مقالات وآراء

مشروع الجزيرة – التطوّرات والتحدّيات خلال المئويةِ الأولى (3 – 3)

 

د. سلمان محمد أحمد سلمان

خاتمة

تناول المقالان السابقان في هذا السلسلة من المقالات، والتي تمّ إعدادها في الذكرى المئوية الأولى للمشروع، الخلفية والدراسات التي قادت إلى قيام المشروع، والتطوّرات التي أدّت إلى النجاح الكبير الذي تميّز به لفترةٍ من الزمن. وقد ناقش المقالان التحدّيات الجسام التي واجهت المشروع – خاصةً قضايا المياه والأراضي وعلاقات الإنتاج – والكيفية التي تم بها معالجة هذه القضايا. كما ناقش المقالان التطورات المتلاحقة التي مرّ بها المشروع، والتي قادت عام 2005 إلى قرار منح الزراع حرية اختيار المحاصيل التي يودّون زراعتها، وانهاء الغرض الأساسي الذي تم من أجله إنشاء المشروع كمزرعة قطنٍ عالميةٍ كبرى قبل ثمانين عاماً من صدور القانون، والجدل الكبير الذي أثاره وما يزال يثيره ذلك القرار.

سوف يوجز هذا المقال الختامي المراحلَ الأربعة التي مرّ بها المشروع خلال مئويته الأولى، وسمات كل مرحلة من التطوّرات والمتغيّرات والتحدّيات. وسوف يناقش المقال في خاتمته القضايا الأساسية التي تحتاج إلى المواجهة والعلاج لكي يصبح المشروعُ سلّةَ غذاءِ السودان، بعد أن تمّ إنهاء دوره كواحدٍ من أكبرِ وأنجحِ مزارعِ القطنِ في العالم.

أولاً: مرحلة نشأة المشروع وتطوّره – 1925– 1950:

تمّ خلال هذه المرحلة وضع القواعد الأساسية التي تنظّم العمل بالمشروع وتقنّن علاقات الإنتاج به. وهذه العلاقات تميّزت، فيما تميّزت به، بالخلط بين نظامٍ رأسماليٍ وآخر اشتراكيٍ. برز النظام الرأسمالي في تركيبة شركة السودان الزراعية وطريقة إدارتها للمشروع. فالشركة شركةٌ مساهمةٌ مسجلةٌ في الأسواق المالية في لندن، ولها مئات المساهمين من مؤسساتٍ وأفراد يملكون فيها أسهماً ويتوقعون عائداً وفيراً منها كل عام. لذا كان همُّ الشركة الأساسي تحقيقَ أكبر قدرٍ من الأرباح إرضاءً لهؤلاء المساهمين. وقد كان هذا هو السبب الأساسي الذي جعل الشركة تُحمّل الزراع تكلفة الإنتاج بدلاّ من تحملها بواسطة الشركاء الثلاثة – الحكومة والشركة والزراع ــ، وتبذل قصارى جهدها في تقليل تكلفة الإنتاج وتعزيز أرباحها.

من الناحية الأخرى كان نظام العلاقات بين الزراع أنفسهم نظاماّ اشتراكياّ تكافلياً يتحمّل فيه الزراع كمجموعةٍ تكلفة زراعة القطن وتوزّع الأرباح عليهم بعد خصم التكلفة الإجمالية، وليس الفردية، لزراعته. ولكن تحت هذا النظام استوى المزارع الدؤوب الجاد بنظيره الذى لا يملك نفس المقومات. إذن فقد كان إطار علاقات الإنتاج إطاراً رأسمالياً وكان المضمون اشتراكياً تكافلياً.

تميزت العلاقة أيضاّ ببعدٍ انضباطىٍ سلطوىٍ أشبه ما يكون بالنظام العسكري. فالأوامر تصدر من موظفي الشركة للزراع في كل صغيرة وكبيرة تخصّ زراعة القطن بدءاً بإعداد الأرض، واستلام التقاوى والسماد، ومتى تتم الزراعة ومتى تتم إزالة الحشائش، وكذلك أوقات الرّى والرش واستعمال السماد والمبيدات، ومتى يتم جنى القطن وتسليمه للشركة واستلام الأرباح، بعد خصم التكلفة. وليس هنالك إشراكٌ للزراع في تفاصيل أيةٍ من هذه العمليات، وليس لديهم بديلٌ غير إطاعة هذه الأوامر. ولتأكيد هذا النمط السلطوى فقد أعطت اتفاقية الإجارة بين الشركة والمستأجر الحق للشركة في القيام بأىٍ من هذه الأعمال إذا فشل أىٌ من الزراع في القيام بها وتحميله التكلفة المالية كاملةّ، وقد انعكست ممارسة ذلك الحق في تطبيق ما عُرِف بين المزارعين بنظام “الطُلبة”.

