نحو مشروع وطني من أجل السلام المدني الديمقراطي النهضوى المقال التاسع: انهاء الحرب، نزع شرعيتها والتمهيد لبناء السلام

بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي
في الاستراتيجية العسكرية وألعاب الحرب، يشير مصطلح ”ضباب الحربFog of War: “ إلى عدم اليقين ونقص المعلومات الواضحة عن ساحة المعركة، مما يجعل من الصعب اتخاذ قرارات سليمة. ويشمل الغموض والمعرفة غير الكاملة بشأن مواقع العدو وقوته ونواياه، فضلاً عن الظروف العامة لساحة المعركة. الا أن هذا التعبير له دلالات أعمق من ذلك بكثير، بالنظر الى أن الحروب “المصنوعة” من قبل الأنظمة الديكتاتورية أو الجماعات والأحزاب الفاشية يمكن توظيف “ضبابها” كأداة لتحويل الانتباه عن القضايا الداخلية، بما في ذلك الفساد والفظائع، واثارة النزعات والولاءات الغرائزية البدائية لتحشيد الدعم الشعبي للمشروع الشمولى وإسكات الأصوات المعارضة. وهذا يسمح لهم بتعزيز قبضتهم على السلطة وتقديم أنفسهم كقادة أقوياء يحمون مصالح الأمة. بالطبع، على الرغم من أن استخدام الحرب لتشتيت الانتباه وحشد الدعم قد يبدو استراتيجية قابلة للتطبيق بالنسبة للديكتاتوريين والجماعات الفاشية على المدى القصير، إلا أن العواقب طويلة المدى لا محالة ستكون مدمرة لهم، وللأسف للأمة أيضاً، خاصة فى حالة الحروب الأهلية.تأسيساً على ما تقدم، أعتقد أنه ليس مستغرباً ما يعتقد على نطاق واسع بأن “الجبهة الاسلاموية”، كمنظمة فاشية، هى من أشعل هذه الحرب الأهلية الماحقة، مستخدمة تشكيلاتها العسكرية داخل الجيش وخارجه، وورطت فيها الجيش النظامى وقوات الدعم السريع بذات اسلوب الخبث والدهاء الذى انتحلت فيه اسم جيش البلاد للوصول للسلطة عبر انقلاب الثلاثين من يونيو المشئوم. لقد حاولت هذه الفئة “القرمطية” تغبيش الذاكرة الجمعية للشعب السودانى بعدة وسائل بعد ثورة الشعب فى ديسمبر المجيدة وخلال الفترة الانتقالية، مستخدمة كافة الوسائل والأدوات المتاحة لها من اعلام الضلال والكذب والتدليس الى بناء تحالفات الموز وحتى الانقلاب وعندما لم يجدى كل هذا فى تصفية الثورة ومكانتها فى وجدان الشعب السودانى لجأت الى الخيار “النووى”: اشعال الحرب الأهلية. عليه، من الأهمية بمكان التذكير بأن هذه الحرب الماحقة قد بدأتها فئة مجرمة كان أول تبعاتها الكارثية تفتيت القوات المسلحة السودانية وتعريض الأمن القومى السودانى لخطر ماحق، بل والبلاد برمتها لخطر التقسيم والزوال، بينما عانى ويعانى جرائها شعبنا ويلات وأهوال غير مسبوقة.لهذا علينا أن نعى منشأ وأسباب هذه الحرب جيداً ونستخلص العبر والدروس لأن من أشعلوها سادرون فى غيهم لتغبيش الوعى وتصويرها زوراً وبهتاناً كحرب “كرامة” لاستعادة الوطن وهم من دمر هذا الوطن وأهان شعبه ومزق لُحمته القومية وفرط فى وحدته الترابية. حتى ولو تدثروا كذباً ومخاتلة بخطاب الدين الحنيف، فقد فعلوا كل هذه الموبقات – “حتى لو احترق السودان” كما صرح بعضهم – فقط من أجل استعادة سلطة دنيوية تافهة، قال عنها المؤمن الحق أمير المؤمنين على بن أبى طالب (كرم الله وجهه) بأنها “أزهد عنده من عفطة عنز”.
بسم الله الرحمن الرحيم،(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) [الكهف:104]، صدق الله العظيم.
