أهم الأخبار والمقالات

الإرث الحتمي: تفكيك مشروع حسن الترابي الإسلاموي ورسم مسار لتجديد السودان

مقدمة: مفارقة المهندس

يطرح المشهد السوداني الراهن، الذي بلغ ذروته في حرب أهلية كارثية بدأت في أبريل 2023، سؤالاً مركزياً حول الحتمية التاريخية. هل كان هذا الانهيار الدموي للدولة وتفتتها المجتمعي النتيجة المنطقية والمباشرة للمشروع الأيديولوجي والهيكل السياسي الذي شيده الدكتور حسن الترابي والحركة الإسلاموية على مدى ثلاثة عقود من حكم “الإنقاذ”؟ أم أنه كان نتيجة عرضية لصراعات القوى التي تلت ثورة ديسمبر 2019؟ يهدف هذا التقرير إلى تقديم تحليل معمق لهذه الإشكالية، مستخدماً مفهوم “التبعية للمسار” (Path Dependency) كأداة تحليلية مركزية لفهم كيف أن الخيارات التي اتخذها نظام الإنقاذ لم تحدد المستقبل فحسب، بل ضيقت بشكل كبير نطاق النتائج الممكنة، وجعلت من الانهيار العنيف احتمالاً راجحاً.

في قلب هذا التحليل تكمن المفارقة الأساسية لشخصية حسن الترابي نفسه: فهو من جهة، المفكر والمثقف المتخرج من جامعات السوربون ولندن، المتقن لعدة لغات، الذي قدم نظرية متطورة وحديثة للدولة الإسلامية تقوم على الشورى الواسعة وتجديد الفكر الديني. ومن جهة أخرى، هو السياسي البراغماتي الذي خطط ونفذ انقلاباً عسكرياً سرياً ، وأشرف على تأسيس نظام استبدادي قمعي. هذه الازدواجية ليست مجرد نفاق سياسي، بل هي المدخل لفهم التناقضات الجوهرية التي بُني عليها المشروع بأكمله، والتي حملت في طياتها بذور فنائه.

تتمثل الأطروحة المركزية لهذا التقرير في أنه على الرغم من أن توقيت وشكل الأحداث لم يكن محتوماً، فإن الإطار الأيديولوجي، والاستراتيجيات السياسية، والهندسة الهيكلية التي اتبعها نظام الإنقاذ قد خلقت دولة معطوبة بشكل أساسي وممزقة بصراعات داخلية عميقة، إلى درجة أن انفجارها في نهاية المطاف في شكل صراع عنيف كان نتيجة شبه حتمية. إن استراتيجيات النظام الأساسية للبقاء، وتحديداً إنشاء دولة أمنية موازية وتكريس الفساد المؤسسي عبر سياسة “التمكين”، كانت هي ذاتها البذور التي أدت إلى نهايته الدموية. فالحرب الحالية ليست ظاهرة جديدة، بل هي الفصل الأخير والأكثر دموية من فصول مشروع الإنقاذ نفسه.


الجزء الأول: المخطط النظري للدولة الإسلامية

الفصل الأول: الرؤية “التوحيدية”: الأيديولوجيا والطموح

الأسس الفكرية لمشروع الترابي

لفهم إرث الترابي، لا بد من تفكيك مشروعه الأيديولوجي الذي سعى من خلاله إلى تقديم رؤية متمايزة عن الحركات الإسلامية التقليدية. لم تكن رؤية الترابي قائمة على السلفية التقليدية أو مجرد استنساخ لتجربة الإخوان المسلمين في مصر، بل كانت تتمحور حول مفهومي “التجديد” و”التوحيد”. كان الهدف هو صهر كافة جوانب الحياة – السياسة، القانون، الاقتصاد، والمجتمع – في إطار إسلامي شامل وموحد، وهو ما أسماه بـ “توحيد الحياة كلها”. كانت هذه الرؤية تطمح إلى تجاوز الفصل الذي ترسخ بين الدين والدولة، والذي اعتبره الترابي استيراداً للتجربة الغربية وتأثراً بالفكر الصوفي الذي نأى بنفسه عن السلطان. أحد أهم أركان فكره هو رفضه لوجود طبقة كهنوتية أو “كنيسة” في الإسلام، مؤكداً على أن العلاقة بين الفرد والله يجب أن تكون مباشرة، وأن كل مسلم له الحق في الاجتهاد والتفقه في الدين.

قشرة ديمقراطية

من أبرز ما ميز خطاب الترابي نظرياً هو تبنيه لآليات ديمقراطية كأدوات لتحقيق الدولة الإسلامية. في كتاباته ومقابلاته، دافع الترابي بحماس عن مفهوم “الشورى” الواسعة التي لا تقتصر على العلماء والفقهاء، بل تشمل عامة الناس، معتبراً أن “أمرهم شورى بينهم” هو مبدأ عام للحياة السياسية. وقد ذهب إلى أبعد من ذلك في كتابه “السياسة والحكم”، حيث طرح فكرة أن “المجتمع هو المصدر الأعلى للحكم والسلطان”، وأن إرادة الشعب المؤمن بالشريعة هي التي تسود بشكل مباشر. هذه اللغة، التي تبدو تقدمية وديمقراطية، كانت حاسمة في استقطاب النخب المتعلمة والطبقة الوسطى في المدن، وقدمت حركته كبديل حديث ومنفتح على العصر، قادر على الاستجابة لتحدياته.

