مقالات وآراء

الكيزان و”ضبط المصنع”: حين اختطفوا الفطرة وأفسدوا الإنسان

 

حسن عبد الرضي الشيخ

في ذاكرة الشعوب لحظاتٌ مفصلية تغيّر الملامح وتُعيد تشكيل النفوس، لكن قلةً من الأنظمة في العالم امتلكت ذلك “الذكاء الشيطاني” الذي امتلكه الكيزان في السودان، حين تسلّلوا إلى روح الناس عبر بوابة الدين، ثم أفسدوا جوهرهم باسم الفضيلة. فما فعله الكيزان في السودان ليس انقلابًا سياسيًا فحسب، بل هو انقلاب على الفطرة، على السجايا، على الإنسان نفسه.
حوّلونا من سمحِ السُّكر إلى شُحّ الدين. إذ كان السوداني، كما تصفه الحكايات الموجعة الذكية، إن سكر غنّى، وإن طرب أكرم، وإن شرب بكى على أوطانٍ وأمهاتٍ ورفاقٍ رحلوا. حتى خطاياه كانت بنكهة الطيبين، وسُكره كان جزءًا من “نظامه الأخلاقي” غير المُعلَن، ذاك الذي يضع الشرف في الكرم، والرجولة في الشهامة، والمروءة في البوح لا في التلصص. ثم جاء الكيزان…
حملوا الدين على أكتافهم كواجهة، وسرقوا به قلوب الناس قبل أن يسرقوا أموالهم، وعقولهم، وحياتهم. جاءونا بدينٍ ليس كديننا؛ لا هو دين أهل الحارة، ولا هو نور الجامع الذي تبرّع له سكرانٌ بماله خفية، بل هو دينٌ منقوصٌ بالترهيب، مشحونٌ بالفضيحة، مطليٌّ باللعنات لا بالرحمة. حوّلوا الشريعة إلى سوط، والنصيحة إلى تشهير، والسلطة إلى غنيمة.
هذا حالنا منذ أن أصبح العسكر “حكماء”. تتساءل الحكاية: “هل تُصدّقون أن العسكر صاروا هم أهل الحكمة؟”. في واقعٍ معكوس، صار السلاح هو المرجعية، والخراب هو الخطة، والحكمة… هي مجرد شعارٍ فضفاضٍ يعلّقه ضابطٌ على كتفه ليُخفي به عقد النقص والدماء.
الكيزان ألبسوا العسكر عمامةَ الدين، وأعطوهم سلطةَ المطلق. فغاب الفكر، وسُحقت السياسة، وابتلعت البلادُ نفسَها في حربٍ لا تنتهي، لأن منطق السلاح لا يعرف معنى النهاية، بل يُعيد إنتاجها في كل دورة.
عندما غيّروا “ضبط المصنع” السوداني، لم يكن الكيزان مجرد فئة سياسية فشلت، بل كانوا معولًا خفيًا حطّم “المصنع” السوداني من الداخل — ذاك التكوين الإنساني الفريد الذي يميز السوداني بـ”سماحته”، وبتديّنه الفطري، وبرقّته المتعففة حتى في خطيئته، وبموسيقاه، وبحكايته على ضفاف النيل، وبصوته الذي يُغنّي عن وجعٍ لا يشترط التقاء الحبيبة، بل يكفيه الحنين.
الكيزان عطّلوا هذا “الضبط الداخلي”، قلبوا الأمور رأسًا على عقب، جعلوا التقيَّ مشبوهًا، و”الدكتور” الجاهل مشرِّعًا، و”الشيخ” الفاسق مفتيًا، و”الرويبضة” حاكمًا باسم الشعب، وهو لا يفقه من الشعب سوى ما يُكتب له في تقارير الأمن.
أصبحت كلمة “السلام” تهمة، والدعوة إلى التسامح خيانة، والمطالبة بالعدل خروجًا على الحاكم. وكم من مظلومٍ بات يُجلد، لا لجرمٍ ارتكبه، بل لأنه رفض الركوع لسلطةٍ لا ترى في الشعب أكثر من قطيع.
ساد الفساد الممنهج والاغتصاب السياسي، حين سرق الكيزان قوتَ الناس، وقتلوا الأبرياء في بيوت الله وفي الساحات، لم يُفرّقوا بين شيخٍ وطفل، ولا بين امرأةٍ ورجل. كانت الحروب في عهدهم تجارة، والدم وسيلةً للبقاء، والفتنة خبزهم اليومي. نشروا الخوف، فغاب الجار عن جاره، وسُرق الأمن من البيت السوداني، حتى صار المواطن يشكّ في المارة، ويُحسن الظن بالغريب أكثر من القريب.
إن ما فعله الكيزان لا يمكن تلخيصه في فسادٍ مالي أو ظلمٍ سياسي فقط، بل هو جريمةٌ أخلاقية بحق شعبٍ كان قد عرف نفسه جيدًا، ثم جعلوه يتيه عن نفسه، يختصم في البديهيات، ويصطفّ في طوابير الكراهية.
ختامًا: لعنةُ الله على من خانونا باسم الله. الكيزان لم يأتوا بدين الله، بل بدين أنفسهم؛ دينٍ لا يعرف البسمة، لا يعرف الفرح، ولا يعترف بأن السوداني يمكن أن يكون صالحًا بفطرته، دون أن يحمل سيفًا، أو يُطلق لحية، أو يجلد النساء في الأسواق.
لقد خانونا باسم الله، وما من خيانةٍ أعظم من خيانةٍ تُرتكب باسم العزيز الجبّار.
السودان اليوم، وهو يتخبّط في أزماته، لا يعاني من آثار انقلابٍ سياسي فحسب، بل من آثار جريمةٍ روحيةٍ وثقافيةٍ وأخلاقية… ارتكبها الكيزان، وسيظل الشعب يتعافى منها طويلًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..