بعد أعوامٍ قليلة من إدخال هذا النظام السلطوي لزراعة القطن بالمشروع بدأت بعض الثقوب تظهر فيه – ماذا يحدث اذا كان العائد للزراع ضعيفاً أو لم يكن هناك عائد بسبب قلة الإنتاج أو ضعف الأسعار؟ جاءت الإجابة في تليين ذلك النظام قليلاً بإعطاء الزراع حق زراعة الذرة واللوبية في مساحةٍ صغيرة أخرى، ويكون الناتج كلّه حقاً للزراع، ولكن بدون تمويلٍ أو إشرافٍ من الشركة. فهذان المحصولان قُصِد منهما امتصاص عدم رضاء الزراع وأيضاً تحسين التربة. وقد قامت الشركة أيضاً في أواخر الأربعينيات بإنشاء صندوق الاحتياطي لمساعدة الزراع في السنوات العجاف. غير هذا فقد ظل النظام السلطوي لعلاقات الإنتاج كما هو طوال هذه الفترة. امتد هذا النظام السلطوي إلى إدارة الأراضى أيضاّ. فملاك الأراضى الذين أُعطوا أراضيهم أو جزءاً منها كحواشات اُعطيت لهم هذه الأراضى تحت عقد إجارة نزع منهم كل حقوق الملكية، وأصبح هؤلاء الملاك أجراء لأرضهم تحدّد لهم الشركة ما يجب أن يفعلوه في أرضٍ هى ملكهم. وقد كان الغرض وراء هذا الإجراء الغريب وضع أراضي المشروع كلها من الناحية القانونية والعملية تحت إدارة وسيطرة الشركة وتجريد الملاك من أي حقوقٍ تتصل بملكيتهم لهذه الأراضى. فالأجرة التى يتقاضاها هؤلاء الملاك أسقطت حقوقهم في الأرض وفرضت عليهم إطاعة أوامر الجهة التى تدفع لهم الأجرة.

ترسّخ هذا النظام السلطوي خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي وأصبح نظام العمل المعروف والمألوف بالمشروع حتى بعد أن انتهى عقد الشراكة وآلت إدارة المشروع لمجلس الإدارة السوداني. وكما ذكرنا فقد لعب العمل النقابي دوراً كبيراً في مشروع الجزيرة نتج عنه زيادة نسبة أرباح المزارعين، ولكنه لم يُحدِث تغييراً ذا شأن في علاقات الإنتاج.

ثانياً: مرحلة التوسّع في المشروع – 1950- 1975:

انتهى عقد الإدارة بين شركة السودان الزراعية وحكومة العهد الثنائي عام 1950 وانتقلت الإدارة في ذلك العام إلى مجلس إدارة مشروع الجزيرة. وقد صدر في ذلك العام قانون مشروع الجزيرة لعام 1950 والذى كان أول قانون ينظم العمل بصورة متكاملة في المشروع. تُسمّى بعض الكتب والتقارير هذه النقلة بإنها “تأميم للمشروع”، وهذه التسمية ليست سليمة لأن الأراضي والخزان والقنوات بالمشروع لم تكن ملكاً للشركة حتى تُؤمم، بل كانت وظلّت ملكاً للحكومة، تديرها الشركة بمقتضى عقد إدارة انتهى ذاك العام ولم يتم تجديده. نتج عن هذا التغيير زيادة نسبة أرباح المزارعين والحكومة بعد أن تم تقليل نسبة مجلس إدارة المشروع. وزادت نسبة المزارعين مرّةً ثانية بعد ثورة أكتوبر، ولكن هذه المرة كانت الزيادة خصماً على حساب نصيب الحكومة. عدا هذا فقد استمرت علاقات الإنتاج على ما كانت عليه إبان فترة إدارة الشركة للمشروع.

كانت مساحة المشروع قد وصلت إلى حوالي مليون فدان عام 1950، وكانت الدراسات الخاصة بامتداد المناقل قد قاربت الاكتمال. وفي عام 1954 بدأت المفاوضات مع مصر بغرض السماح للسودان ببناء خزان الروصيرص لري امتداد المناقل. وتمّ الاتفاق بين السودان ومصر على بناء خزان الروصيرص والسد العالي، وعلى حصة كلٍ منهما من مياه النيل (18,5 مليار متر مكعب للسودان و55,5 مليار متر مكعب لمصر) بموجب اتفاقية مياه النيل لعام 1959، والتي تم التوقيع عليها بعد عامٍ من وصول الفريق عبود إلى السلطة.