نشأة الحركة السودانية

حرص الترابي على تأكيد استقلالية الحركة الإسلامية السودانية وتمايزها عن التنظيم الأم في مصر. يروي في مراجعاته أن الحركة في بداياتها لم تنشأ “نشأة مذهبية” منغلقة، بل كانت منفتحة على مختلف المذاهب. بل إنه أطلق عليها في البداية اسم “حركة التحرر الإسلامي”، في محاكاة واعية لحركات التحرر الوطني العلمانية، مما يكشف عن وعي استراتيجي مبكر بأهمية الخطاب السياسي المعاصر. ووفقاً لروايته، لم تتبن الحركة اسم “الإخوان المسلمون” إلا في وقت لاحق، كنوع من التضامن مع إخوان مصر بعد تعرضهم للقمع والتنكيل في عهد عبد الناصر، وكإعلان تحدٍّ بأن ذات الراية يمكن أن تُرفع في السودان. هذا التمايز لم يكن شكلياً، بل عكس طموح الترابي في بناء مشروع سوداني خالص، مرتبط بالواقع المحلي وقادر على المناورة في الساحة السياسية بمرونة.

إن التناقض الأساسي في فكر الترابي يكمن في الفجوة العميقة بين خطابه الشعبوي الديمقراطي من جهة، وممارسته التي تبنت منطق “الطليعة الثورية” الشبيه باللينينية من جهة أخرى. فعلى الرغم من أن كتاباته ومقابلاته تزخر بحجج متطورة حول سيادة الأمة والشورى الواسعة ، إلا أن أفعاله، وتحديداً تدبيره لانقلاب 1989، كانت النقيض التام لذلك، حيث كانت مؤامرة سرية نفذتها خلية صغيرة من الضباط المؤدلجين. لا يمكن تفسير هذا التناقض بمجرد النفاق السياسي، بل هو يعكس قناعة راسخة بأن حركته تمتلك التفسير “الصحيح” للإسلام، وبالتالي فهي مخولة بالاستيلاء على السلطة بوسائل غير ديمقراطية من أجل “إرشاد” مجتمع اعتبره غير ناضج بما يكفي لاختيار “الطريق القويم” بنفسه. ضمن هذا المنطق، فإن الاستيلاء الاستبدادي على السلطة لم يكن خيانة للمبادئ، بل مرحلة ضرورية ومؤقتة “لإعادة هندسة” المجتمع وتوجيهه نحو الدولة الإسلامية المنشودة. لكن النتيجة الحتمية لهذا المنهج كانت أن الوسائل الاستبدادية تحولت إلى غاية في حد ذاتها، وأصبحت هي الواقع الدائم الذي أفسد ودمر في نهاية المطاف الهدف اليوتوبي الذي سعى لتحقيقه.

الفصل الثاني: الثوري المتربص: الاستراتيجية والتغلغل (1964-1989)

من التنظير إلى القوة السياسية

بدأت رحلة تحول الحركة الإسلامية من حلقة فكرية إلى قوة سياسية فاعلة مع تولي الترابي قيادتها عام 1964، خلفاً للمراقب العام المستقيل الرشيد الطاهر. تميزت استراتيجية الترابي بالبراغماتية والقدرة الفائقة على المناورة السياسية. استخدمت الحركة واجهات سياسية متعددة لكسب الشرعية والتغلغل في النسيج السياسي السوداني، بداية من “جبهة الميثاق الإسلامي” في الستينيات، وصولاً إلى “الجبهة الإسلامية القومية” في الثمانينيات، والتي أصبحت الأداة الرئيسية للوصول إلى السلطة.

استراتيجية “التمكين”: المراحل الأولى

قبل وقت طويل من انقلاب 1989، بدأت الحركة الإسلامية في تطبيق استراتيجية طويلة الأمد عُرفت لاحقاً بـ”التمكين”. لم تكن هذه الاستراتيجية مجرد السعي للمشاركة في السلطة، بل كانت مشروعاً ممنهجاً للتغلغل في مفاصل الدولة والمجتمع. ركزت الحركة على تجنيد وزرع كوادرها في مواقع حساسة داخل الخدمة المدنية، والنقابات المهنية، واتحادات الطلاب، والأهم من ذلك كله، داخل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. وتؤكد شهادات من داخل الحركة، مثل شهادة الدكتور المحبوب عبد السلام، أن الحركة استغلت فترات الانفتاح السياسي، مثل المصالحة الوطنية مع نظام نميري عام 1978، للتغلغل داخل السلطة ونشر برامجها. بل إن عبد السلام يصف فترة الديمقراطية الثالثة بأنها كانت من “أكبر فترات الكذب التي استفادت منها الحركة الإسلامية”، حيث كان التخطيط للانقلاب حاضراً بينما كانت الحركة تمارس العمل السياسي العلني. كان الهدف هو بناء “دولة موازية” أو “دولة عميقة” تكون قادرة على حماية الحركة وتطلعاتها، وفي اللحظة المناسبة، الاستيلاء على الدولة الرسمية من الداخل. هذه الاستراتيجية الصبورة والمنظمة هي التي مكنت الحركة من تنفيذ خطوتها التالية والأخطر.

الانقلاب كمشروع

تُظهر اعترافات الترابي المتأخرة أن انقلاب 30 يونيو 1989، الذي عُرف بـ”ثورة الإنقاذ الوطني”، لم يكن عملاً عفوياً قام به ضباط غاضبون، بل كان تتويجاً لمشروع دقيق ومحكم خططت له الجبهة الإسلامية القومية بقيادته. يعترف الترابي بصراحة أن الانقلاب “هو انقلابكم… الجيش ليس له به شأن”، وأن الجبهة هي التي “دبرت الأمر كل التدبير”. وتكشف شهادته عن مدى عمق التخطيط السري، الذي شمل إنشاء شبكة اتصالات خاصة ومستقلة عن شبكات الجيش والدولة لضمان نجاح التحرك في يوم الانقلاب. كما اعترف بأن اختيار الضباط المنفذين، الذين لم يكن بعضهم يعرف بعضاً، تم بعناية فائقة لضمان السرية المطلقة.

