مقالات وآراء

الجيش فوق السياسة ام فوق الوطن!؟؟

قراءة في حوار الحوري

علاء خيراوي

في حوار مطوّل على شاشة الجزيرة مباشر، جلس العقيد المتقاعد إبراهيم الحوري، رئيس تحرير صحيفة القوات المسلحة السابق، أمام الإعلامي القدير احمد طه الذي حاول أن يفتح أمام ضيفه أبواب النقاش الهادئ، فإذا به يعيد على مسامع الناس الأسطوانة القديمة ذاتها، تلك التي شبع منها الشعب السوداني حتى الثمالة؛ أسطوانة التقاليد العسكرية والقوانين الراسخة والجيش فوق السياسة.

بدا الحوري وكأنه ما يزال أسير الوهم بأن الكلمات قادرة على طمس الوقائع، وبأن الإنكار يمكن أن يمحو دماء سالت في شوارع الخرطوم ونيالا والفاشر، وأن الخطاب المكرر يعيد للمؤسسة العسكرية هيبتها بعد أن تكسرت على صخرة الحرب.

لقد حاول أن يصوّر إحالته للمعاش باعتبارها خطوة طبيعية في مسار الجيش، لكنه تجاهل أن الرأي العام بات يعرف جيداً أن هذه الإحالات جزء من صراع داخلي على النفوذ بين البرهان وجنرالات الحركة الإسلامية، وأن التغييرات في هيئة القيادة ليست بريئة من الحسابات السياسية، بل هي امتداد لمعركة النفوذ التي فجرت البلاد إلى حرب لا تبقي ولا تذر.

كان الإعلامي القدير يصغي للعقيد المتقاعد إبراهيم الحوري بمهارة، تاركًا له مساحة ليسترسل في سردياته المكرورة حتى كشف عن خواء منطقه بنفسه.

كل جملة نطق بها بدت كأنها محاولة بائسة لتبييض صفحةٍ سوداء، وكل نفيٍ أطلقه ارتدّ عليه كإدانة صريحة.

فالحقيقة التي يعرفها الشارع السوداني، ويعيشها كل يوم، أن المؤسسة العسكرية لم تعد حارسة للوطن، بل شريكة في تمزيقه، وأن خطاب المهنية والاستقلال لا يساوي شيئًا أمام صور الأطفال الذين قضوا تحت القصف، والنساء اللواتي نزحن بالآلاف هربًا من الموت. لقد أراد الحوري أن يطل بوجه رجل الدولة، فإذا به يطل كظلٍّ باهتٍ لماضٍ لفظه الشعب، ولم يعد يصلح إلا دليلاً على أن الأكاذيب، مهما تجمّلت، لا تستطيع أن تغطي جراح وطن ينزف.

لم يكن ظهور العقيد المتقاعد إبراهيم الحوري على شاشة الجزيرة مباشر مجرد مقابلة إعلامية عابرة، بل كان صدىً لصوتٍ قديم يحاول أن يعلو فوق أنين الضحايا وصرخات المدنيين الذين حصدتهم الحرب.

كيف يمكن لإنسانٍ أن يتحدث عن التقاليد العسكرية والقوانين الراسخة بينما دماء الأبرياء ما زالت طرية على أرصفة الخرطوم، والجثث لم تُوارَ بعد في مقابر نيالا والفاشر؟ لقد جاء الحوري متدثرًا بخطابٍ خشبي، ظانًا أن الكلمات قادرة على محو الجرائم، وأن الشعارات قادرة على إخفاء المقابر الجماعية التي صنعتها الحرب التي كان الجيش طرفًا أصيلًا فيها.

وحين انتقل الحديث إلى أسباب الحرب، لم يجد الرجل سوى شماعة المليشيات المتمردة والتأثيرات الخارجية، ليلقي عليها كامل الوزر، وكأن الجيش لم يكن جزءاً من المشهد منذ لحظة اندلاع الشرارة الأولى.

وعندما تحدث عن الدور الخارجي الداعم لمليشيا الدعم السريع حسب قوله، أنكر الحوري أي دور خارجي في تغذية الحرب داعما للجيش، مع أن الخرطوم صارت منذ سنوات ملعباً مفتوحاً للتدخلات الإقليمية والدولية، تسليحاً وتمويلاً وتحالفات متقلبة، يعرفها القاصي والداني.