مع اكتمال خزان الروصيرص والتوسع في امتداد المناقل وصلت مساحة المشروع إلى مليوني فدان وتوسعت البنية التحتية من قنوات رىٍّ وطرقٍ ومبانى، وارتفع عدد موظفي المشروع بصورةٍ كبيرة. وصدر قانون مشروع الجزيرة لعام 1960 لينظّم هذا التوسع. وبذاك التوسع أصبح مشروع الجزيرة من أكبر المشاريع المروية في العالم تحت إدارة واحدة.

وكما ذكرنا من قبل فالمشروع ليس أكبر مشروعٍ في العالم كما يعتقد الكثيرون. فهناك عدة مشاريع في العالم أكبر منه مساحةً.

ثالثاً: مرحلة التدهور والبحث عن حلول – 1975– 2005: بدأت مشاكل المشروع في البروز إلى السطح مع هذا التوسع الكبير في مشروع الجزيرة في منتصف سبعينيات القرن الماضي. فقد بدأت البنية التحتية التى تمّ إنشاؤها قبل أكثر من أربعين عاماّ في التآكل والتدهور بسبب ضعف الصيانة والتشغيل، وبدأت أسعار القطن العالمية في التدنّي، وارتفعت تكلفة الإنتاج بصورة حادة بسبب ارتفاع أسعار الوقود. وزاد الوضع سوءاً بسبب التقلب في السياسات الاقتصادية والزراعية في السودان في السبعينيات.

برزت أيضاً في هذه الفترة مشكلة الأراضي الملك الحر. فقد انتهى عقد الإيجار عام 1967 وطالب بعض الملاك بإعادة أراضيهم إليهم بينما طالب آخرون برفع قيمة الإيجار ليواكب الغلاء وتدهور الجنيه السودانى، وفي بداية السبعينيات توقّف الملاك عن استلام الإيجار حيث أنه لم تعد له قيمة، كما ناقشنا من قبل. وبرزت المشاكل بين الملاك والزراع وثار الجدل الحاد حول الأحقية للأرض بين الملاك وورثتهم من جهة، وبين والمسـتاجرين وورثتهم منذ قيام المشروع عام 2025. امتدّ التدهور ليشمل خزاني سنار والروصيرص. فبسبب كميات الطمي التى يأتى بها النيل الأزرق من الهضبة الإثيوبية فقَدَ خزان سنار جزءاً كبيراً من إمكانياته التخزينية، وبدأت هذه المشاكل نفسها تعترى خزان الروصيرص وقنوات الّرى بالمشروع، ولم تعد مياه الرّى تصل بعض الحواشات بسبب تراكم الطمي والأعشاب في هذه القنوات. تكونت في هذه الفترة عُدة لجان، الواحدة بعد الأخرى، لدراسة هذه المشاكل ومحاولة إيجاد الحلول لها. وقد كان من أهم التوصيات توصية إلغاء نظام الحساب الجماعي واستبداله بالحساب الفردي والتى طُبّقت عام 1981.

أثار ذلك التغيير جدلاً حاداً في أوساط المزارعين والمهتمين بأمر المشروع، بين مؤيدٍ يرى في ذلك التغيير أملاً في حلحلة مشاكل المشروع، ومعارضٍ يرى فيه طعنةً لنظام التكافل الاجتماعى الذى ساد المشروع لأكثر من نصف قرن من الزمان. وعلى الرغم من أن البنك الدولي والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ومانحين آخرين قد مولوا إعادة تأهيل المشروع بمبلغ فاق المائتي مليون دولار، إلّا أن هذا الجهد لم يكن كافياً لأنْ يعيد للمشروع فاعليته بسب عدم مصاحبة إعادة التأهيل بالإصلاح المؤسسي.