كانت الخطة تتضمن أيضاً مسرحية متقنة لخداع الرأي العام المحلي والدولي حول هوية الانقلاب الحقيقية. فقد تم الاتفاق على أن يذهب الترابي وبقية القادة المدنيين للجبهة إلى السجن، ليظهر الانقلاب وكأنه تحرك عسكري محض لا علاقة له بالإسلاميين. يعترف الترابي بأن هذا الإجراء كان ضرورياً “حتى لا يعلم العالم الغربي والعالم العربي” أن الإسلاميين هم من يقفون وراء الانقلاب. هذه الاعترافات لا تترك مجالاً للشك في أن الانقلاب لم يكن مجرد وسيلة، بل كان جزءاً لا يتجزأ من مشروع الحركة الأيديولوجي للوصول إلى السلطة وتطبيق رؤيتها بالقوة.


الجزء الثاني: إرث الثلاثين عاماً: بناء دولة الإنقاذ (1989-2019)

الفصل الثالث: الهوة بين النظرية والتطبيق: الاستبداد والتمزق الداخلي

واقع السلطة

بمجرد أن أحكمت الجبهة الإسلامية قبضتها على السلطة، سرعان ما تبخرت الوعود النظرية بالشورى الواسعة والحرية. كشف واقع الحكم عن وجه استبدادي صريح، حيث تم حل الأحزاب السياسية، وتعليق الدستور، وقمع المعارضة بكل أشكالها. تم إنشاء أجهزة أمنية موازية وميليشيات حزبية لملاحقة الخصوم السياسيين، واشتهرت تلك الفترة بـ”بيوت الأشباح” التي كانت مسارح للتعذيب والقتل خارج نطاق القانون. كما فرض النظام رؤيته الاجتماعية المحافظة بقوة عبر “شرطة النظام العام”، التي تدخلت في أدق تفاصيل الحياة الشخصية للمواطنين، من الملبس إلى التجمعات الخاصة، مما خلق حالة من الرعب والقمع الاجتماعي الممنهج.

انشقاق عام 1999

لم يكن الصراع الذي انفجر عام 1999 بين مهندس النظام (الترابي) وواجهته العسكرية (عمر البشير) مجرد خلاف شخصي على النفوذ، بل كان نتيجة حتمية للتناقضات الكامنة في بنية النظام نفسه. لقد كشف هذا الصراع عن الوهم الأساسي الذي بنى عليه الترابي مشروعه، وهو اعتقاده بقدرته على التحكم في جنرال عسكري وضعه هو في السلطة. عندما حاول الترابي، من موقعه كرئيس للبرلمان، تمرير تعديلات دستورية تحد من صلاحيات رئيس الجمهورية، جاء رد البشير حاسماً: حل البرلمان، وإعلان حالة الطوارئ، وإيداع الترابي نفسه في السجن. أثبتت هذه “المفاصلة” الشهيرة أن القوة العسكرية الغاشمة ستتفوق دائماً على السلطة الفكرية والأيديولوجية في الدولة التي أسساها معاً، وأن الأداة التي استخدمها الترابي للوصول إلى السلطة هي ذاتها التي أطاحت به في النهاية. ويقدم المحبوب عبد السلام تحليلاً من الداخل لهذا الانقسام، حيث يرى أن ما عُرف بـ “مذكرة العشرة” كان في جوهره “صراع أجيال”، حيث سعى جيل جديد من القيادات إلى إزاحة قيادة الترابي التاريخية للوصول إلى مواقع تنفيذية، مما يكشف أن الصراع على السلطة والمناصب كان أحد المحركات الرئيسية للتفكك الداخلي.

الفصل الرابع: “التمكين”: هندسة الدولة العميقة

منهجة المحسوبية

كانت سياسة “التمكين” هي المبدأ التنظيمي المركزي لدولة الإنقاذ. لم تكن هذه السياسة مجرد محسوبية أو فساد بالمعنى التقليدي، بل كانت مشروعاً أيديولوجياً ممنهجاً يهدف إلى تفكيك مؤسسات الدولة القائمة وإعادة بنائها على أساس الولاء التنظيمي للحزب الحاكم. ويشير المحبوب عبد السلام إلى أن هذه السياسة نبعت من أزمة فكرية عميقة، تمثلت في “فشل ذريع في دمج التراث الإسلامي السوداني بمفاهيم الحكم المعاصرة”، مما أدى إلى عجز الإسلاميين عن إدراك معنى “الوطن” بحدوده ومؤسساته الحديثة. هذا العجز هو الذي برر استهداف مؤسسات الدولة وتفكيكها لصالح التنظيم. شملت هذه السياسة ما عُرف بـ”الإحالة للصالح العام”، وهي عملية تطهير واسعة النطاق طالت عشرات الآلاف من الموظفين في الخدمة المدنية، والقضاء، والجيش، والشرطة، والجامعات، والمؤسسات الحكومية، واستبدالهم بكوادر الحركة الإسلامية، بغض النظر عن كفاءتهم أو خبرتهم. أدت هذه السياسة إلى تجريف الدولة من خبراتها وتدمير مؤسساتها، وتحويلها إلى مجرد امتداد للحزب الحاكم.

بنية الفساد

خلقت سياسة “التمكين” البنية التحتية لفساد غير مسبوق في تاريخ السودان. من خلال السيطرة الكاملة على مفاصل الدولة والاقتصاد، تمكن النظام ورموزه من نهب ثروات البلاد بشكل منظم. تشير التقارير إلى تدفقات مالية غير مشروعة تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، خاصة من عائدات الذهب والصادرات التي لم تكن تُدرج في السجلات الرسمية. كما تم الاستيلاء على أصول الدولة والأراضي والعقارات وتوزيعها على المحسوبين على النظام. اعترف الترابي نفسه في وقت لاحق بظهور الفساد وانتشاره “كالسرطان”، لكنه بدا عاجزاً عن إيقاف الوحش الذي أطلقه من عقاله، معترفاً بأن فتنة السلطة والمال قد أغوت الكثيرين.

