العقبة العسكرية في مسار السلام السوداني: تشريح أطراف النزاع واقتصاديات الحرب وإستراتيجيات كسر الجمود

زهير عثمان حمد
لا يمثل التعنت الحالي للقوى المناصرة للجيش السوداني مجرد موقف تكتيكي عابر، بل هو تعبير بنيوي عن أزمة الدولة في مرحلة ما بعد الثورة. يشكل هذا التعنت العقبة المحورية التي تحول دون الانتقال من حالة الحرب الأهلية إلى عملية تسوية سياسية مستدامة. ينبع هذا الموقف من تحالف غير مقدس بين مصالح أيديولوجية متمثلة في الإسلاميين، ومصالح اقتصادية ترتبط بقادة المليشيات واقتصاد الحرب، ومصالح مؤسسية يمثلها الجيش كمنظمة ذات امتيازات. إن فهم هذه الديناميات المتشابكة بين الأيديولوجيا والاقتصاد والسياسة هو المفتاح لتطوير إستراتيجية فعالة لكسر الجمود.
الرهان على الحسم العسكري هنا ليس استراتيجية واقعية، بل آلية للبقاء. فالتاريخ كما في أنغولا أو ليبيريا يبين أن الحروب الممتدة نادراً ما تحسم عسكرياً، بل تؤدي إلى تآكل مؤسسات الدولة وتفتح فراغاً تزدهر فيه المليشيات والاقتصادات غير الرسمية، وهو ما يخدم مصالح هذه الفصائل على المدى المتوسط. أما الهاجس الأيديولوجي، فيبرز في رؤية الإسلاميين الذين فقدوا سلطتهم بعد سقوط البشير للمؤسسة العسكرية باعتبارها الملاذ الأخير لاستعادة نفوذهم. التسوية السياسية بالنسبة لهم تهديد وجودي لأنها قد تدمجهم في عملية ديمقراطية لا يضمنون عبرها الفوز، فيفضلون خطاب “المعركة النهائية”.
اقتصاد الحرب يمثل العقدة الأصعب. فقد تطورت شبكات معقدة تسيطر عليها مليشيات وقادة عسكريون يتحكمون في التهريب والمعادن والمساعدات الإنسانية. أي تسوية سياسية تعني تفكيك هذه الشبكات وتجفيف منابع ثروتها، وهو ما يجعل استمرار الحرب بالنسبة لهم نمط إنتاج اقتصادي لا مجرد خيار أيديولوجي.
كلما ظهرت مبادرات إقليمية أو دولية تتصاعد الآلة الدعائية لهذه القوى بخطاب “الكرامة الوطنية” و”رفض الوصاية”. هذا الخطاب يستثمر الذاكرة التاريخية للاستعمار لتبرير استمرار الحرب وحماية المصالح الضيقة للنخبة، رغم أنه عملياً يضع الدولة على حافة الانهيار.
أما القوى المدنية، فلا يمكنها الاعتماد على الضغوط الدولية وحدها أو الخطاب الأخلاقي. المطلوب إستراتيجية متعددة المستويات تقوم على الاحتواء والعزل بدلاً من المواجهة المباشرة، عبر تعزيز تيارات معتدلة داخل المؤسسة العسكرية وعزل المتشددين بالتحالف مع القوى الإقليمية. كما يتعين ربط أي تسوية سياسية بحوافز اقتصادية ملموسة وخطة إعمار كبرى تجعل رفض السلام مكلفاً حتى لأصحاب اقتصاد الحرب. إلى جانب ذلك، يجب بناء شرعية مضادة عبر جبهة مدنية واسعة مدعومة بدبلوماسية إقليمية نشطة وغطاء دولي يفرض تكاليف على المعرقلين. الخطاب المدني بدوره يحتاج إلى أن يكون واقعياً يكشف الكلفة اليومية للحرب من قتلى وانهيار خدمات وغلاء وتفكك اجتماعي، بحيث تصبح معادلة الاستمرار في الحرب عبئاً لا يحتمل.
إن تعنت القوى المناصرة للجيش ليس قدراً محتوماً بل هو مرحلة انتقالية تعكس خوفاً وجودياً ومصالح مادية. كسر هذا الجمود يتطلب خلق معادلة جديدة تجعل كلفة استمرار الحرب باهظة وفوائد التسوية مغرية وملموسة. ليس الهدف إقناع المتعنتين، بل جعل موقفهم غير ذي جدوى عبر تحالفات قوية وعروض واقعية. عندها فقط يمكن أن يبدأ السودان السير في طريق تسوية حقيقية تعيد بناء الدولة وتؤسس لسلام مستدام.