هوية منسوجة: تحليل تاريخي وإثنوغرافي للثوب والجلابية في السودان

مقدمة: خيوط أمة
إن الثوب السوداني والجلابية ليسا مجرد ملابس تقليدية، بل هما قطعتان أثريتان ثقافيتان معقدتان، نُسجت خيوطهما من تقاليد أصيلة عريقة، وتجارة عابرة للمناطق، وتحولات دينية، ونضالات سياسية حديثة. يسعى هذا التقرير إلى تفكيك تاريخهما للكشف عن كيفية تحولهما إلى رمزين قويين لهوية سودانية فريدة، تجسد الجذور التاريخية العميقة للأمة في وادي النيل ومكانتها كملتقى ثقافي بين أفريقيا والعالم العربي. سنستكشف كيف تعمل هذه الملابس بمثابة “لغة بصرية” ، تنقل المكانة الاجتماعية، والانتماء الإقليمي، والفخر الثقافي.
الجزء الأول: الثوب السوداني – رداء هوية المرأة
يتتبع هذا الجزء رحلة الثوب، مؤكداً أن أصوله متجذرة بعمق في أرض وادي النيل الأفريقية، وتسبق التأثيرات الخارجية، وأن تطوره اللاحق هو شهادة على الدور الديناميكي للمرأة السودانية في تشكيل الثقافة الوطنية.
أصداء قديمة: الأصول ما قبل الإسلام في وادي النيل
إن الشكل الأساسي للثوب – وهو قطعة قماش طويلة مستطيلة ملفوفة – ليس طرازاً مستورداً، بل هو نمط أصيل له سلالة تمتد لآلاف السنين إلى الحضارات العظيمة في السودان القديم. تشير الأدلة الأثرية والأيقونية من مملكتي كوش ومروي، بالإضافة إلى حضارة كرمة الأقدم، باستمرار إلى تصوير النساء في ملابس ملفوفة تغطي كامل الجسم. توحي هذه الجداريات والآثار بوجود تقليد قديم راسخ للملابس الملفوفة في المنطقة قبل الإسلام، مما يشكل المفهوم التأسيسي للثوب.
يدعم هذا الرأي التقديم الذي قُدم لليونسكو لإدراج الثوب كعنصر من عناصر التراث الثقافي غير المادي، والذي يربط أصوله صراحة بحضارة بجراوية، التي يعود تاريخها إلى أكثر من 10,000 عام. وفي حين أن هذا التاريخ قد يكون رمزياً، فإنه يؤكد على الإيمان الثقافي العميق بقِدم هذا الزي وأصالته. هذا الارتباط هو مصدر فخر وطني هائل، حيث تربط العديد من النساء السودانيات الثوب بالملكات النوبيات القويات، “الكنداكات”. هذا الربط التاريخي يمنح الثوب إرثاً من القوة والسيادة النسائية.
إن هذا الربط المتكرر للثوب بحضارات كوش ومروي ليس مجرد حقيقة تاريخية، بل هو سردية ثقافية قوية. فمن خلال تتبع سلالة الثوب إلى الكنداكات، لا تؤطر الثقافة السودانية هذا الزي كرمز للحشمة فرضته التأثيرات الإسلامية أو العربية اللاحقة، بل كشعار للقوة والملكية النسائية الأفريقية الأصيلة. هذه السردية تتصدى مباشرة للمحاولات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية لتعريف الهوية السودانية من خلال العدسات العربية أو الإسلامية فقط. إنها تؤكد على وجود أساس ثقافي أفريقي متميز وموجود مسبقاً. لذلك، فإن “فرضية كوش” هي أكثر من مجرد نظرية أثرية؛ إنها حجر الزاوية في المعنى الحديث للثوب، حيث تمنحه تراثاً أصيلاً، غير مستورد، وأمومياً، وهو أمر حاسم لدوره كرمز للهوية الوطنية.