إن محاولة التنصل من هذه الحقائق لا تصمد أمام أبسط قراءة للوقائع، فالمعارك التي طالت المدنيين في أم درمان والخرطوم بحري لم تُخض بسلاح محلي الصنع ولا بقرار سوداني خالص، وإنما بتشابكات دولية يعلمها حتى الجنود في المتاريس.

أما حين عاد الحوري إلى تاريخه الصحفي، مدافعاً عن دوره كرئيس لتحرير الصحيفة العسكرية، فإن دفاعه لم يكن سوى اعتراف صريح بأن تلك الصحيفة لم تكن سوى منبر دعائي يخدم السلطة لا الحقيقة.

لقد تحدث عن حماية القوات المسلحة من المعلومات المضللة، في حين أن الصحيفة كانت أداة لإخفاء الحقائق وقمع الأصوات المعارضة، وترويج الخطاب الذي يبرر القصف على المدن ويصوّر الكارثة باعتبارها معركة شرف أو حماية للوطن. إن ما اعتبره إنجازاً لا يراه الشعب السوداني إلا صفحة أخرى في سجل البروباغندا التي مارستها سلطة الإنقاذ وأتباعها في الجيش.

المفارقة أن الإعلامي القدير في الجزيرة مباشر، بحنكته المعروفة، ترك الحوري ينساب في الحديث حتى كشف عن خواء منطقه بنفسه، إذ لم يقدم تفسيراً واحداً مقنعاً لانهيار صورة الجيش في نظر المواطنين، ولم يجب عن سؤال جوهري، إذا كان الجيش فعلاً مؤسسة مهنية محايدة، فلماذا اندلعت الحرب الأهلية من بين صفوفه؟ لماذا صارت الخرطوم ميدان قتال بين قوات عسكرية متنازعة على السلطة بدل أن تكون محروسة بجيش واحد؟ ولماذا ظل الضباط الإسلاميون يسيطرون على القرار العسكري حتى لحظة سقوط البشير، بل وبعده أيضاً؟ أسئلة كهذه لا يستطيع خطاب الإنكار أن يجيب عنها، ولا تنفع معها شعارات الوطنية الفارغة.

لقد أراد الحوري من المقابلة أن يودع الناس بصورة القائد العسكري والإعلامي الملتزم، لكنه خرج بصورة المتحدث باسم الماضي، الماضي الذي أسقطته دماء آلاف السودانيين في معارك عبثية، والماضي الذي لم يعد يقنع أحداً بأن الجيش هو المؤسسة الطاهرة التي لم تتلوث بالسياسة.

إن المشاهد السوداني خرج من اللقاء بانطباع أوضح، أنّ ما يقوله الحوري ليس سوى محاولة لتلميع تاريخ شخصي وجماعي غارق في الأخطاء، وأن التبريرات التي يرددها لا تختلف كثيراً عن خطابات الطغاة حين ينكرون أن الفساد والتسلط هو سبب خراب بلدانهم.

وهكذا، فإن حوار الجزيرة مباشر لم يكن مجرد مساحة لإبراز وجهة نظر، بل كان مرآة عكست بجلاء مدى انقطاع الحوري ورهطه عن واقع الشارع السوداني.

فالناس اليوم لا يصدقون حديث “الاستقلالية” ولا يبلعون رواية “التقاليد العسكرية”، لأن ما يرونه بأعينهم هو الخراب الذي صنعته هذه المؤسسة، وما يسمعونه كل يوم هو صرخات ضحاياها. وما بين ذاكرة الحرب التي لن تُمحى، وذاكرة الأكاذيب التي يحاول الحوري وأمثاله إعادة تدويرها، يظل الشعب السوداني هو الشاهد والضحية في آن واحد، شاهداً على جيش اختار أن يكون طرفاً في الصراع على السلطة لا حارساً للوطن، وضحية لخطاب رسمي لا يعرف سوى التبرير.

