً مباشراً لمصالحهما الاقتصادية.

انعدام الدولة يسبب تداعيات إقليمية ومخاطر دولية يمثل انهيار السودان تهديداً حاداً للاستقرار الإقليمي والأمن العالمي.

• ضغوط اللاجئين: تستضيف مصر أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوداني، وتشاد ما يزيد عن 400 ألف، بينما تؤوي جنوب السودان أكثر من مليون، وهي أعداد ترهق اقتصادات ومؤسسات هشة بالفعل.

• المخاطر الأمنية: إن فراغ الحوكمة يهدد بتحويل السودان إلى ملاذ للجماعات الإرهابية العابرة للحدود، وتجار السلاح، ومهربي البشر، في وقت تتعرض فيه طرق الهجرة عبر البحر الأحمر والبحر المتوسط لضغوط متزايدة على السعودية ودول الاتحاد الأوربي.

• حروب الوكالة: لا تزال قوى خارجية، تشمل مصر والإمارات والسعودية، تدعم أطرافاً مختلفة في النزاع، مما يطيل أمد الصراع ويعيق استعادة الدولة الموحدة.

مسارات إعادة بناء الدولة والحوكمة والنهوض المؤسسي يتطلب استعادة قدرة الدولة السودانية نهجاً متكاملاً ومتسلسلاً يعالج الأزمة الإنسانية الآنية والانهيار الهيكلي في أنظمة الحوكمة. ويشمل ذلك، فيما يشمل:

أ. وقف إطلاق نار شامل يخضع للرقابة: ينبغي تنفيذ وقف إطلاق نار على مستوى السودان يتولى مراقبته فريق بقيادة الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيقاد، مع الاستعانة بتقنيات المراقبة عبر الأقمار الصناعية، وخطوط اتصال عاجلة لتفادي النزاعات، إلى جانب إنشاء لجان محلية تضم ممثلين عن المجتمع المدني والشيوخ ومجموعات النساء.

ب. إرساء ممرات إنسانية ملزمة: يجب تكريس ممرات إنسانية في أوامر رسمية ملزمة، على أن يؤدي أي انتهاك لها إلى فرض عقوبات مالية مباشرة على الجهات التي تقدم الدعم للطرف المسؤول.

جـ. آلية محايدة لتحويل الأموال: من الضروري وضع نظام تحويل نقدي محايد يسمح بتوجيه أموال المانحين بشكل مباشر لسداد رواتب موظفي القطاع العام، واستعادة الخدمات الأساسية، وتعزيز استقرار المجتمعات، بعيداً عن أية تدخلات عسكرية أو فصائلية.

د. تسوية سياسية جامعة: يجب أن تتجاوز التسوية السياسية الاتفاقيات الثنائية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لتشمل بالتدرج التحالفات المدنية، لجان المقاومة، الحركات النسائية، الفاعلين الإقليميين، والمجموعات المهمشة، بما يضمن الشرعية والمشاركة الواسعة في إدارة المرحلة الانتقالية.

هـ. إصلاح قطاع الأمن: دمجٌ تدريجي للقوات، تفكيكُ الوحدات الموازية، مهننة القيادات، وإخضاع المؤسسة الأمنية لرقابةٍ مدنية وبرلمانٍ انتقالي.

و. عدالة انتقالية وسيادة قانون: آليات مساءلةٍ مختلطة، وحماية الضحايا والشهود، واستعادة الأصول المنهوبة، وإعادة بناء الجهاز القضائي والنيابة.

ز. تنسيق إقليمي فعال: ينبغي على مصر، الإمارات والسعودية الانتقال من سياسات الدعم المتنافسة إلى تيسير جهود سلام منسقة ضمن إطار عربي-إفريقي متفق عليه، بحيث يربط الدعمَ الاقتصادي والسياسي بضمانات السلوك وامتثال خريطة الطريق.

ح. إشراف دولي محدد الأجل على عملية الانتقال: يستلزم الانتقال وجود مراقبة دولية فعالة لعملية استعادة الحوكمة، عبر خطة واضحة لقياس تقدم تعافي المؤسسات، وتعزيز سيادة القانون، ودمج آليات تضمن عدم الانتكاس نحو الاستبداد أو العودة إلى الحرب. هذه الخراطة للطريق توفر أساساً عملياً لاستعادة دولة سودانية فاعلة، وشرعية، وقادرة على الصمود تحت إدارة حكومة مدنية واحدة مسنودة شعبياً. إن تجاوز حالة “انعدام الدولة” في السودان يتطلب تفكيك اقتصاديات الحرب الراسخة، وتحجيم التدخلات الخارجية المعرقلة، وإعادة بناء المؤسسات من الأساس.

الخاتمة: “صفر حكومة وصفر دولة” — تحذيرٌ إقليمي ودولي

يُجسِّد السودان كيف تُفضي الحربُ وتدخّلاتُ الرعاة الخارجيين إلى تحويل بلدٍ ذي مؤسساتٍ إلى فسيفساء من سلطاتٍ مسلّحة متنازعة بلا شرعيةٍ ولا خدماتٍ عامة. إن وضعية “صِفر حكومة وصِفر دولة” ليست مأزقاً سودانياً صرفاً؛ إنها علامةُ فشلٍ جماعي للدبلوماسية الإقليمية والدولية. وإذا لم تُعالَج جذور الأزمة، فلن يبقى الانهيار داخل الحدود: فـالفراغ الحاكِم والحدود المسامية المُخترَقَة واقتصاد الحرب الخفي ستجعل من السودان ملاذاً لشبكاتٍ إرهابية عابرة للحدود، ومنصّة للهجرة غير النظامية عبر البحرين الأحمر والمتوسط لدول الخليج والدول الأوربية، ومولِّدًا دائمًا للاجئين يُزعزع استقرار الدول المجاورة. وتتهدّد هذه الديناميات السلمَ والأمن في أفريقيا والعالم العربي، بل وعلى المستوى الدولي. إن إعادة بناء السودان تبدأ بالاعتراف بالانهيار المؤسسي العميق وبحاجة البلاد إلى عملية سلامٍ متعددة الأبعاد تُعيد تأسيس الدولة على قاعدة الشرعية المدنية وسيادة القانون. فقد دمرت ازدواجية القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع الحكم؛ ويتمثل إرثها الأعمق في انهيار الدولة السودانية نفسها. وعليه فإن استعادة الدولة وإعادة بناء السودان تتطلب أكثر من مجرد إنهاء القتال؛ ستحتاج إلى إدراك التبعات الوخيمة للانهيار الداخلي، وأهمية إطلاق عملية سلام استراتيجية متعددة الأبعاد. ومفتاح ذلك هو بناء حكومة مدنية شرعية يمكنها ممارسة السلطة في جميع أنحاء السودان، وتوفير المنافع العامة، واستعادة البلاد كعضو فاعل وذو سيادة في المجتمع الدولي. فبدون استعادة الدولة، يظل السلام بعيد المنال؛ وبدون السلام، تصبح “الدولة الصفرية” سمة دائمة. وبدون دولة سودانية ذات مصداقية، ستستمر المعاناة الإقليمية والعالمية إلى أجل غير مسمى.

مداميك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..