مقالات وآراء

السَّبِيبةُ مِنَ العَجِينِ

وجدي كامل

أحبَّ رجلٌ ان يكال له الثناء والمديح منذ صغره، دون وجهِ استخقاق أحيانًا. وأظنّ أنّ ذلك بدأ مع لعب الكرة؛ فهو لم يكن حريفًا بالمعنى الدقيق، لكنّه كان يُصرّ على الإتيان بحركاتٍ بهلوانية، بالكرة أو دونها، أثناء اللعب مما نبه الأذكياء من المشجعين بان يكيلوا له المديح من مواقعهم بالميادين الشعبية بأعلى الأصوات تقربا له ك ” ابن ذوات”.

وفي مرحلةٍ من حياته هجَر الرياضة “بالثلاثة”، فازدادت صحّته بشكلٍ ظاهر، ومن جرّاء ذلك أطلقوا عليه سرا لقب “الجخس”.

غير أنّه تمادى في حبّ الثناء والمديح، حتى صار يطلبه صراحةً من الناس، وبالأخص من أصحاب المصلحة عنده. فمثلًا، كان يمشي في أحد الشوارع مرتديًا ثيابًا فخمةً ومزهُوًّا بنفسه، فيوقفك فجأةً، وبدلًا من أن يتفوّه بعبارته الشهيرة: “يا أخي ما تشكرني”، طوَّر الأمر فأصبح يرمقك طويلًا، تارةً ينظر إليك، وتارةً إلى ثيابه.

وكان ذلك يعني، وبلا شكّ، أنّ عليك أن تُثني على ملابسه، بأسرع ما يكون الثناء. وكما هو معروف، فإنّ الناس يختلفون في موهبة إلقاء المديح، حتى صار البارعون فيه يُعرفون باسم “الشكّارين”. هؤلاء، ومن فرط احترامهم له، لقّبوه بـ”السَّمين الخلط العجين”.

في مرحلة كتلك سحرته فكرة الغناء. اصبح مغنيا متطوعا في الحفلات. غنى بصوته الأجش وإيقاعه المشاتر متطوعا كما لم يفعل احد من قبل بسبب تشجيع أصحاب المصلحة له بالاستمرار، ولكن ورغم ذلك خرج من الغناء بحملة شبابية ضده حملت هتاف: تسقط بس، وكان رده عليهم دايما ب: اصبروا بس. نشبت فجأة الحرب.

وبعد الحرب لم يتطوع صاحبنا ضمن المجندين لاستعادة “كرامة مستلبة”، بل نزح إلى القاهرة ضمن النازحين.

قبل أيّام قليلة رأيتُه في مناسبة فرَحٍ غير بعيدة من منطقة شعبية هنا ضمت أعداد غفيرة من ضحايا الحرب، فلاحظتُ أنّ تضخّمه قد بلغ مبلغًا لم أتوقّعه بعد الحرب، ولم أرَه من قبل.

فهمتُ عندها أنّ نسبةً كبيرة من جمهور مادحيه قد صارت تقيم هنا.

كان جاري من السودان والذي اصبح أيضا جاري هنا، طويلُ اللسان، يعرفه حق المعرفة منذ زمنٍ ما قبل الحرب. كان يجلس بقربي، ويراقب تطوّره وما يُغدَق عليه من ثناء. همس في أذني: “انظر، انظر… هذا فلان قد صار هكذا بسبب طلبه اللامتناهي للمديح، ولا سيّما بعد الحرب.” ولم ينتظر جاري تعليقي، حتى باغت الجميع بصوتٍ مسموع قائلاً: “هذا البَغْلُ من ذاك المديح!” عندها وقع ما لم يتوقّعه أحد؛ فالموصوف، وما إن تناهى الكلامُ إلى مسمعه بصوت الجار المجلجل، حتى نظر إلينا شزرًا، وهو يستدير ببطء، وما هي إلا لحظات حتى “تَفَرْقَع” كما يتفجّر إطارٌ جديدٌ باغته مسمارٌ طارئ في زقاق شعبي ملي بمخلفات الحديد ! أو كأنّ حزامًا ناريًا مربوطا بوسطه وانفجر ، فتفتّت حُزَمًا حُزَمًا، ونُتَفًا نُتَفًا، أصابت كلَّ من حضر. حتى خُيّل للناس أنّ شيئًا له صلةٌ به لم يتبقَّ.

لكن في لحظةٍ مفارقة، وفي غمرة ذلك الانفجار بسبب النقد العلني غير المتوقَّع، انتبه أحدُ أصحاب المصلحة القدامى، فحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه صائحًا: “يا سلام! يا سلام! يا جميل! يا عظيم! يا مدهش!” ويا للعجب، ففي كسْرٍ من الثانية باغت “المتفجر” الجميع إذ استعاد فجأةً تماسكه، كأنّه استدعى كلّ ما طار منه. وابتسم ابتسامة المنتصر، وجلس كعادته يُنصت باهتمامٍ إلى بقية أصحاب المصالح الذين تبعوا الأوّل، يحيطون به ويزيدون في شكره ومديحه، وكأنّ شيئًا لم يحدث. وكأن العالم قد تم تصميمه ليدور لأجل مديحه وحده.

تعليق واحد

  1. انا عرفته يا د.وجدي يا لماح ووصاف…ده مش صاحبنا ي الب…ي من وصفك ليهو عرفته وياريت تعود ايتم الطفولة وده الجنني جنني….هو كان كورس مع المرحوم كيلا وبعد بقي تخين اتشبه بالفنان ترباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..