التبعات الاقتصادية

كانت النتيجة الحتمية لهذه السياسات هي الانهيار الشامل للاقتصاد السوداني. فبالإضافة إلى الفساد المستشري، عانى السودان من عقوبات دولية قاسية بسبب سياسات النظام الخارجية، بما في ذلك إدراجه على قائمة الدول الراعية للإرهاب واستضافته لشخصيات مثل أسامة بن لادن. أدى تركيز النظام على استخراج النفط وتصديره على حساب القطاعات الإنتاجية التقليدية كالزراعة إلى تشوه هيكلي في الاقتصاد. وعندما انفصل جنوب السودان في عام 2011، آخذاً معه ثلاثة أرباع إنتاج النفط، فقد الاقتصاد السوداني شريان حياته الرئيسي، مما أدخله في أزمة خانقة تمثلت في التضخم الجامح وانهيار قيمة العملة وشح السلع الأساسية. كانت هذه الأزمة الاقتصادية هي الشرارة المباشرة التي أشعلت فتيل ثورة ديسمبر 2018.

الفصل الخامس: رؤوس الهيدرا: تفتيت الدولة الأمنية

استراتيجية التوازنات المضادة

وُلد نظام الإنقاذ من رحم انقلاب عسكري، وعاش طوال فترة حكمه في خوف دائم من أن تتم الإطاحة به بانقلاب مماثل. لذلك، كانت استراتيجيته الأساسية للبقاء هي “تحصين النظام ضد الانقلابات” (coup-proofing) عبر تفتيت المؤسسة الأمنية والعسكرية وخلق مراكز قوى متعددة ومتنافسة. الهدف من ذلك كان ضمان عدم تمكن أي جهة عسكرية أو أمنية بمفردها من حشد القوة الكافية لتحدي رأس النظام.

ولادة الجنجويد وصعود قوات الدعم السريع

كانت حرب دارفور التي اندلعت في عام 2003 هي المختبر الرئيسي الذي طبقت فيه هذه الاستراتيجية بأبشع صورها. فبدلاً من الاعتماد على الجيش النظامي وحده، قام النظام بتسليح وتنظيم ميليشيات قبلية عربية، عُرفت بـ”الجنجويد”، وأطلق يدها لسحق التمرد في الإقليم. ارتكبت هذه الميليشيات فظائع واسعة النطاق أدت إلى اتهام رموز النظام، بمن فيهم البشير، بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية. لاحقاً، تم إضفاء الطابع الرسمي على هذه الميليشيات ودمجها في كيان جديد تحت اسم “قوات الدعم السريع”، وُضعت تحت القيادة المباشرة لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، ثم لاحقاً تحت قيادة رئاسة الجمهورية مباشرة، متجاوزة بذلك التسلسل القيادي للقوات المسلحة السودانية.

التمكين الاقتصادي للميليشيات

لم تكن قوات الدعم السريع مجرد قوة عسكرية، بل سرعان ما تحولت إلى إمبراطورية اقتصادية. منحها النظام السيطرة على موارد استراتيجية، أهمها مناجم الذهب في دارفور وغيرها من المناطق، مما سمح لها بأن تصبح كياناً ذا تمويل ذاتي، يمتلك ثروات طائلة وشبكات أعمال عابرة للحدود. هذا التمكين الاقتصادي خلق فاعلاً مسلحاً قوياً له مصالح خاصة ومستقلة عن الدولة، وله مصلحة حيوية في الحفاظ على هذه الاستقلالية وهذه الثروة، مما جعله قوة لا يمكن السيطرة عليها بسهولة.

لقد كانت البنية الأمنية لنظام الإنقاذ تطبيقاً متعمداً ومدمراً لمفهوم “المعضلة الأمنية” على الصعيد الداخلي. فمن خلال خلق قوات الدعم السريع لمواجهة التهديد المتصور من القوات المسلحة السودانية، قام النظام بتأسيس خصومة هيكلية كان مصيرها الانفجار إلى عنف بمجرد زوال السلطة المركزية (البشير) التي كانت تدير هذا التوازن الهش. فالجيش، بتاريخه الطويل من الانقلابات ، كان يمثل تهديداً دائماً. وبدلاً من إخضاعه للسيطرة المدنية، وهو ما يتعارض مع طبيعة النظام، كان الحل هو إنشاء جيش موازٍ (الدعم السريع) لا يدين بالولاء إلا للرئيس. هذه الاستراتيجية خلقت مؤسستين مسلحتين قويتين لهما مصالح وقيادات وقواعد اقتصادية متنافسة. ومع إزالة ثورة 2019 لقطعة الدومينو الرئيسية (البشير)، تحول التنافس المكتوم إلى صراع مفتوح. كانت قضية إصلاح القطاع الأمني، وتحديداً دمج قوات الدعم السريع في الجيش، هي القشة التي قصمت ظهر البعير. لم تكن هذه قضية فنية، بل كانت وجودية: فالدمج بالنسبة للدعم السريع يعني التفكيك وفقدان السلطة، وبالنسبة للجيش يعني ابتلاع الخصم وتحييده. وهكذا، أصبح الصراع المسلح هو المخرج الوحيد لهذه المعادلة الصفرية. إن الحرب الأهلية الحالية هي الإرث المباشر لهذه السياسة الأمنية، وهي ليست صراعاً جديداً، بل هي الحل العنيف للتناقضات التي زرعها النظام عمداً في قلب أجهزته القسرية.

العقيدة النظرية (حسب كتابات ومقابلات الترابي)الممارسة العملية (واقع حكم الإنقاذ)

الشورى الواسعة وسيادة الأمة: “المجتمع هو المصدر الأعلى للحكم والسلطان” و”أمرهم شورى بينهم” مبدأ عام يشمل كل الناس.

