”البروليتاريا الرثة”: جدلية النظرية والمصطلح

د. محمد عبد الله الحسين
مقدمة:
ينطلق هذا المقال بشكل عام من رصد مفهوم: الرأسمالية الرثة”، من حيث التوسع في المفهوم بسبب التغيير في الواقع. وفي إطار متابعة التفاعل بين الواقع والنظرية المفسّرة للتغيير الاقتصادي والاجتماعي يتم النظر إلى دور اللغة ممثلة في المفاهيم والمصطلحات الشارحة للنظرية.
تعريف “البروليتارية الرثة”:
وهو أحد المصطلحات المفاهيمية التي صكّها ماركس. ضمن تناوله للتطور التاريخي للمجتمعات صاغ ماركس في الفكر الاقتصادي العديد من المفاهيم والمصطلحات مثل المادية التاريخية وفائض القيمة والبروليتاريا ثم البروليتاريا الرثة، و” نمط الإنتاج الآسيوي” وما إلى ذلك، رغم ما وجده الأخير الكثير من النقد. أطلق ماركس مصلح ( لمبن بروليتاريات) Lumpen Proletariat باللغة الألمانية . وهو ما تواضع عليه الكتاب والمحللون بمصطلح “البروليتاريا الرثة”.
أصبح مصطلح البروليتارية الرثة شائعا ومتداولا بشكل واسع رغم ما يحمله الوصف من حمولات سالبة إلى حد ما. ولكنه بتوالي الاستخدام تجاوز الكثيرون عن التضمين الدلالي السالب للتعبير ليصبح المصطلح مستخدما دون كثير تحفظ. في اعتقادي قد يكون مصطلح البروليتاريا الهامشية هو الأقرب في إطار التطورات الاجتماعية والاقتصادية اللاحقة كما سنأتي لذلك.
يعرف ماركس الطبقة الرثة بأنهم الفئة التي تعيش على كدح غيرها ولا تملك وسائل للإنتاج ولا تشارك بالتالي في الإنتاج. وتشمل هذه الطبقة العديد من الفئات مثل المتسولين، والمجرمين، والمعدمين والعاطلين عن العمل، والمتشردين، والمومسات والأفاقون والجنود المسرَّحون وخريجو السجون والأرِقاء الفارُّون… الخ
جاء وصف ماركس لهذه الطبقة بالرثة لأنها تلعب أدوارا مدمرة في الاقتصاد وتتعارض مصالحها مع مصلحة طبقة البروليتاريا. من ناحية أخرى أفاض لينين لاحقا في وصف هذه الطبقة المتدنية وفق التوصيف الماركسي التقليدي الصادر من المنظرون الماركسيون الأوائل، بعد أن زادت أعداد هذه الطبقة.
وقد شهدت الفترة بعد وفاة ماركس تطورات اقتصادية واجتماعية كبيرة في العديد من دول العالم صاحبها توسعا كبيرا في قاعدة البروليتاريا الرثة.
تطور مصطلح البروليتاريا الرثة:
من ناحية أخرى أدت التطورات التاريخية للرأسمالية وزيادة وتيرة التطور الصناعي إلى نمو الحواضر وتوسع المدن. وأدى ذلك بالتالي إلى زيادة في عدد سكان المدن من خلال هجرة أهل الريف.
وقد أدت الحاجة إلى الخدمات في المدن إلى استمرار تدفق سكان الريف إلى المدن. وجد أهل الريف في زيادة الطلب على الخدمات في المدن وتنوع الأعمال الهامشية ما يعوضهم عن عوائد مهنتهم التقليدية التي تركوها في الريف. وهكذا صار رصيد البروليتاريا الرثة يتنامى كل يوم مع زيادة سكان المدن وهجرة أهل الريف للمدن.
وهكذا فإن توالي ظهور النظريات ومن توالي ظهور المصطلحات والمفاهيم يرتبط ارتباطا قويا بالواقع.
ولما كان الواقع نفسه في حالة تغير مستمر فمن المتوقع ظهورا مستجدا ومستمرا للمصطلحات وإعادة لتكييف النظريات والمفاهيم.
وفي هذا السياق ظهرت مصطلحات جديدة بجانب البروليتاريا الرثة.من ناحية أخرى شهدت دول أمريكا اللاتينية خلال فترة السبعينات من القرن الماضي العديد من الحركات الثورية لمجابهة الاستغلال الإمبريالي الرأسمالي.
بالتالي كانت تلك الدول واقعا جديدا للتنظير الاقتصادي المستند على الفكر الماركسي..وفي إطار ذلك الزخم أطلق اندريه غودري فرانك مصطلح الانتلجنسيا الرثة لوصف المتعاونين المحليين مع الإمبريالية في دول أمريكا الجنوبية. علما أن غوندري فرانك وسمير أمين وغيرهم من رواد مدرسة التبعية كانوا قد رفدوا أدبيات ما بعد الاستعمار بالمزيد من المصطلحات. وهكذا توالى توليد المزيد من المصطلحات التي تحمل وصف الرثة مثل مصطلح التنمية الرثة التي صكها غوندري فرانك لوصف التنمية التي ينفذها ما أسماهم بالبرجوازية الرثة لخدمة مصالح سادتهم في المراكز الإمبريالية الخارجية.
فانون وطبقة الفلاحين:
من ناحية أخرى فيما يتعلق بوصف البروليتاريا بالرثة، وجد المفكر المارتينيكي الثائر (فرانز فانون) في الجزائر واقعا مخالفا للواقع الذي نشأ فيه مصطلح البروليتاريا الرثة. وجد فانون أن إلصاق وصف الرثة بالفلاحين الجزائرين يحمل الكثير من الظلم. فوجد أن هؤلاء الفلاحين ليسوا فئة رثة أو ميؤوس منها بل هي فئة يمكن أن تلعب دورا كبيرا في التغيير إذا ما أُحسِن استيعابهم. ولكن مات فانون قبل أن يشهد مرحلة ما بعد الاستعمار، ليرى بأم عينه ظهور فئة من الانتلجنسيا أكثر رثاثة وخسة..
من ناحية أخرى، كان لظهور أنظمة حكم فاسدة في أفريقيا وبعض الدول النامية الأخرى إلى ظهور فئات جديدة من الانتهازيين من المثقفين النفعين أو الانتلجنسيا الرثة. وبسب تنامي الفساد المالي استحقت هذه الفئة بأن توصف بانها أكثر رثاثة من البروليتاريا الرثة نفسها.
خاتمة:
من خلال استعراض تطور مفهوم الرأسمالية الرثة عبر عقود من الزمان، نجد أن النظرية أحيانا لا تتغير كليةً ولكنها تتكيف لتناسب التطور في فهم الواقع الماثل. وتظل النظرية بالتالي ثابتة في أصلها، ولكن تتعدل المفاهيم الشارحة لاستيعاب التغير في النظرية المعّدلة.وفي نفس السياق يمكن القول، أن الواقع المتغير يظل حقلا خصبا لولادة النظريات. وبالتالي يمدنا الواقع بالأمثولات النظرية وتمدنا اللغة ، صِنو الفكر، بابتداع وصوغ المفاهيم والمصطلحات الشارحة.