أهم الأخبار والمقالات

الإعلام العربي وحرب السودان.. حين يُحرج الغرب الإعلام العربي في تغطية حرب السودان

مهدي داود الخليفة

منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، تحولت القنوات العربية الكبرى — مثل الجزيرة، العربية، والحدث — إلى منصات المتابعة الرئيسية. لكن خلف الأخبار العاجلة والتحليلات العسكرية، يطل سؤال جوهري: هل كانت هذه التغطية نقلاً محايداً للوقائع، أم أداة لتوجيه سياسي يخدم أجندات مموليها؟

لم تكتفِ هذه القنوات بتغطية الحرب من زاوية واحدة، بل استدعت ضيوفًا غير مؤهلين بلا خلفية أكاديمية أو ميدانية، ومعروفين بولائهم أو انحيازهم لأحد طرفي الصراع. وقدّمتهم بصفة “خبراء استراتيجيين” رغم محدودية معرفتهم وضحالة تحليلاتهم. وفي كثير من الأحيان، كانت هذه المداخلات أقرب إلى ترديد خطاب طرف من الأطراف، منه إلى قراءة مهنية مستقلة، وهو ما حوّل الاستديو إلى امتداد للمعركة لا إلى ساحة للنقاش الحر.

المفارقة أن حتى المحللين العسكريين السودانيين، الذين يفترض أن لديهم دراية أكبر بطبيعة العمليات في مسرح الحرب، ظهروا في تلك الشاشات بقدرات تحليلية محدودة، دون مستوى رصفائهم من العسكريين المحترفين في دول أخرى، الأمر الذي زاد من سطحية الطرح وأضعف ثقة الجمهور.

ومن المدهش أن مناطق منكوبة مثل دارفور، جبال النوبة، والنيل الأزرق — التي شهدت مآسي النزوح الجماعي والقتل وانهيار الخدمات — لم تحظَ بتغطية ميدانية كافية. وكأن معاناة ملايين السودانيين أقل أهمية من تفاصيل معركة في شارع رئيسي بالخرطوم.

هذا التجاهل لا يمكن تفسيره بالصدفة أو ضعف الإمكانيات، بل يشير إلى قرار بعدم فتح ملفات قد تُحرج أطرافًا إقليمية أو تكشف تواطؤات غير مريحة لبعض العواصم. ويؤكد ذلك ما رواه صحفي عربي صديق عمل في إحدى هذه القنوات، إذ قال لي: “بعض الملفات في حالة السودان كان لزامًا علينا أن نأخذ في الاعتبار موقف الدولة قبل صياغة الخبر”.

بل إن ناشطة سودانية في مجال الإغاثة ذكرت لي أنهم أرسلوا صورًا وتقارير عن مآسي دارفور إلى القنوات العربية، لكنها لم تُبث. وحتى حين عُرضت صور النزوح، لم تُقدّم في إطار يحفظ الكرامة الإنسانية للسودانيين، بل وُظفت بطريقة مهينة، أقرب إلى استعراض بصري يُهين الضحايا ويختزل معاناتهم في لقطات سطحية، بدل أن ينقل قصصهم أو يعكس صمودهم. و

هو نهج جعل الصورة أداة للتسطيح لا للتنوير. وبينما خُصصت الساعات الطويلة لتغطية المعارك، لم تنل أصوات الدعوة للسلام ونداءات وقف إطلاق النار سوى دقائق معدودة أو تُركت في الخفاء. بدا وكأن أجندة الحرب هي المادة المفضلة، بينما السلام مجرد خبر ثانوي لا يصلح إلا أن يكون “خافتًا”. الأرقام الميدانية التي وثقها فريق من الإعلاميين السودانيين بين أبريل وديسمبر 2023 تكشف هذا الانحياز بوضوح:

65% من التغطية خُصصت للخرطوم.

15% فقط لدارفور.

5% لجبال النوبة والنيل الأزرق.

تغطية مبادرات السلام لم تتجاوز 10%.

أما في 200 حلقة سياسية:

52% من الضيوف مرتبطون مباشرة بأحد طرفي الحرب.

30% محللون عسكريون منحازون. 18% فقط خبراء مستقلون.

قنوات الجزيرة والعربية والحدث لم تتعامل مع السودان كبلد يمر بمأساة إنسانية تستحق الحياد، بل كساحة صراع إقليمي يتم تغطيتها بما يخدم مواقف وأجندات بعض الدول. وهكذا تحولت الأخبار إلى “رسائل سياسية” موجّهة، لا تقارير إخبارية متوازنة.

قد يختلف المرء مع أجندات الإعلام الغربي، لكن لا يمكن إنكار أن تغطيته لحرب السودان جاءت أكثر تنوعًا في المصادر وأكثر جرأة في كشف الانتهاكات، حتى ضد حلفاء سياسيين أو اقتصاديين لدوله. فقد بثت الـBBC أكثر من 40 تقريرًا عن الوضع الإنساني في دارفور عام 2023، مقابل أقل من 10 تقارير في القنوات العربية الثلاث مجتمعة. واستضافت France 24 وDW منظمات حقوقية وخبراء مستقلين، وانتقدتا بوضوح الحكومة السودانية وقوات الدعم السريع، بل وحتى الأدوار الإقليمية.

في المقابل، ظل الإعلام العربي الكبير حبيس زاوية ضيقة، يتفادى طرح الأسئلة الصعبة أو كشف الحقائق التي قد تُغضب أصحاب القرار في العواصم الممولة. وهذا الفارق في المهنية لا يحرج الإعلام العربي فقط، بل يضعه في موقع المتهم بأنه يختار الانحياز على الحياد، والتوجيه على الإخبار.

قد تسكت المدافع يومًا، لكن ذاكرة السودانيين لن تنسى من حمل معاناتهم بأمانة، ومن حوّلها إلى وقود صراع سياسي. لقد أثبتت الحرب أن الإعلام العربي، بدلًا من أن يتعاطف مع الشعب السوداني في محنته، استغل الكارثة الإنسانية لتصفية حسابات إقليمية. وبينما كان ينتظر منه أن يرفع راية السلام، اختار أن يكون بوقًا للحرب وصانعًا لصورة مهينة لمآسي النازحين.

أما الشعب السوداني، فسيسجل بوعيه من وقف إلى جانبه بصدق، ومن خان رسالته المهنية ليضاعف جراحه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..