مقالات وآراء

السودان ونهاية النظام العالمي

وصلت الحرب الجارية في السودان منذ اندلاعها المفاجئ في الخامس عشر من أبريل 2023 إلى ما يمكن وصفه بالحرب المنسية، والكارثة الإنسانية الأشد فتكا منذ الحرب العالمية الثانية. وهي حرب تكاملت فيها كل العناصر، ما يجعل بشاعتها وثمنها الإنساني الباهظ تحديا دوليا، وفشلا ذريعا لنظم العالم ومنظماته، والأهم ضميره الإنساني. ومن بين كوارث عالمية يشهدها العالم، تظل الكارثة السودانية على مستوى الاستجابة العالمية، الأقل حظاً وبطبيعة الحال الأكثر تدهورا إنسانيا وعسكريا، أوجدت وضعا لم يعد محتملا من مجاعة وأمراض فتاكة، ونزوح مستمر، وكل ما تجره الحروب عادة من ويلات يتحملها الضحايا من المدنيين. ونتائج الصراع، الإنسانية تشهد على فشل العالم ومؤسساته في إيجاد حل.
وبينما تعجز الأطراف الداخلية المتقاتلة، عن تحقيق ما يوقف الحرب، تتسع دائرة الحرب ويمتد تأثيرها الداخلي والإقليمي، تصاعدا مع أزمات متجددة على الصعيد الدولي والدبلوماسي، دون أن تسهم في وضع حد لنهاية النزاع، بل زادت شدة الحرب بالتدخلات العسكرية المباشرة، ولأن قيادات الحرب المعلنة والمستترة بين الجيش والدعم السريع، ترهنان قرار الحرب اعتمادا على جهات ودول داعمة لاستمرارها، أكثر من حاجة وطنية ملحة لوقفها. وفي خضم هذا التوجه العسكري الحاد في مجريات الأمور غاب الحوار، وتراجعت الآمال في تحقيق حد أدنى يسمح بالتفاوض، كوسيلة تقود إلى سلام تحتاجه البلاد أكثر من التشديد على الجانب العسكري.
ولكن ما الذي تعنيه حرب السودان في الخريطة الدولية للنظام العالمي، بما يمثله من توازن هدفه النهائي السلم والحفاظ على أرواح المدنيين؟ كتبت الصحافية والمؤرخة الأمريكية آن ابلباوم مؤخرا في مجلة «أتلانتك» الأمريكية عن حرب السودان باعتبارها «الكارثة الأكثر عبثية على الأرض» ونهاية النظام العالمي الليبرالي، الذي كما تقول مكانه قاعات المؤتمرات والمحاضرات الأكاديمية وأن النظام العالمي قد انتهى في السودان، وليس هناك ما يحل محله. والنظام الذي انتهى تعبير عن فشل النظم الدولية من مؤسسات ومنظمات معينة، كما تنص مواثيقها على الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وتنفيذ مهام المساعدات الإنسانية لمن هم في حاجة إليها.

من بين كوارث عالمية يشهدها العالم، تظل الكارثة السودانية على مستوى الاستجابة العالمية، الأقل حظاً وبطبيعة الحال الأكثر تدهورا إنسانيا وعسكريا

