مقالات وآراء

في نقد وتفكيك نظرية الأمن القومي السوداني (7)

عمار الباقر

في المقال السابق تحدثنا عن أهمية وجود نظرية تنموية لإضفاء المشروعية السياسية لاي نظام سياسي في السودان بل ولأي مجموعة سياسية تسعي الي الوصول للحكم . وهنا ينبغي علينا الانتباه الي مسألة مهمة جدا وهي أن الفكر الثوري نفسه ليس استثناءً من هذه القاعدة، فأي فكر ثوري أو أيديولوجيا ثورية نجحد ان هدفها النهائي هو تنمية الانسان والمجتمعات البشرية وتحقيق العدالة فيما بينها.

أما أولئك الذين ينظرون الي الفكر الثوري كبقرة مقدسة تعبد لذاتها، فعلي أولئك البحث عن مقاعد لهم في شرفة أصحاب الفكر الديني صحبة نتنياهو سموترتش وعلي كرتي وأنس عمر، أولئك الذين اختاروا تعطيل التمية في بلادهم وتدميرها في سبيل وعد الهي أو فكرة مقدسة لا تخدم قضية رفاهية المواطن وكرامة عيشه في شيء.

كذلك تحدثنا عن أن السياسية ينبغي لها أن تخدم مسألة التنمية، فإذا ما غاب المحتوي أو الرؤية التنموية للسياسة أدي ذلك الي انحرافات خطيرة في أداء الدولة ونظام الحكم وهو ما سنتطرق اليه في هذا المقال. أحد ابرز هذه الانحرافات وأخطرها نجد ظاهرة تحول نظرية الأمن القومي الي مجرد سياسة حكومية وتدابير أمنية وقانونية تهدف الي استمرار بقاء المجموعة الحاكمة علي سدة الحكم واقصاء المجموعات الأخرى بصورة لا تسمح لها باي شكل من أشكال التداول السلمي للسلطة.

وللأسف الشديد فإن هذه السياسة قد تم تبنتها جميع المجموعات التي وصلت للحكم في السودان بما فيها الأحزاب السياسية صاحبة المصلحة المباشرة في التداول السلمي للسلطة. ولكنها بدلاً من ذلك نجدها قد تبنت نفس المنطق الإقصائي فتصاعدت الاتهامات لحزب الأمة بتسليم السلطة للجنرال عبود سنة 1958م، ثم قامت الأحزاب التي سيطرت علي البرلمان بعد الإطاحة بحكم عبود بحل الشيوعي سنة 1967م لتهم الحزب الشيوعي نفسه بالتحالف مع مجموعات القوميين العرب بالانقلاب علي النظام البرلماني سنة 1969م ثم تقع الواقعة بين طرفي الانقلاب حينما حاولت مجموعات القوميين العرب الاستئثار بالسلطة لنفسها وإقصاء البقية فكانت حركة يوليو التصحيحية والتي سعدت الي استعادة قدر من الديمقراطية لصالح الجماهير حسب بيان قائدها هاشم العطا.

ثم قيام الحركة الإسلامية بانقلابها المشؤوم في 1989م واستمر الحال علي ذات المنوال حتي يومنا هذا. للأسف الشديد نجد أن أول ضحايا هذه السياسة هي الأحزاب السياسية السودانية نفسها والتي أصبحت تسعي الي اجتثاث بعضها البعض وما درت انها باتباع هذه السياسة. كذلك نجد انه ونتيجة لغياب نظرية أمن قومي قادرة علي التفريق بين مفهوم الدولة ومفهوم الحكومة، انخرطت مؤسسات الدولة وعلي رأسها الجيش والمؤسسات الأمنية بهمة ونشاط غريب في هذه السياسة المضرة واتخذ قادة هذه المؤسسات من هذه السياسة مدخلاً لوصولهم هم انفسهم الي الحكم، في الوقت الذي يفرض عليهم واجبهم المهني والأخلاقي حماية الحياة المدنية والعملية السياسية بجميع أطرافها والوقوف علي مسافة واحدة بينها.

فدور المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية هو في الأصل حماية المجتمع المدني وليس الانقلاب عليه. إلا أنهم بدلاً عن ذلك توهموا أن انخراطهم وبنشاط في سياسة اجتثاث الأحزاب السياسية لبعضها بعضاً قد يفتح لها الطريق لحكم البلاد وما دروا أنهم بذلك أنما يهدمون الدولة السودانية نفسها حتي وصلنا الي ما وصلنا اليه اليوم. تفاقمت هذه الظاهرة مؤخراً بظهور أفكار وشعارات عجزت عن التريق بين الأحزاب السياسية والنظام السياسي القائم علي التعددية الحزبية فتبنت وجهات نظر رافضة للمؤسسة الحزبية بالكامل وغاب عنها أنها بهذا الموقف انما ترفض التحول المدني الديمقراطي و ومبدأ التداول السلمي والديمقراطي للسلطة.

فالأحزاب السياسية مهما ساء بها الحال هي وحدات بناء نظام الحكم المدني الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة. وبالتالي فالمطلوب الوقوف مع هذا النظام وإعادة تشكيل وحدات بنائه عبر الوسائل الديمقراطية. هنا تقتضي الموضوعية الإشارة الي أن هذا الموقف إنما هو رد فعل تلقائي للتردي وتدني مستوي الممارسة السياسية الذي عانت منه الأحزاب السياسية خلال الفترة الماضية نتيجة لاستطالة أمد محاولات اقصاء واجتثاث بعضها البعض الأمر الذي حولها الي أحزاب منبتة عن جماهيرها .

إذن فان اصلاح النظام السياسي علي أساس من الديمقراطية وضمان التداول السلمي للسلطة ليكون دور الدولة فيه بجميع مؤسساتها بما في ذلك الجيش والمؤسسة الأمنية هو حماية هذا النظام وضمان البيئة الصالحة والنزيهة داخله هو المدخل لاستقرار البلاد وإصلاح المؤسسة الحزبية. كذلك نجد أنه ومن وجهة نظر أمنية، فإن اما يقوم به البرهان مجموعته كبار الضباط التي حوله بالانقلاب علي النظام كل بضعة أشهر، هو بمثابة طعنات قاتلة توجه الي صدر الدولة وأكبر تهديد لها منذ الاستقلال، وهو السبب المباشر وراء هذه الحرب وتبعاتها من تفتيت للدولة ووحدة أراضي البلاد. ولا يزال الأمر مرشحاً لمزيد من التدهور طالما ظل هذا التفكير مسيطراً علي عقل المجموعة الممسكة بقرون السلطة اليوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..