أحد أهم المساهمات فى مشروع الاستنارة ونشر الوعى لنزع شرعية هذه الحرب الكارثية يتمثل فى توثيق الآثار الاقتصادية والانسانية لهذه الحرب، بل والتهديد الوجودى الذى تشكله على البلاد وشعبها ووحدتها الترابية. بالنظر الى أنها بمثابة حرب بين جيشين داخل حدود دولة واحدة، تعتبر هذه الحرب غير مسبوقةٍ من حيث شدة العنف وحجم الموت والدمار الذى تسببت به، ناهيك عن الأزمة الإنسانية الهائلة التي خلفتها، حيث تماثل القوة التدميرية للطرفين حالة حرب الدول وليس حالة الحروب الأهلية التقليدية التي عادة ما تدور في مناطق ريفية نائية وتستخدم فيها آلة حربية أقل فتكاً وتطوراً. لهذا ليس مستغرباً أن هذه الحرب قد تسببت فى أحد أكبر أزمات اللجوء والنزوح في العالم، فبحسب الأرقام المتاحة حتى الأسبوع الثانى من شهر أغسطس الجارى، فان إجمالي المهجرين من ديارهم بلغ حوالى 12 مليون شخص، منهم ما يقارب ثمانية مليون نازح داخل البلاد وأكثر من أربع ملايين لاجئ، موزعين على بلدان الجوار السودانى الرئيسة: مصر، تشاد، جنوب السودان، إثيوبيا، جمهورية أفريقيا الوسطى، ليبيا وأوغندا، فضلاً عن المستضافين مؤقتاً فى البلدان الخليجية (قاعدة بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: (UNHCR. بينما تتواصل الحرب تتفاقم أزمات انعدام الأمن الغذائي وتدهور الوضع الصحى، حيث يُقدَّر بأن نحو 24 الى 25 مليون مواطناً يواجهون مستويات “أزمة أو أسوأ” من الجوع خلال 2025، مع جيوبٍ عند مستوى الكارثة ما لم يتوافر التمويل والوصول الى هؤلاء الأشخاص (برنامج الغذاء العالمى: World Food Programme). كذلك تحذِّر منظمة الصحة العالمية من تفاقم الجوع والأمراض المرتبطة به وتدهور صحة البيئة، بما في ذلك تفشّي الكوليرا حيث سُجّلت قرابة 100 ألف حالة منذ منتصف 2024.
ما الذي يفاقم الأزمة؟ الوصول الإنساني المقيَّد والنزاع النشِط حول المدن والطرق الرئيسة يعرقلان الإغاثة.
أيضاً، هناك فجوة تمويلية كبيرة، فقد أشارت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الى أن كلفة “خطة الاستجابة الإقليمية لعام 2025” بالنسبة للسودان تُقدر بحوالى 1.8 مليار دولار ولم يُموَّل منها إلا نحو 10%، بينما يحتاج برنامج الغذاء العالمى وحده الى مئات الملايين حتى نوفمبر 2025.أيضاً، لقد ألحقت هذه الحرب المأساوية أضراراً كبيرة بالقاعدة الصناعية والتعليم والمرافق الصحية في البلاد، كما أدت أيضاً إلى انهيار النشاط الاقتصادي، بالنظر إلى أنها، على عكس الصراعات المسلحة السابقة، قد اشتعلت في عاصمة البلاد، حيث مركز السلطة السياسية والاقتصاد، ثم توسعت لتشمل كبريات المدن السودانية في وسط وغرب البلاد. إلى جانب إحصاء الأثر الإنساني الهائل والدمار المباشر لهذه الحرب، فإن تقييم كلفتها الاقتصادية على المدى الطويل أمرٌ بالغ الأهمية أيضاً لنزع الشرعية عن هذه الحرب المأساوية وزيادة الوعي بمخاطرها الوجودية المحتملة على البلاد والشعب السوداني، مما يساهم في مشروع الاستنارة لحشد العمل الوطني والإقليمي والدولي لإنهائها. فبحسب تقديرات من عدة مراكز أبحاث ومؤسسات اقتصادية اقليمية وعالمية، أدت الحرب الى انهيار كارثى للاقتصاد السودانى والذى أصلاً قد كان يعانى من الضعف والركود حتى من قبل انفصال الجنوب وفقدان العائدات النفطية.مثلاً، توقع بنك التنمية الأفريقى فى تقرير نُشر مؤخراً بأن تؤدى الحرب الحالية إلى انكماش حجم الاقتصاد السوداني بنسبة تزيد عن 40% مقارنة بمستويات عام 2022 إذا استمر الصراع حتى نهاية عام 2025.