ولم يغيّر صدور قانون مشروع الجزيرة لعام 1984 شيئا في أمر هذا التدهور على الرغم من زيادة تمثيل المزارعين في مجلس الإدارة. رابعاً: مرحلة ما بعد قانون 2005 وتعديلاته وآثاره ومستقبل المشروع: اتسمت تقارير اللجان المختلفة التى كُوّنت للنظر في أمر مشروع الجزيرة بالاختلافات في مرتكزاتها وتحليلاتها لمشاكل المشروع، وعليه فقد اختلفت وتضاربت توصياتها. غير أن عدداً من هذه اللجان اتفقت على ضرورة إعادة النظر في مسألة الشراكة، وأيضا على دور الزراع في علاقات الإنتاج، خصوصا مسالة التركيبة المحصولية. في هذا الأثناء كانت مشاكل زراعة القطن آخذةً في الازدياد وأسعاره العالمية آخذةً في التدهور. عليه لم يكن أمراً مستغرباً بالنسبة للذين تابعوا تطورات ومتغيرات المشروع أن يقوم قانون 2005 بإدخال وتقنين مبدأ حرية اختيار المحاصيل.

هذا التغيير الجذري لم ينه فقط الارتباط التاريخي بين المشروع ومحصول القطن وإنما أنهى أيضاً ما تبقى من محاور علاقات الإنتاج وقلّص بصورةٍ كبيرة دور مجلس إدارة مشروع الجزيرة، خصوصاً فيما يختص بتمويل القطن والإشراف على زراعته. ونتيجةً لهذا برزت مسألة التمويل بصورةٍ حادة، وبرزت معها أيضاً مسألتا التسويق والضرائب والجبايات العالية المفروضة على المزارع. ولكن كبرى المشاكل ما تزال هي إعادة تأهيل قنوات الرّي بالمشروع، ومسألة التكلفة وكيفية تمويلها.

نختتم هذه المقال من حيث بدأناه. فكما ذكرنا من قبل، فإن قنوات الري هي شريان المشروع. وقد أشار قانون 2005 إلى أن تسليم قنوات الحقل لروابط مستخدمي المياه يتم بعد تأهيل هذه القنوات، وهذا اعتراف واضح من القانون (والمسؤولين) بالوضع غير الفعال لهذه القنوات. كما تجب الإشارة إلى أن المشروع يستهلك سنويا حوالي 8 مليار متر مكعب من المياه من حصة السودان البالغة 18,5 مليار بموجب اتفاقية مياه النيل لعام 1959م (أى أن المشروع يستهلك حوالي 40% من حصة السودان). ولكنّ الاستخدام غير المرشّد وغير الكفء لهذه الكمية الكبيرة من المياه بسبب تدهور القنوات ومشاكل إدارة المياه سيظل عقبةً كبرى ليس فقط للمشروع وإنما للسودان نفسه في نقاشه ومفاوضاته مع الدول المشاطئة الأخرى لنهر النيل. وكما هو معروف فإن هذه الدول بدأت تطالب بحقوقها في مياه النيل، خصوصاً بعد دخول اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل حيز النفاذ في أكتوبر عام 2024. يقودنا هذا إلى دور روابط مستخدمي المياه في مشروع الجزيرة. وقد أشرنا إلى الدور الفعّال الذى تقوم به هذه الروابط في دولٍ كثيرة من العالم في إدارة مياه الرّى. ففي بعض هذه الدول تدير اتحادات روابط مستخدمي المياه القنوات الكبرى والرئيسية (وليس القنوات الصغرى فقط)، ونتجت عن هذا وفوراتٌ كبيرة في المياه وفي تكلفة الصيانة والتشغيل. ولابدّ من التأكيد أن هذه الروابط ليست سوى جمعياتٍ تعاونية ينتخبها أعضاؤها بطريقة ديمقراطية ويحاسبونها وفق اللوائح المنظمة للرابطة. ولابد كذلك من الإشارة إلى أن إدارة قنوات الرى بواسطة هذه الروابط تحكمها اتفاقية مع إدارة المشروع، وأن هذه الروابط ملزمةٌ بتطبيق بنود الاتفاقية.

ولكن روابط مستخدمي المياه بمشروع الجزيرة ظلت تفتقر إلى التدريب والخبرة، بالإضافة إلى افتقادها الاستقلالية الإدارية والمالية، ومطلوبٌ منها إدارة وصيانة قنواتٍ تحتاج إلى تأهيلٍ كاملٍ. عليه فإن تعديلات عام 2014 الخاصة بهذه المسألة تحتاج إلى إعادة نظر.