الانقلاب العسكري والحكم الشمولي: الاستيلاء على السلطة بالقوة عام 1989، حل الأحزاب، تعليق الدستور، وحكم الحزب الواحد لمدة 30 عاماً.

الحرية الدينية والفكرية: “في الإسلام لا توجد كنيسة على الإطلاق” والتأكيد على العلاقة المباشرة مع الله وحرية الاعتقاد.

القمع وفرض رؤية أحادية: إنشاء شرطة النظام العام لفرض رؤية اجتماعية متشددة، قمع المخالفين، واغتيال المفكر محمود محمد طه بتهمة الردة (في عهد نميري بدعم الإسلاميين).

العدالة الاقتصادية ومحاربة الفقر: التأكيد على قيم الزكاة والتكافل الاجتماعي كأدوات لتحقيق العدالة.

الفساد الممنهج و”التمكين”: سياسة “التمكين” التي أدت إلى إفقار الدولة، نهب الموارد، ظهور طبقة من الأثرياء الجدد المرتبطين بالنظام، وتصنيف السودان ضمن أكثر الدول فساداً.

الوحدة الوطنية واحترام التنوع: الاعتراف المتأخر بضرورة منح الحقوق للأقاليم المهمشة مثل الجنوب لتجنب الانفصال.

الحروب الأهلية والتطهير العرقي: إشعال حرب أهلية أدت إلى انفصال الجنوب عام 2011، وشن حرب مدمرة في دارفور وُصفت بأنها إبادة جماعية، مما أدى إلى تفتيت النسيج الاجتماعي للبلاد.


الجزء الثالث: التفكك: من الثورة إلى انهيار الدولة (2019-حتى الآن)

الفصل السادس: الحساب الحتمي: ثورة 2019

رفض شعبي شامل

لم تكن انتفاضة ديسمبر 2018 مجرد احتجاج على تردي الأوضاع الاقتصادية، بل كانت رفضاً شعبياً شاملاً لمشروع الإنقاذ الذي استمر ثلاثين عاماً. كانت الشعارات التي رفعها الثوار – “حرية، سلام، عدالة” – بمثابة رد مباشر على إرث النظام القائم على القمع، والحروب الأهلية التي لم تتوقف، والظلم الاجتماعي والمؤسسي الممنهج. مثلت الثورة لحظة تاريخية أعلن فيها الشعب السوداني، بقيادة الشباب والنساء وتجمعات المهنيين، عن رغبته في طي صفحة الماضي وبناء دولة مواطنة ديمقراطية.

الانتقال الهش

لم يؤد سقوط البشير في أبريل 2019 إلى تفكيك دولة الإنقاذ العميقة. بل على العكس، أدى إلى اتفاق هش لتقاسم السلطة بين المكون المدني، ممثلاً في قوى إعلان الحرية والتغيير، والمكون العسكري، الذي كان يتألف من قيادة القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، وهما الذراعان الضاربتان للنظام القديم اللذان أزاحا البشير لإنقاذ النظام نفسه وليس لإسقاطه. كانت هذه الشراكة غير متكافئة ومحفوفة بالمخاطر منذ يومها الأول، حيث وضعت حركة ديمقراطية شعبية في مواجهة مباشرة مع مؤسسات الدولة العميقة المتجذرة والمصممة على حماية امتيازاتها السياسية والاقتصادية.

الفصل السابع: الإمبراطورية ترد: الدولة العميقة والطريق إلى الحرب

تخريب المرحلة الانتقالية

منذ اللحظة الأولى لتشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، عملت بقايا النظام السابق (المعروفة بـ”الفلول”) والمؤسسة الأمنية على تقويضها بشكل ممنهج. شملت أساليب التخريب افتعال أزمات اقتصادية عبر المضاربة في العملة وتهريب السلع، تنظيم احتجاجات مضادة للمطالبة بحكم عسكري، ودعم النزاعات القبلية لزعزعة الاستقرار، بالإضافة إلى تدبير عدة محاولات انقلابية فاشلة. كانت هذه التحركات تهدف إلى إظهار عجز الحكومة المدنية وتهيئة الأجواء لعودة الحكم العسكري الكامل.

انقلاب 2021

كان انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي قاده الجنرالان عبد الفتاح البرهان (قائد الجيش) ومحمد حمدان دقلو “حميدتي” (قائد الدعم السريع)، هو تتويجاً لجهود التخريب هذه. أنهى الانقلاب بشكل رسمي اتفاق تقاسم السلطة وأثبت أن المكونات العسكرية لدولة الإنقاذ لن تتخلى طواعية عن السلطة ولن تسمح بأي إصلاحات حقيقية تهدد مصالحها السياسية وإمبراطورياتها الاقتصادية. ومن أولى القرارات التي اتخذها الانقلابيون كان تجميد عمل “لجنة إزالة التمكين”، وهي الهيئة التي كانت مكلفة بتفكيك بنية النظام السابق واسترداد الأموال المنهوبة، مما كشف عن الهدف الحقيقي للانقلاب وهو حماية الدولة العميقة وإرثها.

الانهيار النهائي (2021-2023)

تميزت الفترة ما بين انقلاب 2021 وبداية الحرب في 2023 بتصاعد التنافس المحموم بين شريكي الانقلاب، البرهان وحميدتي. بعد تهميش الشركاء المدنيين، تحول الصراع الخفي بين الجنرالين إلى صراع مفتوح على النفوذ والسيطرة المطلقة على الدولة. فشلت كل المحاولات الإقليمية والدولية لرعاية “اتفاق إطاري” جديد في حل المعضلة الأمنية الأساسية المتعلقة بدمج قوات الدعم السريع في الجيش، لأنها كانت تتعامل مع قضية وجودية لكلا الطرفين.