وفى ورقة بحثية نُشرت فى العام الماضى، أجريت محاكاة للآثار الاقتصادية للحرب مستخدماً نموذج “النمو طويل الأجل: Long-Term Growth Model: LTGM “. فبحسب تقديرات هذا النموذج، حتى اذا تم انهاء هذه الحرب خلال شهر أو شهرين من الآن (أى بعد سنتين ونصف منذ اشتعالها)، فان خسارة الاقتصاد السودانى مقارنة بحالة عدم نشوب الحرب (أى فرصة النمو الضائعة) قد تصل الى أكثر من 135 مليار دولار، أى ما يعادل حوالى أربعة أمثال الناتج المحلى للعام 2022. أكثر من ذلك، حتى اذا وضعت الحرب أوزارها ولكن عُدنا كما فى السابق للمماحكة والاختلاف والاستعلاء المتبادل ولم نتواضع على مشروع وطنى نهضوى لتحقيق معجزة تنموية (بمعدل نمو سنوى يناهز 10% كما فعلت أثيوبيا على مدى خمسة عشر عاماً منذ العام 2004) ستحتاج البلاد الى ما يقارب عقدٍ كامل من الزمان (أى حتى عام 2031) لكى تصل الى حجم الناتج المحلى قبل الحرب، مما سيؤدى لا محالة الى استمرار الفقر والتخلف الاقتصادى وربما اشتعال حروب جديدة، لا سمح الله.بالرغم من الأزمة الإنسانية التي لا يمكن تخيلها والكلفة الاقتصادية الهائلة لهذه الحرب، فان التهديد الأخطر لهذه الحرب هو للأسف تحولها الى صراع اثني/جهوي بالغ الشراسة والتوحش.
فالمجتمع السوداني الذى ظل يعاني من التشرذم والاستقطاب العمودي على أسس اثنية، قبلية وجهوية وسياسية، قد تهتك نسيجة الاجتماعى بصورة غير مسبوقة جراء هذه الحرب التي تزداد تشدداً وتطرفاً بسبب عمليات التجنيد والتحشيد وإثارة الغرائز على أسس الانتماءات ما دون القومية. هذا الانفصام الوجدانى، فضلاً عن الآثار النفسية العميقة التى تسببت فيها هذه الحرب ستظل العقبة الكئود فى طريق تعافى المجتمع السودانى حتى بعد انتهاء الحرب.
خاتمة:
في ضوء هذه المأساة الماثلة، تابع السودانيون باهتمام بالغ ما تسرب من معلومات عن اجتماع غير معلن عُقد في سويسرا بين قائدا الجيش السوداني والدعم السريع، كل على حدة، مع المستشار الخاص للرئيس الأميركي للشؤون العربية والأفريقية، مسعد بولس؛ لبحث مقترح أميركي لوقف إطلاق نارٍ شاملٍ وإيصال المساعدات الإنسانية. وفى هذا السياق رحب تحالف “صمود” وغيره من القوى المدنية الديمقراطية بهذا التوجه الأمريكى، على أمل أن يؤدى الى ايقاف الحرب كأولوية قصوى لوضع حدٍ للمزيد من القتل والدمار والمعاناة وأيضاً لايجاد فضاء للمجتمع المدنى الشبابى والنسوى لتقديم العون والاغاثة وكذلك رتق النسيج الاجتماعى وصولاً لبناء اللبنة الأولى لمشروعِ سلامٍ شاملٍ ومستدام. لكن ما هى الأولويات العاجلة المأمولة من هذه المبادرة؟
• اتفاق وصول إنساني شامل وآمن ومحايد يفتح ممرّات برية وجوية ونهرية منتظمة، مع آلية مراقبة مستقلّة.
• تعزيز التمويل المرن والسريع لبرامج الغذاء والصحة والمياه والحماية، وسدّ فجوة خطة الاستجابة الإقليمية.
• وضعٌ قانوني وخدمات أساسية للاجئين في دول الجوار (تسجيل، حماية من الإعادة القسرية، تصاريح مؤقتة للعمل/التعلّم)، ريثما تتم اعادتهم للبلاد.