نول التغيير: التقديم والتجارة والانتشار
على الرغم من أن شكله قديم، إلا أن الثوب كزي يُرتدى على نطاق واسع هو ظاهرة أحدث، حيث كان انتشاره مدفوعاً بشبكات التجارة المتطورة، والديناميكيات الاجتماعية الجديدة، والتحول التدريجي من كونه رمزاً لمكانة النخبة إلى زي وطني. تم تقديم الثوب لأول مرة في القرن الثامن عشر، لكنه لم يكتسب شعبية واسعة إلا في القرن العشرين. تاريخياً، كان الثوب زياً للنخبة، باهظ الثمن وغالباً ما كان مستورداً.
لعب توسع طرق التجارة، خاصة الشبكات عبر الصحراء والساحل، دوراً حاسماً. سهلت هذه الطرق انتشار ملابس ملفوفة مماثلة في جميع أنحاء غرب أفريقيا (مثل “الملحفة” في موريتانيا) وأدخلت منسوجات جديدة إلى السودان. كان “درب الأربعين” شرياناً رئيسياً لهذا التبادل، حيث كانت المنسوجات من أكثر السلع المطلوبة التي يتم استيرادها إلى السودان من مصر وخارجها.
كانت الأثواب السودانية الأولى مصنوعة من القطن المنتج محلياً، وتحمل أسماء مثل “الكنجا” و”الزراق” و”الطرقة” و”الفردة”. شكّل إدخال الأقمشة المستوردة مثل “الكريب” الأسود من مصر تحولاً نحو المواد الفاخرة للأثرياء. شهد القرن العشرون دمقرطة للثوب. أصبحت الإصدارات الأرخص متاحة، وتوسع استخدامه من كونه مقتصراً على النساء المتزوجات ليشمل الفتيات غير المتزوجات في طريقهن إلى المدرسة.
إن القوى الاقتصادية للتجارة لم تجلب السلع فحسب؛ بل أحدثت تغييراً اجتماعياً. ففي البداية، كان الوصول إلى الثوب مقيداً بالتكلفة والتوافر، مما جعله علامة على النخبة. أدى تكثيف طرق التجارة إلى كسر احتكار النخبة لهذا الزي من خلال توفير منسوجات أرخص. تزامن هذا التوافر الأوسع مع تحول اجتماعي كبير آخر: صعود تعليم المرأة ومهنيتها. تبنت هذه الطبقة الجديدة من النساء الثوب، مما أدى إلى تحول معناه. لم يعد الأمر يتعلق بالثروة فقط، بل بالحداثة والتعليم والحضور العام. وهكذا، عملت القوة الاقتصادية للتجارة كمحفز مباشر لتحول اجتماعي ورمزي عميق، محولةً رمزاً حصرياً للمكانة إلى “زي وطني” شامل مكّن المرأة من دخول المجال العام.
الجدول 1: التطور الزمني للثوب السوداني
نسيج المجتمع: الأهمية الثقافية واللغة الاجتماعية
يعمل الثوب كنظام معقد للتواصل غير اللفظي، حيث ينقل الحالة الاجتماعية للمرأة، وحالتها الزوجية، والمناسبة، وحتى موقفها السياسي من خلال اختيار القماش واللون وطريقة اللف.
دورة الحياة والطقوس: الثوب جزء لا يتجزأ من جميع أحداث الحياة الكبرى. فالثوب الأحمر المزين بشكل متقن ضروري لمراسم الزفاف “الجرتق”. وتُرتدى الأثواب ذات اللون الأبيض المائل للصفرة أو المصنوعة من القطن السادة في مراسم الحداد. كما أن إهداء الأثواب ممارسة ثقافية رئيسية في الخطوبات وحفلات الزفاف. ويمثل ارتداؤه انتقال الفتاة الصغيرة إلى مرحلة الأنوثة.
الهوية الاجتماعية والمهنية: أصبح الثوب الأبيض السادة زياً رسمياً لأوائل النساء المهنيات – المعلمات والممرضات والقابلات – مما يرمز إلى التعليم والتقدم والمسؤولية المدنية. يمكن للطريقة التي تلف بها المرأة ثوبها أن تشير إلى منطقتها أو وضعها الاجتماعي أو حتى مزاجها.