ولأن الحرب طال أمدها بين طرفين خضعت توجهاتهما السياسية إلى تنازع دولي، بين أطراف تسهم بشكل فعال في رسم خريطة الصراع، فقدت الأزمة السودانية أي توجه داخلي وطني نحو السلام، على خطط تستهدف وقف الحرب أولا. فما شهدته العلاقات السودانية مع عدة دول، خاصة دولة الإمارات التي تتهمها حكومة الأمر الواقع، بدعم قوات الدعم السريع، من توتر وصل إلى وقف الطيران بين البلدين، وقطع للعلاقات الاقتصادية في أكثر من نشاط. فقد اتسعت دائرة الأزمة الدبلوماسية على أكثر من صعيد، وشكلت تداخلا بين أجندات عدة يدخل فيها النظام العالمي بشكله القديم، دون إنجاز يذكر على صعيد الأزمة. ومع تصاعد الأزمة وتحول طبيعة الحرب الجغرافية والعسكرية، وجد واقع سياسي جديد يحمل نذر التقسيم على أساس الحكومات الموازية. وقد أعلن «تحالف تأسيس» الذي يضم طيفا من مكونات سياسية عن تشكيل مجلس رئاسي مقر حكومته مدينة نيالا والمناطق خارج سيطرة الحكومة في بورتسودان. وتفرض هذه الواجهة السياسية الجديدة، واقعا لم يشهده السودان طوال تاريخ حروبه الانقسامية، التي بدأت منذ استقلاله عام 1956، تحديات أيا تكن قدرة تنفيذها أو مواجهتها عسكريا. والنظام بشقيه الإقليمي والدولي، رفض الاعتراف بالحكومة الموازية، كما في بيان مجلس الأمن والسلم الافريقي التابع للاتحاد الافريقي، أو مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، ولما كانت القرارات الدولية لا تجد استجابة إلا في حدود مناورات الطرفين، واستخدامها ذريعة في تفسير موقف كل طرف من الاعتراف الدولي، فالموقف الدولي (النظام الدولي) فشل عبر قنواته التقليدية في تقييم مدى خطورة ومستوى التدهور، الذي وصلت إليه الأزمة السودانية، وظلت أزمة عالقة تنتظر الاستجابة الدولية، سواء عن طريق تفعيل نصوصه الخاصة بالسلم، وإلزام الأطراف المتقاتلة بالجلوس إلى مائدة التفاوض، أو التدخل المباشر، كما في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ومع هذا الفشل تدخل أطراف لها وزنها بمعايير النظام الدولي نفسه عبر قنوات سرية، كما حدث في لقاء الجنرال البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش والمبعوث الأمريكي مسعد بولس مؤخرا في سويسرا، ما اثار لغطا كثيفا في الساحة السياسية السودانية في الداخل. فبقدر ما تقترب الأزمة السودانية من الوصول إلى خريطة طريق للحل يزداد المتقاتلون تصميما على تنفيذ مهامهم العسكرية، إلا أن وقائع السياسة التي تدار من خلف الأبواب المغلقة تناقض تماما الخطابات المعلنة.
وقد خلقت الحرب كل ما يستوجب التدخل الدولي مسنودا بنظامه العالمي، بدءاً من المساعدات الإغاثية، إلى المحاكم الجنائية في الانتهاكات المرتبكة بحق المدنيين من قبل الطرفين. ومع أن التعويل في تنفيذ هذه المهام من جانب المنظمات الدولية مشكوك فيه، فإن على الدول التي تمثل النظام العالمي، أن تعيد تعريف «النظام العالمي» الذي عفا على أكثر تصوراته الاستراتيجية واستجابته لتحديات القرن الحادي والعشرين. وعليه لم تعد العوامل التي شكلت ملامح النظام العالمي فاعلة في الحفاظ على التوازن، من أسلحة نووية وصعود قوى اقتصادية خارج النطاق التقليدي للنظام العالمي، ومصالح جيوسياسية تتجاوز حدود خريطة العالم ومبادئه في العدالة، وشرعية مؤسساته التي تعتمد على المانحين الأساسيين، ما يعني حرفياً دول المنظومة الغربية الولايات المتحدة وأوروبا واليابان في الأموال والقوات والمساعدات الفنية، وغيرها من عوامل تضمن وجودها. ثم إن مجلس الأمن الذراع القانوني المفوض في الحق في استخدام القوة، التي تخولها له المادة 51، وعادة ما تخضع قراراته الى اعتراضات الدول المتحكمة بالنظام العالمي التي لها حق الفيتو. إذن فالمأزق الذي يواجه النظام العالمي الحالي أمام تحد لم تعد تجدي معه تصورات النظم التي أسست لخريطته الاستراتيجية في الماضي.
والواقع أن ما يحيط بالأزمة السودانية (المنسية) وسط صراع النفوذ على مستوى دول يتفاوت حجم تأثيرها على فضاء النظام العالمي، يجعل منها أزمة ذات معيار دولي، دون أن يلتفت إلى ما تحدثه من كوارث على الصعيد الإنساني، بالتركيز على أهداف القتال وما تعيد صياغته من واقع جيوبولتيكي يحقق مطامح دول بعينها في المنطقة أو خارجها، يؤكد ليس عجز ما يسمى بالنظام العالمي التقليدي، بل تحولا لافتا في المنظومة الدولية التي شكل السودان أحد أهم محاور ضعفها، ففي حال فشل النظام الدولي، هل يكون التدخل من أطراف دولية تمثل القوة المهيمنة عالميا، حلا لأعقد أزمات القرن العشرين، حيث ما زالت أطراف القتال تسخر مما هو متاح من موارد في مواصلة القتال خدمة لأجندة لا تخصها؟ فإذا ظل تعنت الطرفين وعدم الرضوخ إلى حقائق الواقع أكثر من تصورات أهداف الحرب فستكون النتيجة دمارا شاملا على ما تبقى، ودون تدخل دولي يعنى بالأزمة وطنا وشعبا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..