قميص (ليفربول).. حين تتحوّل الطفولة إلى وقود حرب..!!

خالد ابواحمد
لا زلنا في السودان نتجرع الألم مع وقع المآسي، وقد صار الموت جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية، كل يوم يرحل أبرياء جُدد إلى قوائم الفقد، وكأن الوطن تحوّل إلى مقبرة مفتوحة لأبنائه، وما جرى في كردفان مؤخرًا لم يكن مجرد معركة عابرة، بل مأساة تكشف الانهيار الأخلاقي الذي زرعته (الحركة الإسلامية) السودانية فقد دفعت بأطفال وشباب صغار إلى خطوط النار، وهم بلا خبرة عسكرية ولا تدريب على القتال، فسقطوا سريعًا في أتون المحرقة، كانوا في عمر الأحلام، بالكاد تذوقوا معنى الحياة، زجت بهم الشعارات الجوفاء في حرب لا يعرفون أسبابها، ولم يختاروا خوضها، تقبّلهم الله في جنات النعيم فهم ضحايا لا كيزان، وصبّر ذويهم، وجعل البركة في كل الشعب السوداني.
هذا ما كنت أخشاه وأعنيه عندما أكتب عن فساد (الإنقاذ) و (الحركة الإسلامية) وأفضح بُعدهم عن الدين والأخلاق، كثيرون لاموني بحجة أن الناس تجاوزوا هذه المرحلة، وأن البلاد الآن في حرب ضروس، وكأننا بحاجة إلى أنهار من الدم حتى نجرؤ على مواجهة الحقيقة، في الغالب لا أرد على مثل هذه المغالطات التي أعرف مراميها، فمنذ سنوات ذكرت أن ما أجتهد في نشره وترسيخه على أرض الواقع هو أمانة في عنقي، أسعى بكل ما أملك من قوة بأن أؤدي واجبي تجاهه، وذلك بتوسيع دائرة المعرفة بين الأجيال الجديدة حول هذا الفكر الهدام الذي دمّر بلادنا.
اليوم نحن في قمة الحُزن على الأطفال الذين امتلت صورهم مواقع التواصل الاجتماعي وقد أُجبروا على الذهاب إلى المحارق، إن صورهم تمثل حالة كافية لتكسر قلوب السودانيين جميعًا في الداخل والخارج، فهي لم تكن مجرد صور عابرة، بل صفعة على وجه الضمير الإنساني، وجرحا مفتوحا يذكّرنا بأن أبناء هذا الشعب يُقدَّمون وقودًا لمعارك لا تخصهم، بينما أبناء القادة في مأمن رطب وبعيد.
لطالما كتبتُ وحذّرت وقلت إن مشروع (الحركة الإسلامية) يستغل الدين ليحوّل أبناء الفقراء إلى وقود لحروبه، إن ما جرى في كردفان قبل يومين يثبت أن الصمت مشاركة في هذه الجريمة النكراء.
من بين الصور التي انتشرت، برزت صورة الطفل الذي كان يرتدي قميص (نادي ليفربول الأحمر) الانجليزي، ملقى على الأرض والدماء تنزف من تحت رأسه، صورة مؤلمة تختصر مأساةً لا توصف بالكلمات. ذلك الطفل الذي كان من المفترض أن يجري خلف الكرة ويعيش طفولته كبقية أطفال بلادي، قُتل في معركة لا تعنيه، تحوّل إلى رمز لانهيار المنظومة التي كان من واجبها أن تحميه.
في هذا الموقف يتجلى التناقض الصارخ بين الحياة والموت، بين اللعب والقتال، بين البراءة ونزف الدماء، فقميص ليفربول الذي يُفترض أن يرمز إلى الحلم والانتماء الرياضي، تحوّل فضيحة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، يفضح كيف تُستغل الطفولة في صراعات الكبار المتقاتلين على كرسي السلطة دونما مراعاة لأبسط حقوق الانسان ومن أولولايتها “حقوق الطفل”، تلك الصورة لم توثق لحظة فقط، بل طرحت عدد من الأسئلة على شاكلة.. كيف وصلنا إلى هذا الحد؟ كيف أصبح الأطفال وقودا لحروب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل..!.
إن (الحركة الإسلامية) لم تكن يوما مشروعا وطنيا. كانت وما زالت مشروعا سلطويا، يستهلك الضعفاء، ويزيّف صورة البطولة، ويقدّم الموت على أنه بطولة ومجد بينما قادة الحركة يبنون لأنفسهم شبكات مصالح تحميهم من كل خسارة، ما كنا لنحزن لو أن أبناء وقيادات الحركة هم من خاضوا هذه المعارك، لكنهم يا العار يتكدسون مع أسرهم في تركيا وبعض العواصم العربية، حيث أبناؤهم يتعلمون في الجامعات التركية والأوروبية.
إن الدفع بالأطفال والمغرّر بهم إلى ساحات الموت يمثل جرحا غائرا في قلب الوطن، يصرخ في وجوهنا جميعا: إما أن نكتب ونكشف الحقيقة، أو نصمت فنكون شركاء في قتل أطفالنا الأبرياء.