• دمج “التعافي المبكّر”: دعم معيشي، نقد مقابل العمل، سلاسل توريد غذائية محلية، وإسنادٍ خاص للنساء والشباب.فى هذه الأثناء من الأهمية بمكان أن تسعى “صمود” وغيرها من القوى المدنية الديمقراطية لمواكبة هذه المبادرة الأمريكية بتكثيف الفعل المدنى على المستوى المرحلى كما أشار الأستاذ محمد الأمين عبد النبى فى مقاله الموسوم: ” مائدة الحوار المستديرة مَنْ يُعلق الجّرس في عُنق القـط؟”، والذى أستأذنه فى اقتطاف مطول من مقترحه لأهميته الشديدة فى هذه المرحلة المفصلية لمشروع الانتقال المدنى الديمقراطى:الاتجاه الاول – ربط مساري الحل (عسكري، مدني):إنعقاد المائدة المستديرة بالتوازي مع طاولة التفاوض بين المتحاربين يسمح بإجراء مشاورات مع قطاعات عريضة من المجتمع لتعزيز الثقة في الحوار، وتتنقل الوساطة بين الحوار السياسي والتفاوض بين المتحاربين.
• إنعقاد المائدة المستديرة قبل التفاوض يطلب إتفاق القوى المدنية فيما بينها على اعلان مبادئ وقف الحرب، والضغط على طرفي الحرب، والتعبئة الشعبية لدعم السلام ومحاربة خطاب الكراهية والعنصرية، والاتفاق على ميثاق سياسي، وتحديد دور المجتمع الاقليمي والدولي في العملية؛ هذا يضمن مشاركة القوى المدنية في عملية التفاوض كطرف أساسي صاحب مصلحة في وقف الحرب بجانب طرفي الحرب، وبالتالي دمج المسارين في عملية واحدة يفضي الي إعلان مبادئ وأسس وقف الحرب والترتيبات الأمنية، وميثاق شرف عسكري مدني، وإجراء بناء الثقة وترتيبات الإنتقال.
•إنعقاد المائدة مستديرة بعد التفاوض بين المتحاربين، وذلك للمصادقة على اتفاق وقف إطلاق النار، والاتفاق على مصالحة وطنية وإعلان دستوري وتشكيل حكومة إنتقالية مدنية تقوم بمهام تأسيسية وتضع ترتيبات الإنتخابات لنقل السلطة بتفويض شعبي.الاتجاه الثاني – الخروج من دائرة الإنتظار و”الفرجة” وإستنجاد المشاركة:”بالإنتباه إلي خطورة الأوضاع ومآلاتها، ومفارقة حالة العجز التي أدت الي تآكل فرص الحل، وأخذ زمام المبادرة بتجميع القوى الرافضة للحرب والداعمة للسلام في خطوة عملية وجرئية في تجاه الاتفاق على إنعقاد المائدة المستديرة بأعجل ما تيسر، بالدعوة لإجتماع تحضيري يتمخض عنه تشكيل لجنة تحضيرية تضطلع بمهمة تصميم مسار المائدة المستديرة بتحديد الأجندة والقضايا والأطراف المشاركة ودور المجتمع الاقليمي والدولي، وإدارة حوارات مؤسعة حول قضايا الحرب والكارثة الانسانية وحماية المدنيين وخطاب الكراهية والعنصرية والعدالة الانتقالية والحل السياسي الشامل وإعداد أوراق أولية للدفع بها في المائدة المستديرة، والقيام بمهام التحضير وإستقطاب الدعم السياسي والدبلوماسي والفني والمادي لإنجاح المائدة المستديرة، هذه مهمة لا تقبل التأجيل، فمن يُعلق الجرس في عنق القط.”فى المقال القادم سأطرح سؤالاً صعباً، الا أنه بالغ الالحاح والأهمية يتعلق بالحاجة الى “عملية أممية متعددة الأبعاد” لاسناد مشروع القوى الوطنية المدنية الديمقراطية: على المدى القريب فى مجالات تثبيت وقف اطلاق النار والفصل بين القوات وتأمين فضاء وجغرافيا آمنة للمجتمع المدنى للمساهمة فى ايصال العون الانسانى واصلاح ما يتيسر من المرافق الخدمية والبنية التحتية للطرق والمياه والكهرباء …الخ، وعلى المدى المتوسط المساعدة فى تحقيق اعادة هيكلة عميقة للقوات النظامية فى اطار اصلاح أمنى بحسب المعايير العالمية فى الدول الديمقراطية، اضافة الى نظام عدلى وازن يضطلع بمهام العدالة الانتقالية بحيادية ومناقبية مهنية وازنة.