مقالات وآراء

وصية الأستاذ محمد سليمان عبد الرحيم… دعوة أخيرة للسلام بين أروقة الانقسام

 

د. أمجد إبراهيم سلمان

في 8 أغسطس 2024، فارقنا المفكّر والسياسي الوطني محمد سليمان عبد الرحيم، تاركًا وراءه آخر إسهاماته التي جمعت بين الحكمة السياسية والرؤية الوطنية الصادقة. قبيل رحيله المفجع قامت رابطة خريجي جامعة الخرطوم في قطر باستضافته في محاضرة بعنوان فرص المصالحة الشاملة و إعادة الإعمار في السودان و ذلك في مساء يوم الخميس 17 مايو 2025 ، في تلك الوقفة الأخيرة، عرض الأستاذ محمد رؤيته الشاملة للوضع الراهن في السودان، مجددًا الدعوة إلى المصالحة السياسية الشاملة، مؤكدًا أن الاستقرار هو البوابة التي تسبق التنمية والازدهار، خاصة في وطن يئن تحت وطأة النزاعات وضعف التنمية.

 

مبادرة المصالحة السياسية الشاملة التي لا تستثني حتى الإسلاميين أبتدرها الكاتب والأديب الأستاذ محمد سليمان الفكي الشاذلي في بواكير الحرب و قد طابقت رؤية الأستاذ محمد سليمان عبد الرحيم في تلك المسألة و الذي دعمها بقوة رافداً لها بأفكار و تصورات محددة عن أهمية التوافق السياسي كبنية تحتية فكرية للتحول الديمقراطي كما أوضح الملامح الأساسية للعدالة الإنتقالية و في الفيديو المصاحب لهذا المقال يجد المتابع المهتم توثيقا حياً للأستاذ محمد سليمان يلخص خلاله رؤيته العميقة لسودان ما بعد الحرب و كأنه يكتب وصيته السياسية للأجيال القادمة بعد خبرة سياسية طويلة في العمل العام تجاوزت نصف قرن من الزمان، و في هذا المقام أقدم جزيل الشكر للباشمهندس خالد العربي الذي قام بتسجيل هذا الفيديو بصورة ممتازة.

 

ابتدر الأستاذ محمد سليمان مداخلته بالتذكير بأن من أشعل الحرب كان يظن أنها ستنتهي خلال ساعات أو أيام، لكن إشعال الحروب أمر مختلف تمامًا عن إنهائها، إذ سرعان ما تتدخل أطراف أقوى تدير الصراع وتربطه بمصالح دولية متضاربة. وأشار إلى أن طرفي الصراع – الجنرالين ومعسكريهما – لا يأبهان حتى بسقوط جنودهما بإعتبار الجنود هم وقود هذه الحرب ولأن استمرار الحرب يخدم مصالحهما، بينما يدفع الفقراء من الجانبين الثمن، ثم ينتهي الأمر غالبًا باتفاق بين القادة بعد أن تكون تضحيات أولئك المعدمون قد ذهبت هدرًا.

 

ونوّه إلى أن حصيلة هذه الحرب أن السودان يعيش اليوم واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية المعاصرة، إذ تحوّل جزء كبير من الشعب إلى لاجئين ومشرّدين وجائعين، موزّعين على معسكرات ومنافي العالم، يعيشون على أبواب السفارات والمنظمات الإغاثية. كما حذر من أن الحرب اتخذت منحى بالغ العنف، شمل تقطيع الأوصال وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث، مما عمّق الغبن الاجتماعي والقبلي، وخلّف أمراضًا اجتماعية يصعب علاجها، فضلًا عن تجنيد أعداد كبيرة من الشباب والأطفال، مما يفاقم من استمرارية العداء حتى بعد توقف القتال.

 

وأكد أن جوهر الحرب – رغم مظهرها كصراع بين فسطاطين عسكريين – أنها في حقيقتها حرب ضد الدولة المدنية، وأن العسكريين، كما اجتمعوا في انقلاب 25 أكتوبر، فإنهم متفقون على معاداة الدولة المدنية كحلم منشود من قبل السودانيين. ولذا، فإن الموقف المدني الأمثل هو الاتحاد في كتلة مدنية واحدة تسحب الشرعية الاجتماعية و السياسية من الطرفين وتطالب بوقف الحرب من حيث المبدأ، لأن استمرار الحرب مرهون بوجود الجنود والمستنفرين والمتطوعين، بغضّ النظر عن مزاعم كل طرف بأخلاقية و اتساق موقفه إزاء الحرب.

 

كما أشار إلى أن أي مفاوضات قادمة بين الطرفين العسكريين ستفضي – على الأرجح – إلى تقسيم النفوذ والغنائم بينهما في غياب حقيقي للمدنيين عن طاولة التفاوض، مما يجعل الدعوة التي أطلقها الكثير من العقلاء للوحدة الوطنية الشاملة ، بما في ذلك إشراك الإسلاميين الغير متورطين في جرائم ضد الإنسانية ، الضمان الحقيقي لقيام دولة مدنية ، تساهم بصورة حقيقية في استقرار السودان على المدى المتوسط و البعيد. وبيّن الأستاذ محمد أن أصحاب المصلحة الحقيقيين في إنهاء الحرب هم ملايين السودانيين المشرّدين الذين لو كان صوتهم مسموعًا لكان الأعلى في المطالبة بوقف القتال فورًا، بينما ترفع النخب السياسية المختلفة شعارات السلام بشروط محسوبة بدقة تضمن لها نصيبًا في أي تسوية سياسية قادمة.