أداة للنشاط السياسي: للثوب الأبيض تاريخ غني كرمز للاحتجاج السياسي. سارت النساء بالأثواب البيضاء في مظاهرة عام 1953 القومية، متحديات العزلة الاجتماعية. تم إحياء هذا الإرث بقوة خلال ثورة 2018-2019، وأشهر من فعل ذلك هي آلاء صلاح، التي استحضرت بثوبها الأبيض وأقراطها الذهبية صور الكنداكات والناشطات من القرن العشرين. بارتداء الثوب، يؤكد النشطاء على الأصالة الثقافية، مجادلين بأن ثورتهم ليست فرضاً خارجياً بل حركة داخلية سودانية عميقة.
يكشف الثوب عن مفارقة عميقة: فالزي الذي يهدف إلى الإخفاء أصبح مفتاح الظهور العام. في الأساس، الثوب هو لباس للحشمة، مصمم لتغطية الجسم وفقاً للقيم الثقافية والدينية. ومع ذلك، أصبحت هذه السمة بالذات مصدر قوته. “طياته الفضفاضة لبت معايير الحشمة في الماضي والحاضر”، وهذا بدوره “سمح للنساء والفتيات بالذهاب إلى المدرسة والعمل، وفي النهاية دخول الساحة السياسية”. لقد وفر الثوب “جواز سفر” مقبولاً ثقافياً للمرأة للانتقال من المجال الخاص إلى المجال العام. لقد تلاعبت الناشطات ببراعة بهذه الازدواجية. وكما لوحظ في كتاب “الخرطوم بالليل”، استخدمت النساء “ثنيات وطيات ورسائل الثوب الاجتماعية” للتفاوض بمهارة بين متطلبات الحداثة والأصالة المتنافسة. إن صورة آلاء صلاح وهي تعدل ثوبها الذي انزلق برشاقة بينما تهتف “ثورة!” هي تجسيد حديث مثالي لهذا – فهي تحافظ على اللياقة وتؤدي عملاً جذرياً في آن واحد. لذلك، فإن الثوب ليس مجرد رمز؛ بل هو أداة استراتيجية مكنت المرأة السودانية من إحداث تغيير اجتماعي وسياسي من داخل إطارها الثقافي الخاص.
خزانة ملابس عالمية: المواد والتحديث والسوق العالمي
الثوب الحديث هو زي معولم، حيث تُصنع أرقى أشكاله من منسوجات فاخرة مستوردة دولياً. هذا الارتباط العالمي، إلى جانب إبداع المصممين المحليين وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، يضمن استمراريته وتطوره.
الفخامة المستوردة: بينما يتمتع إنتاج القطن المحلي بتاريخ عميق ، تهيمن على سوق الثوب المعاصر الأقمشة المستوردة عالية الجودة. يُعد الفوال القطني السويسري (الذي يُطلق عليه غالباً “توتال” أو “تيتال”) الخيار الأفضل لجودته الهشة وقابليته للتهوية. تشمل الواردات الشائعة الأخرى الشيفون الحريري الفرنسي والكوري مع خيوط اللوريكس المعدنية، والحرير الهندي، والأقمشة من دبي وأبو ظبي والصين.
الأثر الاقتصادي: يمثل استيراد هذه المنسوجات، خاصة من سويسرا والهند، نشاطاً اقتصادياً مهماً. وقد نشأ نظام بيئي مزدهر من التجار والمصممين والمطرزين (“النقش”) والبائعات (“الدلاليات”) حول تجارة الثوب، مما أدى إلى تمكين العديد من النساء اقتصادياً.
التعديلات والتصميم الحديث: يعيد المصممون المعاصرون تفسير الثوب بقصات وأنماط وزخارف جديدة لجذب الأجيال الشابة. تُخلط الآن زخارف التطريز الهندسية التقليدية (“الشاي”، “الأملج”) مع الزهور الكبيرة والخط العربي والأنماط التجريدية. يركز مصممون مثل “خزانة آمنة” (Amna’s Wardrobe) على التصاميم المصنوعة يدوياً، المحتشمة والعصرية في آن واحد.
