إقالة ضباط إسلاميين في السودان: إستراتيجية حقيقية أم مسرحية لخداع المجتمع الدولي؟

📝 أواب عزام البوشي
تشهد الساحة السودانية منعطفاً بالغ التعقيد، تتقاطع فيه الخطوط بين السياسة الداخلية والضغوط الدولية، حيث تطفو على السطح تحركاتٌ لقادة الجيش يراها المراقبون محورية في رسم مستقبل البلاد. فالقرارات الأخيرة للفريق أول عبد الفتاح البرهان، المتعلقة بإحالة ضباط يُنسبون للحركة الإسلامية إلى التقاعد واعتقال اللواء يكروي أحد أبرز وجوه انقلاب ٢٠٢٠، لم تكن حركات عابرة؛ بل جاءت محملة بإيحاءات تدفع إلى سؤال جوهري حول حقيقة ما يجري: هل هي خطوات إصلاحية صادقة أم مجرد أداء متقن لمسرحية تهدف إلى امتصاص الغضب الدولي ؟
*تفكيك الوقائع وسياقها*
لا يمكن تحليل هذه الخطوات بمعزل عن سياقها، فجوهر الحدث يكمن في توقيته اللاحق للاجتماع السري غير المعلن بين البرهان مسعد بولس مستشار ترامب في سويسرا. وقد أشارت تسريبات إلى أن ملف مكافحة الإرهاب كان في صلب المفاوضات، وهي مطالب أمريكية معلنة. هذا السياق الدولي الكثيف يلقي بظلاله الثقيلة على الإجراءات الداخلية، مما يغذي الشكوك حول دوافعها الحقيقية، ويجعلها تبدو لأول وهلة كاستجابة لشروط خارجية أكثر منها إرادة إصلاح وطنية خالصة.
*وجهة النظر الأولى: مسرحية ممنهجة لاحتواء الضغط*
يسود اعتقاد بين قطاع عريض من المحللين والناشطين، ولا سيما مناصري ثورة ديسمبر، بأن هذه الإجراءات ليست سوى “إصلاحات مطبوخة” مُعدّة مسبقاً. ووفق هذا التفسير، فإن الهدف هو تهدئة المجتمع الدولي عبر تقديم تنازلات شكلية، بينما يبقى الهيكل الحقيقي لنفوذ الحركة الإسلامية سليماً ومعافى داخل مؤسسات الدولة. الإحالة إلى التقاعد – كإجراء إداري – تبدو مخففةً خطورة الادعاءات، ويفسرها البعض على أنها طريقة لاحتواء الموقف دون المساس بالجوهريين أو تعريضهم لمحاكمات علنية قد تكشف شبكات واسعة. الهدف الخفي، من هذا المنظور، هو منع تصنيف الحركة الإسلامية كمنظمة إرهابية، وهو تصنيف ستكون تداعياته وخيمة على قادتها وعلى مواردها المالية الدولية. باختصار، هي عملية تكتيكية للتضحية ببعض الرموز الثانوية لحماية البنية الأساسية.
*وجهة النظر الثانية: صراع نفوذ وتطهير حقيقي*
في المقابل، يرى باحثون آخرون أن قراءة الخطوات على أنها مجرد مسرحية قد تكون تبسيطاً مفرطاً للأمر. فالبرهان، كقائد عسكري محنك، يدرك جيداً أن بقاءه في السلطة يعتمد بالدرجة الأولى على سيطرته الكاملة على الجيش. ومن هذا المنطلق، قد تكون هذه الإجراءات ضربةً استباقية ذكية لتصفية منافسيه ومراكز القوى المنافسة داخل المؤسسة العسكرية نفسها، خاصة أولئك المنتمين لتيارات إسلامية أو موالين لخلفية حميدتي. بمعنى آخر، يستغل البرهان المطلب الدولي “مكافحة الإرهاب” غطاءً مثالياً لتحقيق أهداف داخلية بحتة، وهي تركيز السلطة بين يديه وتأمين ولاء الجيش بشكل مطلق. كما أن فرضية اكتشاف محاولة انقلابية فاشلة من قبل التيار الإسلامي تظل فرضية قائمة، مما قد يمنح الإجراءات شرعيتها الأمنية الوظيفية بغض النظر عن الدوائر الدولية.
*الخلاصة: لعبة إستراتيجية متعددة الأبعاد*
الحقيقة التي يمكن استخلاصها هي أن تحركات البرهان على الأرجح ليست محكومة بدافع واحد، بل هي استجابة مركبة لضغوط متعددة. إنها محاولة ذكية – وإن كانت محفوفة بالمخاطر – لإرضاء المجتمع الدولي بتقديم قرابين مرئية، وفي الوقت نفسه تصفية الحسابات الداخلية وتعزيز السيطرة الشخصية على مفاصل القوة. كما أنها محاولة لاستباق أي إجراءات أمريكية صارمة قد تعزل النظام دولياً. الفيصل في الحكم على نية البرهان لن يكون في هذه الخطوة الأولى، بل في الخطوات التالية: هل ستتحول هذه الإقالات إلى محاكمات علنية تكشف الحقائق؟ هل ستتبعها عملية نزع حقيقية للحركة الإسلامية و القوات التابعة لها البراء بن مالك من جميع مؤسسات الدولة؟ أم أن الستار سيسدل على هذه الحلقة لتعود الأمور إلى طبيعتها، مُثبتةً أن الأمر كان مجرد أداء مؤقت في مسرحية طويلة الأمد؟ الإجابة ليست في البيانات، بل في الوقائع القادمة التي سترسم مصير السودان.