توصياتٌ ختامية:

إنّ العالم يواجه اليوم أزمة غذاء حادة تتمثل في الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الغذائية الأساسية بسب قلة العرض وزيادة الطلب. وقد تأثرت حتى الآن الكثير من الدول، خصوصا الأفريقية، بهذه الأزمة، ويهدد نقص الغذاء أكثر من مائة مليون نسمة في هذه الدول. وقد بدأت البلدان المختلفة تتعامل مع هذه الأزمة بشتى السبل، مُركِّزةً على مسألة إدارة المياه. فقد قررت الصين، بسبب الجفاف والنمو السكاني وازدياد الطلب على المواد الغذائية بازدياد الطبقة الوسطى، اتخاذ كل الإجراءات المطلوبة لرفع معدّل إنتاجية الفدان الواحد من طنٍ واحد للقمح لتصل الآن إلى قرابة الطن ونصف الطن من القمح للفدان، بينما اتخذت الكثير من الدول مثل الهند والمكسيك والفلبين قرارات متعددة لترشيد استهلاك المياه في مجال الرّي. وتسارعت وتيرة الإصلاح المؤسسي لقطاعي الزراعة والرّي في عددٍ كبيرٍ من دول العالم. وبسبب شح المياه في كثير من هذه الدول فقد تركّزت الجهود على تحسين أداء الأراضي المعمّرة أصلاً بدلاً من استصلاح أراضي جديدة تحتاج إلى استثماراتٍ ضخمةٍ ومياه جديدة قد لا تكون متوفرةً أصلاً.

من جانبنا فإن مشروع الجزيرة بتجربته التاريخية الطويلة والثريّة والتي امتدت حتى الآن إلى مائة عام، ومساحته الواسعة، وإمكانياته المتاحة الهائلة يستطيع ببعض الجهد والإرادة السياسية أن يوفّر للسودان الجزء الأكبر من احتياجاته الغذائية، وأن يوفّر لولاية الجزيرة احتياجاتها الكاملة من الذرة، بعد أن تم إنهاء دوره كمزرعة قطنٍ عالمية. ولكنّ هذا الحلم لن يتحققَ إلّا باتّباع السياسات السليمة فيما يتعلق بإدارة المياه بعد تأهيل قنوات الرّي تأهيلا كاملاً (خصوصاً بعد الدمار شبه الكامل لهذه القنوات بسبب حرب أبريل عام 2023)، لأن قضية الرّي هي عنق الزجاجة في الوقت الحاضر في مشروع الجزيرة. ولا بدّ بالضرورة أيضاً من معالجة مشاكل الضرائب والجبايات العالية (المركزية والولائية والمحلية، بالإضافة إلى الضرائب غير المباشرة على مدخلات الإنتاج)، ومشاكل التسويق المُتمثِّلة في الوسطاء من بنوك وشركاء وأفراد، وكذلك مشاكل التمويل التي نتجت عن احتكار التمويل بواسطة جهات معينة والتصرّف فيه كما تشاء.

كذلك لا بدّ من توضيح ما تبقى من علاقات الإنتاج بين المزارعين وإدارة مشروع الجزيرة إثر تطبيق قرار حرية اختيار المحاصيل منذ عام 2005.

ولا بد من حلًّ نهائيٍ وعادلٍ لقضية أراضي الملك الحر التي تعقدّت بمرور الزمن وبكثرة تقارير اللجان وصدور قانون عام 2005 وتعديلاته لعام 2014، ومع الجدل الذي يزداد صخباً كل يوم بين المستأجرين والملاك حول “هل الأرض لمن يفلحها أم لمن يملكها؟” كما أنه لا يمكن مواصلة تغافل وغضّ النظر عن مشكلة الكنابي التي برزت إلى السطح بصورةٍ أكثر حِدّة بعد اندلاع حرب أبريل 2023، والتي جعلت من الضروري التصدّي لها بشجاعة وعلاجها بصورةٍ عاجلة ومنصفة.

بعد مواجهة وحلِّ هذه المشاكل سيجد المزارع ما يكفي من الحوافز لكى يضع جلّ طاقته في الإنتاج، غير مُتخوّفٍ من مشكلة العطش وسلاح الضرائب والجبايات، والنزاع مع ملاك الأرض والعمال الموسميين، ويساهم مساهمةً فعّالةً في حلحلة مسألة الأمن الغذائي في السودان.

وبلا شك فقد أصبحت مشكلة الأمن الغذائي هاجسَ كل الشعب السوداني، خصوصاً بعد أن فقد السودان حوالي 75% من عائدات النفط بعد انفصال جنوب السودان، ومع الوضع الأمني والغذائي المقلق الذي تسبّبت وتتسبّب فيه حرب أبريل 2023.

مداميك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..