وسائل التواصل الاجتماعي والمغتربون: أصبحت منصات التواصل الاجتماعي مثل Pinterest و YouTube قنوات رئيسية لعرض أنماط الثوب الجديدة، والتأثير على الاتجاهات، وربط المغتربين السودانيين بتراثهم الثقافي. يلعب المغتربون دوراً حاسماً في الحفاظ على هذه التقاليد في الخارج، حيث يحتفلون بحفلات الزفاف والمناسبات الثقافية بالزي التقليدي.
يكشف الثوب الحديث عن مفارقة اقتصادية وثقافية رائعة: فالرمز الوطني الجوهري يعتمد مادياً على شبكات التجارة العالمية والتصنيع الأجنبي. يُقدم الثوب كرمز نهائي للهوية الوطنية السودانية، ومع ذلك، فإن الأثواب الأكثر شهرة ورغبة مصنوعة من أقمشة مستوردة من سويسرا وفرنسا وكوريا والهند. يعكس هذا الوضع الاقتصادي الأوسع للسودان – أمة غنية بالتراث الثقافي والمواد الخام (مثل القطن تاريخياً) ولكنها تعتمد على السلع النهائية المستوردة لأثمن تعبيراتها الثقافية. إن تسمية أنماط الثوب على اسم بلد المنشأ (“سويسري”، “إيطالي”، “ألماني”، “هندي”) تعترف صراحة بهذا الارتباط العالمي، وتدمجه في هوية الثوب بدلاً من إخفائه. لذلك، فإن الثوب الحديث ليس مجرد عنصر ثقافي بل هو مؤشر اقتصادي، يجسد العلاقة المعقدة بين الهوية المحلية والاعتماد المتبادل العالمي الذي يحدد السودان المعاصر.
الجزء الثاني: الجلابية السودانية – رداء كرامة الرجل
يوضح هذا الجزء أن الجلابية، مثل الثوب، لها جذور قديمة وأصيلة في وادي النيل. ثم يتتبع تطورها إلى زي سوداني متميز، شكلته قوى الإسلام وسلطة الدولة وتطور زي وطني متكامل.
نهر مشترك: أصول وادي النيل القديمة والفروقات
الجلابية ليست مستوردة من شبه الجزيرة العربية، بل هي جزء من تقليد مشترك في وادي النيل للملابس الفضفاضة، مع وجود أسلاف واضحين في كل من مصر القديمة والنوبة. ومع ذلك، تطورت النسخة السودانية بخصائص فريدة تميزها عن جيرانها.
الأصول القديمة: تشير الأدلة الأثرية إلى أن الملابس الطويلة الفضفاضة على طراز السترة كانت شائعة في كل من مصر القديمة (مثل فستان тархан، حوالي 3200 قبل الميلاد) والنوبة القديمة (فترات كرمة ومروي). تُظهر الرسوم التي تصور النوبيين في المقابر المصرية أنهم كانوا يرتدون سترات، مما يشير إلى أن هذا كان سمة ثقافية مشتركة في وادي النيل قبل وقت طويل من وصول الإسلام.
التمييز عن الثوب العربي: تختلف الجلابية السودانية اختلافاً جوهرياً عن الثوب العربي. تتميز الجلابية بقصتها الأوسع، وأكمامها الأطول والأوسع، وعادة ما تكون بدون ياقة أو أزرار. أما الثوب فهو بشكل عام أكثر تفصيلاً. هذا التمييز حاسم لفهم جذور الجلابية الأصيلة مقابل تقليد مستورد.
مقارنة مع الجلابية المصرية: على الرغم من ارتباطهما الوثيق، إلا أن هناك اختلافات. الجلابية السودانية بيضاء تقليدياً وجزء من طقم أكبر، بينما تأتي الجلابية المصرية بألوان وأنماط أكثر وغالباً ما ترتبط بالمزارعين الريفيين (الفلاحين). غالباً ما تكون النسخة السودانية متعددة الطبقات، مع قطعة تحتية (قفطان) وأحياناً سترة (صديري).
