مقالات وآراء

إِعَادَةُ تَشْكيل قِيَادَةِ الجَيْشِ: نَقْلَةٌ إسْتِرَاتِيجِيَّةٌ أمْ مُنَاوَرَةُ تِكْتِيكِيَّةٌ؟

 

بروفيسور مكي مدني الشبلي

أقدم الفريق أول عبد الفتاح البرهان في منتصف أغسطس 2025 على واحدة من أكثر خطواته إثارة للجدل منذ اندلاع الحرب. فقد أجرى تغييرات واسعة في قيادة الجيش، أحال عدداً من الجنرالات القدامى للتقاعد، ووضع الألوية الإسلامية والميليشيات المتحالفة تحت السيطرة المباشرة للقوات المسلحة.

بالنسبة للبعض، هذه هي اللحظة التي طال انتظارها: مؤشر صريح على أن البرهان قرر أخيراً مواجهة تغلغل الإسلاميين داخل المؤسسة العسكرية. أما آخرون فيرون فيها مجرد خدعة تكتيكية، لا تختلف عن مناوراته السابقة، هدفها الوحيد الحفاظ على كرسيه لأطول فترة ممكنة.

كسر الحاضنة الإسلامية

منذ عقود، كان الإسلاميون بمثابة “المستعمر” الخفي داخل الجيش السوداني. تغلغلوا في عهد البشير، وأقاموا شبكات ولاء ما زالت تتحكم في مفاصل القوات المسلحة حتى بعد ثورة 2019. خطوة البرهان الأخيرة، بوضع الميليشيات الإسلامية تحت سيطرة الجيش، أحدثت شرخاً هو الأوسع حتى الآن بين القيادة العسكرية والإسلاميين الذين راهنوا على أن الحرب ستعيد لهم نفوذهم المفقود. وهذا الشرخ يمنح فرصة نادرة. فهو يضيّق الخناق على الإسلاميين، ويجردهم من أوراق القوة التي طالما استخدموها، ويفتح الباب أمام إصلاح قطاع الأمن وتهيئة بيئة لوقف إطلاق النار.

لكن هذه الفرصة لن تدوم طويلاً. ضغط الخارج لا يقل عن ضغط الداخل لا ينبغي أن نُسرِف أو نُفرِط في التشاؤم: ما فعله البرهان لم يكن بدافع وطني خالص. فقد التقى قبل أسابيع في سويسرا بمستشار الشؤون الإفريقية في الإدارة الأميركية مسعد بُولُس، حيث كان موضوعا وقف إطلاق النار والممرات الإنسانية على رأس الأجندة.

الأميركيون ومعهم الأوروبيون أرسلوا رسالة واضحة: لن نقبل بعودة الإسلاميين للتحكم في الدولة. مصر كذلك لها حساباتها. فهي تفضّل جيشاً مركزياً مستقراً في الخرطوم على ميليشيات متناثرة، حتى وإن ظلت متوجسة من نوايا البرهان.

أما السعودية والإمارات، فترى في تحجيم الإسلاميين شرطاً أساسياً لأي استقرار مقبول. بهذا المعنى، فإن البرهان يحاول أن يقدّم نفسه للعالم في صورة “حصن ضد الفوضى والتطرف”.

المدنيون أمام اختبار تاريخي وهنا تتضح المفارقة:

إن لم يتحرك المدنيون الديمقراطيون بسرعة، فقد يجد البرهان نفسه مضطراً للعودة إلى أحضان الإسلاميين الذين ما زالوا يملكون شبكات التعبئة والمال والعقيدة. الإسلاميون ينتظرون خطأ واحداً أو تردداً وجيزاً ليعودوا لاعباً مركزياً.

وعليه فعلى القوى المدنية أن تختار الآن: إما أن تصمت بدافع الخوف من إضفاء الشرعية على رجل ارتبط اسمه بالانقلابات والقمع، أو أن تُصدر موقفاً علنياً مشروطاً: نرحّب بخطوة إضعاف الإسلاميين، لكن بشرط أن تتبعها إجراءات ملموسة تؤسس لوقف الحرب وإصلاح المؤسسة العسكرية. الإصلاح لا الشعارات ما يحتاجه السودان اليوم ليس تغييرات شكلية بل إصلاحات محددة خلال فترة لا تتجاوز 90 يوماً:، بحيث تتوالى الإصلاحات لتشمل:

• تجريم ومعاقبة النشاط الحزبي داخل الجيش.

• تعيين مفتش عام وهيئة عدلية عسكرية مستقلة بمراقبة أفريقية ودولية.

• إعلان هيكل القوات المساعدة وإطلاق برنامج الدمج والتسريح.

• فتح ممرات إنسانية كإجراء لبناء الثقة. وهذه ليست رفاهية سياسية، بل هي الحد الأدنى ليبرهن البرهان أنه جاد. وعندها فقط يمكن للمدنيين والمجتمع الدولي أن يبادلوه بالاعتراف السياسي والدعم الفني والاقتصادي. أما إذا ماطل، فسيكون لزاماً محاصرته بالضغط المنسق الذي لا قبل له به.

لماذا الصوت المدني حاسم؟

إن صوت المدنيين ليس رمزياً فحسب. بل هو مصدر قوة تفاوضية. فإذا استطاعت القوى الديمقراطية أن تطرح “اتفاق وشيجة بديلة” بالتنسيق مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، والإيقاد، ومع دول عربية أساسية، فإنها ستمنح البرهان قاعدة دعم غير إسلامية، وتؤكد أن الخروج من عباءة الإسلاميين لا يعني العزلة. في الوقت ذاته، سيبقى المدنيون في مركز القرار، يفرضون المحاسبة والرقابة البرلمانية على القوات المسلحة.

إعادة تشكيل قيادة الجيش نافذة ضيقة لن تبقى مفتوحة الوقت ليس في صالح السودانيين:

الحرب تلتهم الأرواح، الأوضاع الإنسانية تسوء، والتحالفات تتغير باستمرار. والإسلاميون يتربصون، وينتظرون لحظة الضعف ليعرضوا خدماتهم مجدداً مقابل استعادة السلطة. لهذا، فإن نجاح إعادة تشكيل قيادة الجيش كخطوة ضرورية نحو إعادة هيكلته لن تُقاس بعدد الجنرالات الذين أُحيلوا للتقاعد أو الذين تمت ترقيتهم، بل بما إذا كانت هذه الخطوة ستفتح الطريق إلى وقف إطلاق النار، وتفكيك الميليشيات الحزبية، وإعادة السودان إلى المسار المدني الديمقراطي.

البرهان لعب ورقته، أيَّاً كان دافعها استراتيجيَّاً أم تكتيكيَّاً. الكرة الآن في ملعب القوى المدنية وحلفائها الدوليين: هل سيغتنمون الفرصة، أم يتركونها تضيع، مرة أخرى، لينتهزها الإسلاميون؟

مداميك

تعليق واحد

  1. من هم المدنيون ومن هو الذي اختارهم ، اما الذين يريدون ان يحكمونا بوضع اليد نقول لهم هيهات اما يحكمونا عن طريق صندوق الانتخابات واما ان يستمر العسكر في السلطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..