إن حديث العقيد المتقاعد إبراهيم الحوري لم يكن سوى مرآةٍ لانفصام عميق بين خطاب السلطة وحقيقة الشارع. لقد أطلّ على الناس محاولاً أن يبرر، وأن يغطي، وأن يُعيد إنتاج رواية سقطت مع أول رصاصة في حرب الخامس عشر من أبريل.

لكن ما فات عليه أن ذاكرة الشعوب لا تُمحى بالإنكار، ولا تُلغى بالتكرار، وأن كل كلمة تقال لتجميل صورة الجيش، ترتدّ كإدانة مضاعفة حين تُقارن بدموع الأمهات وصور الخراب في المدن. فالشعب السوداني الذي جرّب الويلات، من مذابح دارفور إلى مجازر الخرطوم، لن يقبل بعد اليوم أن يسمع عن مؤسسة فوق السياسة، وهو يرى بأم عينه كيف تحوّل الجيش إلى أداةٍ في يد جماعة بعينها، ووقودٍ مستمر لصراعات السلطة.

لقد أراد الحوري أن يودّع حياته العسكرية بذكرى مشرقة، لكنه ترك بصمةً مغايرة، صورة الضابط الذي عاش أسير خطابٍ بائد، وخرج إلى الإعلام ليذكّر الناس بما ثاروا عليه، لا بما يحلمون به. أراد أن يتحدث عن المهنية، فإذا به يعيد إنتاج دعاية الإنقاذ. أراد أن يتحدث عن الوطنية، فإذا به ينكر جرائم الحرب التي ترتكبها طائرات ومدافع تحمل شعار الجيش. أراد أن ينفي السياسة عن التقاعد، فإذا به يؤكد أن الجيش اصبح ساحة لتصفية الحسابات بين الجنرالات والإسلاميين.

وهكذا، فإن المقابلة التي أُريد لها أن تكون محطة توديع، تحوّلت إلى وثيقة إدانة. فلقد أبرزت بوضوح أن الحوري وأمثاله من الضباط المؤدلجين يعيشون خارج سياق الزمن، وأن محاولاتهم للتمسّك برواية الماضي لا تزيد الناس إلا يقينًا بأن المؤسسة التي يتحدثون باسمها لم تعد تمثل الوطن.

اليوم، حين يُسأل السودانيون عن الجيش، لا يتحدثون عن الحياد والانضباط، بل عن النزوح والجوع والدمار. وحين يُذكر اسم الحوري وأمثاله، لا يتذكرون التقاليد العسكرية، بل الصحف الدعائية التي كانت تكتب تحت ظلال الرصاص.

إن أخطر ما في حديث الحوري أنه يحاول أن يطمس الحقيقة تحت ركام الكلمات، لكن الحقيقة أشد رسوخًا من أن تُطمس. الحقيقة أن الخراب صنعته أيديهم، وأن الحرب التي يبررونها لم تحمِ الوطن، بل مزقته، وأن دماء الأبرياء ستظل شاهدةً على فشل خطابهم وسقوط دعايتهم. والحق أن التاريخ، مهما طال الليل، لا يحفظ سوى شهادة الشعوب، وهذه الشهادة واضحة, الجيش الذي تبجّح بالحماية هو ذاته الذي أسلم العاصمة للدمار، والقادة الذين زعموا الطهرانية هم أنفسهم الذين باعوا البلاد في أسواق السياسة.

وبين ذاكرة الحرب التي ما زالت تنزف، وذاكرة الإنكار التي يحاولون إعادة تدويرها، ستبقى كلمة الشعب السوداني هي الأصدق، ولن تنطلي عليه شعارات التقاليد العسكرية بعد أن ذاق مرارتها، ولن يرحم التاريخ الذين تاجروا باسمه.

فالمستقبل الذي يُرسم الآن لن يكتبه العقيد الحوري ولا رفاقه من ضباط المعاش، بل ستكتبه دماء الشهداء وصمود الناجين، وستكتبه ذاكرة وطنٍ تعلّم أن الإنكار لا يبني الدول، وأن الحقيقة، مهما كانت دامية، هي وحدها التي تفتح الطريق للحرية.

Khirawi

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..