تثبت الأدلة وجود لباس مشترك قديم في وادي النيل لكل من الجلابية المصرية والجلابية السودانية. على مر آلاف السنين، وعلى الرغم من الجغرافيا المشتركة والتفاعل المستمر، تطورت هذه الملابس في مسارات متميزة. أصبحت الجلابية المصرية مرتبطة بقوة بالهوية الزراعية للفلاحين، حيث يفضل سكان المدن والسواحل أحياناً الدشداشة العربية لتمييز أنفسهم. في المقابل، تطورت الجلابية السودانية من زي نخبوي إلى الزي الوطني، رمز للكرامة والانتماء لجميع سكان (شمال) السودان، وليس فقط لطبقة معينة. يعكس هذا التباين في المعنى الرمزي لزيين مرتبطين المسارات التاريخية المختلفة لمصر والسودان. فبينما خضع كلاهما للتعريب والأسلمة، طور السودان هوية وطنية فريدة أصبح فيها هذا الرداء النيلي رمزاً موحداً، بينما أصبح في مصر علامة طبقية/إقليمية.
الجدول 2: تحليل مقارن لأرواب الرجال الإقليمية
تيارات التأثير: الإسلام والسلطة والأنماط الإقليمية
تشكلت شعبية الجلابية ومعناها الرمزي بعمق من خلال التحولات السياسية والدينية في السودان من سلطنة الفونج إلى الدولة المهدية، مما أرسى مكانتها كزي للسلطة والهوية.
سلطنة الفونج (حوالي 1504–1821): خلال هذه الفترة، كانت الملابس المخيطة مثل الجلابية والعمامة زياً للنخبة. فُرضت قوانين صارمة على الملبس، ومُنع عامة الناس من ارتدائها، حيث كان شبه العري هو القاعدة للسكان عموماً. هذا أرسى مكانة الجلابية كعلامة واضحة للطبقة الحاكمة.
الحكم التركي المصري (1821-1885): من المرجح أن هذه الحقبة لعبت دوراً رئيسياً في كسر الفروق الطبقية في اللباس التي كانت سائدة في عهد الفونج ونشر استخدام الجلابية على نطاق أوسع، إلى جانب التأثيرات الثقافية الأخرى.
الدولة المهدية (1885–1898): شهدت هذه الفترة إنشاء زي جديد قوي: “الجبة”. أصدر المهدي، محمد أحمد، مرسوماً بأن يرتدي أتباعه (الأنصار) سترة مرقعة على غرار “المُرَقَّعَة” الصوفية.
الرمزية: ترمز الجبة إلى الزهد، ونبذ متاع الدنيا، والتفاني في الجهاد. تطورت الرقع، التي كانت في البداية رمزاً للفقر، لتصبح نظاماً منظماً يشير إلى الرتبة العسكرية والفرقة، مما وحد القبائل المتنوعة في جيش متماسك.
الجانب العملي: تم تصميم نوع معين من الجلابية، “جناح أم جاكو”، ليتم ارتداؤها من كلا الجانبين، وهو ابتكار عملي للجنود الذين يحتاجون إلى ارتداء ملابسهم بسرعة للمعركة.
التأميم في القرن العشرين: في أوائل القرن العشرين، أصبحت الجلابية مرتبطة بالطبقة المتعلمة والطلاب، مما عزز مكانتها كجزء من الهوية الوطنية الحديثة.