الحرب كامتداد للانقلاب

إن الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 هي في جوهرها المرحلة العنيفة لانقلاب 2021. إنها النتيجة المنطقية لدولة الإنقاذ العميقة وهي توجه أسلحتها نحو الداخل، حيث يتقاتل عموداها الفقريان (الجيش والدعم السريع) من أجل السيطرة الكاملة على الدولة التي استوليا عليها معاً. تؤكد تقارير من مؤسسات بحثية مرموقة مثل “تشاتام هاوس” و”مجموعة الأزمات الدولية” أن الإسلاميين المتشددين من عهد البشير يلعبون دوراً محورياً في إشعال الحرب ودعم القوات المسلحة، على أمل العودة إلى السلطة وعرقلة أي تسوية سياسية. وبهذا المعنى، فإن الحرب الحالية ليست حرباً بين جيش وطني وميليشيا متمردة فحسب، بل هي حرب أهلية بين ورثة مشروع الإنقاذ المتنافسين.

الفصل الثامن: اعترافات الأب الروحي الفاشل

مراجعات الترابي المتأخرة

عند إعادة فحص مقابلات الترابي في سنواته الأخيرة، يمكن قراءة “اعترافاته” ليس كاعتذار حقيقي عن الأضرار التي ألحقها بمشروعه (وهو ما لم يقدمه قط) ، بل كنقد سياسي للطريقة التي أدار بها خلفاؤه هذا المشروع. لقد أقر بظهور الفساد ، وحذر من “فتنة السلطة” التي اعتبرها أخطر الفتن ، واعترف بالفشل في إقامة دولة عادلة تلبي طموحات جميع السودانيين.

ربط الاعتراف بالانهيار

يمكن رسم خطوط مباشرة بين إقرارات الترابي والفشل الهيكلي الذي أدى إلى الحرب. على سبيل المثال، ندمه على غياب الشفافية والمساءلة العلنية يرتبط مباشرة بالدولة الريعية الفاسدة التي جوفت مؤسسات الدولة. تحذيراته من السلطة المطلقة كانت بمثابة نبوءة للتنافس الوحشي بين الجيش والدعم السريع. واعترافه المتأخر بضرورة منح الحقوق للجنوب والأقاليم الأخرى لتجنب التفتت يؤكد فشل النظام في بناء هوية وطنية جامعة، مما أدى إلى الانفصال والحروب المستمرة.

الدرس الذي لم يُستوعب

التحليل النهائي هو أنه بينما كان الترابي قادراً على تشخيص بعض أعراض فشل مشروعه (الفساد، الاستبداد، الانقسام)، فإنه فشل أو رفض الاعتراف بأن هذه الأعراض لم تكن أخطاء قابلة للتصحيح، بل كانت النتائج الحتمية لأيديولوجيته التأسيسية القائمة على “الطليعة” واستراتيجيته المركزية المتمثلة في “التمكين”. لقد كان يعتقد أن الخلل في التطبيق، بينما كان الخلل كامناً في التصميم الأصلي نفسه. وتأتي شهادات شخصيات من داخل الحركة مثل المحبوب عبد السلام لتؤكد هذا الفشل الجذري، حيث يقر بأن “تيار الإسلام السياسي… استنفذ أغراضه”، وأن أطر الدولة الحديثة لم تعد قادرة على استيعاب برامج هذه الحركات. هذا الحكم من الداخل يمثل شهادة نهائية على أن المشروع قد وصل إلى طريق مسدود بسبب تناقضاته الداخلية وعجزه عن التطور.


الجزء الرابع: خارطة طريق لسودان جديد: تفكيك الإرث

الفصل التاسع: استئصال السرطان: إطار عمل لتفكيك “التمكين”

دروس من المحاولة الأولى

قدمت تجربة “لجنة إزالة التمكين” (2019-2021) دروساً بالغة الأهمية. على الرغم من نجاحها في استرداد أصول ضخمة للدولة تقدر بمليارات الدولارات ، إلا أنها واجهت انتقادات حادة لكونها أداة سياسية للانتقام وتصفية الحسابات بدلاً من كونها مؤسسة قائمة على سيادة القانون، حيث تمت العديد من المصادرات والفصل من الخدمة دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة. وكان حلها الفوري بعد انقلاب 2021 دليلاً على أنها كانت تشكل تهديداً حقيقياً لمصالح الدولة العميقة.

إطار مقترح جديد

يجب أن تكون أي عملية جديدة لتفكيك “التمكين” مختلفة جذرياً. يجب أن تتأسس على هيئة مستقلة شبه قضائية، ذات تفويض قانوني واضح وشفاف، تركز على ثلاثة محاور رئيسية:

  1. استرداد الأصول: إنشاء هيئة متخصصة تتمتع بصلاحيات واسعة لتتبع واسترداد الأموال والأصول المنهوبة داخل وخارج السودان، بالتعاون مع المؤسسات الدولية.

  2. الإصلاح المؤسسي: مراجعة جميع التعيينات التي تمت في الخدمة المدنية والمؤسسات العامة خلال فترة الإنقاذ على أساس معايير الكفاءة والمهنية، وليس الولاء السياسي. يجب أن توازن هذه العملية بين الحاجة إلى الكفاءة وخطر انهيار الخدمات العامة إذا تم الفصل بشكل جماعي وعشوائي.

  3. المساءلة القانونية: بناء ملفات قضائية متكاملة ضد الأفراد المتورطين في جرائم الفساد الكبرى والإثراء غير المشروع، وتقديمهم لمحاكمات عادلة.

يجب الاستفادة من التجارب الدولية في هذا المجال، مثل عمليات التطهير (Lustration) في دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الشيوعية، وتجارب تفكيك الأنظمة الشمولية الأخرى، مع تكييفها لتناسب السياق السوداني المعقد.