 

وتوقف الراحل المقيم عند مفهوم المصالحة الوطنية، موضحًا أن الكلمة تحمل وقعًا سلبيًا لدى السودانيين بسبب التجارب السابقة، مثل مصالحة 1977 في عهد النميري ومصالحات نظام الإنقاذ المتعددة ، والتي انتهت بإلحاق المعارضين بهياكل السلطة الديكتاتورية في مواقع هامشية، مما أفقدهم مصداقيتهم حتى أمام قواعدهم الإجتماعية التي أتت بهم لتلك المواقع.

 

وأكد أن أي مصالحة لا تقوم على برامج حقيقية لتطوير البلاد وتقسيم السلطة والثروة بعدالة بين الأقاليم والشعوب السودانية ، لن تفضي إلى رفع المظالم و الحيوف التاريخية الواقعة على البلاد أو تحسين واقع الناس. كما شدّد على أن المصالحة الوطنية الشاملة يجب أن تتضمن الاعتراف بالجرائم التي لا تسقط بالتقادم – مثل مجازرحرب الجنوب و حرب دارفور ، مجزرة عنبر جودة و ، ومجزرة العيلفون، و مجزرة 13 سبتمبر 2013، و مجزرة فض الاعتصام وما تلاها من فظائع و اغتيالات حتى انتفاضة الشعب الكبرى في الثلاثين من يونيو 2019 – مع الاعتذار الكامل للضحايا لتحقيق العدالة و جبر للضرر النفسي المعنوي الكبيرين.

 

ورأى أن استبعاد الإسلاميين سيؤدي إلى أزمات مشابهة لما حدث في العراق عند إقصاء حزب البعث ، مما أدى إلى بزوغ تنظيمات منفلتة مثل تنظيم داعش ، أدت إلى تقسيم العراق طائفيا و عرقيا و مذهبياً ، و قد دعى الاستاذ محمد إلى إشراك الإسلاميين في عملية التوافق ليس خوفاً من بطشهم بل لبناء توافق حقيقي يمهّد لسودان ديمقراطي قائم على العدالة والحرية والسلام ، يبعد العنف عن الحياة السياسية إلى الأبد.

 

وفي هذا السياق، طرح الأستاذ محمد سليمان عبد الرحيم رؤيته حول العدالة الانتقالية كأداة للتوازن بين السلام وتطبيق العدل وإنصاف الضحايا، وتشمل تطوير الهيئات القضائية، وكشف الحقائق، والتصالح معها، وجبر الضرر، وتطوير الأجهزة العدلية بما يضمن عدم تكرار كل تلك الجرائم التي شهدناها في الماضي مستقبلا ، وهو ما يعد شرطًا لنجاح العملية السياسية وتحقيق سلام مستدام.

 

وتناول الراحل المقيم مسألة المشروعية السياسية ، موضحًا أنها تنبع من الانتخابات، لكنها غير ممكنة حاليًا، مما يجعل التوافق السياسي العام هو المخرج الوحيد لأزمتنا الحالية ، لأنه يتيح بناء مؤسسات الدولة وهيكلتها وفق قوانين وضوابط حديثة، تمهيدًا لإعادة الإعمار. ولفت إلى أن الشرعية الثورية كانت ممكنة في الثلاثين من يونيو 2019 لكننا أُهدرنا لحظتها التاريخية الدقيقة و لا يمكن العودة إليها حالياً ، ولم يبقَ إلا شرعية التوافق العام كضمانة لاستقرار الدولة و استتباب السلام. كما دعا إلى وضع ضوابط وقوانين صارمة تمنع العنف في السياسة، وإدانته وتجريمه بشكل مطلق، ليس فقط بإبعاد الجيش عن السياسة، بل أيضًا بإبعاد السياسيين عن الجيش ، لأنه في تاريخنا المعاصر لم يتدخل الجيش في السياسة إلا بدعوة من السياسيين في كل الانقالابات الماضية ، و مضى موضحاً أنه يجب منع الأحزاب والحركات الجهوية من امتلاك ميليشيات و تنظيمات مسلحة ، حمايةً للتداول السلمي للسلطة.

 

و اختتم بالتأكيد على أن الاستقرار السياسي شرط أساسي لإعادة الإعمار ، و هذا لن يتحقق دون إشراك الإسلاميين في المصالحة الوطنية الشاملة ، مشدداً على أن السودان منذ استقلاله ، ظل رهين نزاعات داخلية أعاقته عن اللحاق بركب الأمم المتقدم ، و أن اللحظة الراهنة تفرض وحدة الصوت المدني و نبذ الحرب لتأسيس دولة العدالة و السلام.

 

وهكذا، يمضي محمد سليمان عبد الرحيم إلى مثواه الأخير، تاركًا في الذاكرة الوطنية صورة رجلٍ حمل همّ السودان حتى أنفاسه الأخيرة، وواجه بحكمة وشجاعة ما تفرّق فيه الآخرون من ضعف وخوف وتردد. لم يكن صوته مجرد رأي عابر في زمن الفوضى، بل كان نداءً صادقًا لإطفاء نار الحرب، ولجمع الكلمة، ولإعلاء شأن العدالة فوق كل حساب سياسي ضيق. وإذ يودّعه الوطن اليوم، يبقى الأمل أن تجد كلماته طريقها إلى العقول والقلوب، وأن تتحول وصاياه إلى فعلٍ على أرض الواقع، حتى لا يضيع السودان في متاهات الانقسام والدمار، ويقوم على أسس الحرية والسلام والعدالة التي آمن بها ونادى بها حتى آخر لحظة من حياته.

التغيير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..