واجه المهدي تحدي توحيد القبائل السودانية المتباينة والمتنافسة في كثير من الأحيان ضد عدو مشترك. كانت الملابس التقليدية غالباً ما تعزز الهويات القبلية والإقليمية. كان المهدي بحاجة إلى محو هذه الفروق البصرية لتشكيل هوية “مهدية” جديدة وموحدة. حقق ذلك من خلال فرض زي موحد واحد: الجبة. هذا الفعل من الهندسة الملبسية جرد أتباعه من الولاءات القديمة ووحدهم بصرياً تحت راية دينية وسياسية جديدة مشتركة. ثم أعاد ببراعة توظيف عناصر تصميم الزي. تحولت الرقع الصوفية، التي كانت في يوم من الأيام رموزاً للتقوى الفردية، إلى نظام شارات عسكرية موحد يدل على الرتبة. يوضح هذا فهماً متطوراً للثقافة المادية كأداة سياسية. لم تكن الجبة مجرد زي رسمي؛ بل كانت آلية للهندسة الاجتماعية، مصممة لإذابة القبلية وبناء هوية دولة مركزية من القماش نفسه. إنها مثال رئيسي على كيف يمكن للملابس أن تكون فعالة في تشكيل أنظمة سياسية واجتماعية جديدة.
الزي الكامل: الجلابية ورفاقها
الزي الوطني السوداني ليس مجرد الجلابية وحدها، بل هو طقم كامل ذو أهمية ثقافية يتألف من الرداء، والعمامة، والحذاء الجلدي التقليدي “المركوب”. كل عنصر له تاريخه ورمزيته الغنية.
العمامة:
الرمزية: العمامة هي رمز للكرامة والمكانة والتقوى. في بعض التفسيرات الصوفية، يُنظر إلى القماش الأبيض الطويل على أنه كفن الرجل الخاص، يرمز إلى استعداده للموت وازدرائه للحياة الدنيوية. خلال العصر المهدي، كان المقاتلون يرتدون العمامة البيضاء معتقدين أنها ستكون كفنهم إذا سقطوا في المعركة.
الاختلاف الإقليمي والاجتماعي: يمكن أن يشير أسلوب لف العمامة إلى الانتماء القبلي، أو الجماعة الدينية (مثل عمامة الأنصار المميزة)، أو المكانة الاجتماعية. تاريخياً، كانت العمائم الأكبر والأكثر تفصيلاً تدل على الثروة والمكانة العالية.
المركوب (الحذاء الجلدي):
الحرفية: المركوب هو حذاء جلدي سوداني مصنوع يدوياً بشكل مميز، مع أنماط شهيرة تنشأ من مدن مثل الفاشر والجنينة في الغرب.
المواد: يُصنع من جلود حيوانات مختلفة، بما في ذلك جلد البقر وجلد الغنم، وللأثرياء، جلد الثعبان أو التمساح. عملية الدباغة والخياطة هي فن تقليدي.
الأهمية التاريخية: كان مقاتلو المهدية يرتدون “مركوب الجزيرة أبا” الأحمر الفاتح، والذي صُمم ليُلبس في أي من القدمين، وهو اعتبار عملي للمعركة.
الزي الكامل: معاً، تشكل الجلابية، والعمامة، والصديري (السترة)، والمركوب الزي الوطني الرسمي للرجال السودانيين، وهو تعبير قوي وكامل عن الهوية الثقافية.
خاتمة: النسيج الخالد
يجمع هذا القسم الأخير بين التاريخين المتميزين والمترابطين للثوب والجلابية. ويخلص إلى أن هذه الملابس ليست آثاراً ثابتة بل تقاليد حية توضح بقوة السرد التاريخي للسودان. يروي الثوب قصة القوة النسائية الأصيلة، التي تم تكييفها لاحقاً لتصبح أداة للحشمة، والمشاركة العامة، والتعبير الثوري. وتروي الجلابية قصة تراث مشترك في وادي النيل، حولته سلطة الدولة والحماسة الدينية إلى رمز للكرامة الوطنية للرجل. يكشف كلا الزيين عن عبقرية السودان في التوليف الثقافي – استيعاب التأثيرات من جميع أنحاء أفريقيا والعالم العربي، ولكنه ينسجها في نسيج سوداني لا لبس فيه، صامد، وفخور. ويضمن تطورهما المستمر على أيدي المصممين المعاصرين والمغتربين العالميين أن تستمر خيوط الهوية هذه في النسج في مستقبل الأمة.