الفصل العاشر: صياغة سيف واحد: حتمية إصلاح القطاع الأمني

التحدي المركزي

إن وجود جيوش متعددة وميليشيات مسلحة هو التهديد الوجودي الأكبر لبقاء الدولة السودانية. لذا، يجب أن يكون الهدف الأسمى لأي حكومة مستقبلية هو إنشاء جيش وطني واحد، مهني، وموحد، يخضع بالكامل للسلطة المدنية المنتخبة.

نهج مرحلي للدمج والتسريح

ستكون هذه المهمة هي الأصعب والأكثر حساسية على الإطلاق. تتطلب خطة واقعية وقابلة للتنفيذ ما يلي:

  1. اتفاق سياسي: التوصل إلى ميثاق سياسي رفيع المستوى بين القيادات المدنية وقيادات القوات المسلحة وقوات الدعم السريع (أو ما يتبقى منها) يرسخ مبدأ الجيش الواحد ويحدد الإطار الزمني والجداول الفنية لعملية الدمج.

  2. نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR): تصميم وتنفيذ برنامج شامل وممول جيداً لنزع سلاح وتسريح وإعادة دمج المقاتلين من جميع الأطراف الذين لن يتم استيعابهم في الجيش الجديد، مع توفير بدائل اقتصادية واجتماعية لهم لمنع عودتهم إلى حمل السلاح.

  3. الفحص والتدقيق والمهنية: تطبيق عملية فحص وتدقيق صارمة لجميع الأفراد الذين سيتم دمجهم في الجيش الجديد، لاستبعاد المتورطين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم الحرب.

  4. الإشراف المدني: إنشاء آليات رقابة مدنية فعالة، تشمل إشرافاً برلمانياً كاملاً على ميزانية الدفاع والسياسة الأمنية، وتعيين وزير دفاع مدني.

الهيئة الأمنية/العسكريةالتفويض الرسميالدور الفعليهيكل القيادة (قبل 2019)القاعدة الاقتصادية
القوات المسلحة السودانية (SAF)الدفاع عن حدود الوطن وسيادته.المؤسسة العسكرية التقليدية، ولكن تم تسييسها وإضعافها بشكل ممنهج.تتبع اسمياً للقائد الأعلى (رئيس الجمهورية)، ولكن لها ولاءات داخلية معقدة.ميزانية الدولة، شركات ومؤسسات اقتصادية تابعة للجيش.
قوات الدعم السريع (RSF) / الجنجويدمساندة القوات النظامية في عملياتها.ميليشيا قبلية استخدمت في حروب الوكالة (دارفور)، وحماية النظام، وقوة ضاربة موازية للجيش.تتبع مباشرة لرئيس الجمهورية، متجاوزة قيادة الجيش.السيطرة على مناجم الذهب، التجارة عبر الحدود، شبكات أعمال خاصة، دعم خارجي.
جهاز الأمن والمخابرات الوطني (NISS)جمع المعلومات وحماية الأمن القومي.أداة القمع الرئيسية للنظام، له قوات عمليات خاصة، ويمارس الاعتقال والتعذيب خارج نطاق القانون.يتبع مباشرة لرئيس الجمهورية.شركات تجارية واسعة في قطاعات متنوعة (اتصالات، استيراد وتصدير).
قوات الدفاع الشعبي (PDF)قوة احتياطية شعبية للدفاع عن “المشروع الحضاري”.ميليشيا عقائدية استخدمت في الحرب الأهلية في الجنوب وجبال النوبة كوقود بشري.تتبع لقيادة منبثقة من الحزب الحاكم والجيش.تمويل من ميزانية الدولة وتبرعات ومنظمات تابعة للحزب.

الفصل الحادي عشر: العدالة لأمة جريحة: إطار للعدالة الانتقالية

تجاوز عدالة المنتصر

لا يمكن تحقيق سلام مستدام في السودان دون معالجة شاملة للجرائم والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت خلال حقبة الإنقاذ والحرب الحالية. يجب أن تتجاوز هذه العملية منطق “عدالة المنتصر” أو الانتقام، وأن ترتكز على مبادئ القانون الدولي وتوافق وطني واسع لضمان عدم الإفلات من العقاب وتحقيق المصالحة الحقيقية.

الركائز الأربع للعدالة الانتقالية

يجب أن يقوم إطار العدالة الانتقالية في السودان على أربع ركائز متكاملة:

  1. الحقيقة: تشكيل “لجنة وطنية للحقيقة والعدالة والمصالحة” ذات مصداقية واستقلالية، تكون مهمتها توثيق الانتهاكات، وتحديد أسبابها الجذرية، وتوفير منبر للضحايا لرواية قصصهم، وكشف الحقيقة للأجيال القادمة.

  2. المساءلة: ضمان المحاسبة الجنائية للمسؤولين عن أخطر الجرائم (الإبادة الجماعية، جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية). قد يتطلب ذلك إنشاء محكمة خاصة أو هجينة بدعم دولي، والتعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية لتسليم المطلوبين لديها.

  3. جبر الضرر: إقرار برنامج وطني لجبر ضرر الضحايا، يشمل التعويضات المادية والمعنوية (مثل الاعتذار الرسمي، بناء النصب التذكارية)، وإعادة تأهيلهم نفسياً واجتماعياً.

  4. ضمانات عدم التكرار: وهذه الركيزة ترتبط بشكل مباشر بالإصلاحات المؤسسية المذكورة في الفصول السابقة، والتي تهدف إلى تفكيك الهياكل التي سمحت بوقوع الانتهاكات في المقام الأول، بما في ذلك إصلاح القضاء والأجهزة الأمنية وتفكيك دولة “التمكين”.

الفصل الثاني عشر: عقد اجتماعي جديد: التجديد الدستوري والقانوني

المبادئ التأسيسية

يكمن الحل الجذري والدائم لأزمات السودان المتراكمة في صياغة عقد اجتماعي جديد، يتجسد في دستور دائم يتم التوافق عليه عبر عملية تأسيسية شاملة وتشاركية. يجب أن يرتكز هذا الدستور على مبادئ أساسية غير قابلة للتفاوض:

  1. المواطنة المتساوية: تأسيس الدولة على مبدأ المواطنة كأساس وحيد للحقوق والواجبات، دون أي تمييز على أساس الدين أو العرق أو النوع أو الانتماء السياسي.

  2. حياد الدولة تجاه الدين: إقرار تسوية دستورية نهائية تؤسس لدولة مدنية تفصل بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة، وتضمن حرية المعتقد للجميع، وتنهي إلى الأبد استخدام الدين كأداة للإقصاء السياسي والهيمنة الثقافية.

  3. اللامركزية والحكم الفيدرالي: تطبيق نظام حكم فيدرالي حقيقي يمنح الأقاليم سلطات وموارد واسعة، ويعالج المظالم التاريخية للتهميش التي كانت المحرك الرئيسي للحروب الأهلية في السودان.

  4. الإصلاح القانوني: إجراء مراجعة شاملة لكافة القوانين المقيدة للحريات التي سُنّت في عهد الإنقاذ، مثل قوانين النظام العام والأمن الوطني، وإلغاؤها أو تعديلها لتتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان والمواثيق التي صادق عليها السودان.

الركيزة 1: الإصلاح المؤسسي (تفكيك التمكين)الركيزة 2: إصلاح القطاع الأمني (SSR)الركيزة 3: العدالة الانتقاليةالركيزة 4: التجديد الدستوري والقانوني
الأهداف: استعادة كفاءة الدولة ومحاربة الفساد.الأهداف: إنهاء تعدد الجيوش وإنشاء جيش وطني واحد.الأهداف: تحقيق المساءلة والمصالحة وجبر ضرر الضحايا.الأهداف: بناء عقد اجتماعي جديد ودولة مواطنة.
الآليات: هيئة مستقلة لاسترداد الأصول.مراجعة التعيينات على أساس الكفاءة.محاكمات عادلة لجرائم الفساد.الآليات: اتفاق سياسي على مبدأ الجيش الواحد.برنامج نزع سلاح وتسريح وإعادة دمج (DDR).إخضاع الجيش للإشراف المدني الكامل.الآليات: لجنة وطنية للحقيقة والمصالحة.محكمة خاصة أو هجينة للجرائم الكبرى.برنامج وطني لجبر الضرر.الآليات: مؤتمر دستوري شامل وتشاركي.إقرار دستور مدني ديمقراطي.مراجعة شاملة وإصلاح المنظومة القانونية.

خاتمة: الهروب من الإرث

يلخص هذا التقرير الحجة القائلة بأن مشروع الإنقاذ، من خلال إعطائه الأولوية للنقاء الأيديولوجي وبقاء النظام على حساب الوحدة الوطنية والسلامة المؤسسية، قد خلق دولة تم تصميمها هيكلياً للصراع. إن اعتماده على جهاز أمني مفتت، ونموذج اقتصادي قائم على النهب، وإقصاء شرائح واسعة من السكان، جعل من الانهيار العنيف مسألة وقت وليس مسألة مبدأ. لقد كانت الكارثة الحالية نتيجة شبه حتمية لمسار تاريخي تم تحديده بقرارات واعية اتخذت على مدى ثلاثين عاماً.

إن الهروب من هذا الإرث المدمر ممكن، ولكنه يتطلب قطيعة كاملة وواعية مع نموذج الإنقاذ بكل تجلياته. خارطة الطريق المقدمة في الجزء الرابع من هذا التقرير ليست قائمة من الخيارات يمكن الانتقاء منها، بل هي مشروع وطني متكامل وطويل الأمد. يتطلب هذا المشروع إرادة سياسية هائلة من الفاعلين السودانيين، ودعماً منسقاً ومستداماً من المجتمع الدولي. البديل عن ذلك هو التفكك النهائي للدولة السودانية، وهي نتيجة كارثية لشعبها وللمنطقة بأسرها. إن مستقبل السودان يعتمد على قدرته على مواجهة هذا الإرث الحتمي وتجاوزه، لبناء دولة جديدة على أنقاض المشروع الذي أوصله إلى حافة الهاوية.

تعليق واحد

  1. مقال كوز يهدف للتسويق للجهل والضلالية من الانتهاذي الترابي الذي لايحمل فكرا وليس له أي اطروحات في الفكر الإنساني ، انسان نرجسي ليس ذكيا ويعتبر نفسه حالة نادرة وفي حقيقة أمره رجلا من العينة التي لايرحمها الله لانه لايعرف قدر نفسه ، الترابي انقلب على نظام دستوري واعدم من فكروا في انقلاب مثله فهو الاحق بالإعدام إذا عقوبة الانقلاب الإعدام ، الترابي قضى على كل مؤسسات الدولة الكفيلة بمحاربة الفساد وقال مخاطب الجهلاء والانتهازيين من زمرته (أكلوا المال العام اكلا عجيبا) الترابي عندما تم طرده من السلتطة لجا الي اكزوبة مشاركة كل القوميات في السلتطة واصتصطم بأهله من مهاجري غرب أفريقيا الذين وردت اسمائهم في احد الكتب المعونة (بالاعلان بالإعلام في سيرة جهلاء السودان من تمبكتو الي ام درمان) او مايطلق عليهم حديثا دولة 56.
    وابلغ دليل على غباء الترابي وعدم معرفته بماهية الدولة الدينية فهو لايعرف أنها دولة حكم فرد قد يتضرر منها حتى الداعون إليها فهي ليست دولة اختيار حر يوول الأمر فيها الانتهازيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..