غزة تودّع صحفييها: حسام يوصي بعلاج زوجته مريضة السرطان، ومريم تترك كليتها لوالدها قبل رحيلها، وهلا تنادي: “هاتوا لي محمد”

غزة تودّع صحفييها: حسام يوصي بعلاج زوجته مريضة السرطان، ومريم تترك كليتها لوالدها قبل رحيلها، وهلا تنادي: “هاتوا لي محمد”
- Author, مروة جمال
- Role, يوميات الشرق الأوسط
في الخامس والعشرين من أغسطس/آب الجاري، اهتزت أرجاء قطاع غزة على وقع غارة إسرائيلية استهدفت مجمع ناصر الطبي في خان يونس.
لم تكن هذه الغارة مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار، بل كانت لحظةً فارقة حفرت ألمها عميقاً في قلوب الفلسطينيين، إذ خطفت أرواح خمسة صحفيين شباب، أحدهم كان بالفعل في بث مباشر على الهواء، لكنه لم يكن يعلم أنه سينقل بهذا البث لحظات مقتله هو و19 شخصا آخرين بينهم كوادر طبية، من بين أسماء الصحفيين القتلى برزت ثلاثة أسماء هي: مريم أبو دقة، حسام المصري، ومحمد سلامة، فما القصة؟
تخطى الأكثر قراءة وواصل القراءة
الأكثر قراءة
الأكثر قراءة نهاية
صدر الصورة، EPA
“بنتي رمز لكل فلسطين”
صدر الصورة، Getty Images
بصوتٍ خافت، يمتزج فيه الحزن بالفخر، يروي رياض محمد أبو دقة، والد الصحفية مريم تفاصيل اللحظات الأخيرة التي جمعته بابنته، الصحفية الشابة التي يتجاوز عمرها الثلاثين بقليل: مريم كانت دائما ما تتواجد في مجمع ناصر الطبي للتغطية الصحفية و”قبل استشهادها بيوم واحد” زارتني وأطالت مدة الزيارة على غير العادة، فهي دائما ما كانت تغادر سريعا كي تلحق بعملها وكنت أدعو الله أن يعينها على ما تحتمله وتراه من مآسي ومشاهد بشعة في سبيل نقل صورة ما يجري في قطاع غزة لكل العالم.
تخطى يستحق الانتباه وواصل القراءة
يستحق الانتباه نهاية
ويضيف: في هذه الليلة لم يغمض لي جفن، ظللت يقظا وأتمتم “استر يارب.. يارب استر” وعندما أتى الصباح وأتت معه الضربة الإسرائيلية الأولى للمستشفى سارعت بالاتصال بهاتف ابنتي لترد صديقتها وتخبرني أن مريم بخير، وقد ذهبت مسرعة بكاميرتها لتصور الحدث، ثم جاءت الضربة الثانية، فحاولت الاتصال بها مجددا، هذه المرة لم تجبني صديقتها لأنها رفضت أن تكون من يحمل لي هذه الفاجعة، فاتصلت بشقيقها ليجيبني بجملة واحدة لن أنساها ما حييت ” يا با مريم استشهدت” بعدها شاهدت جثمان ابنتي وشقيقها يحملها وينزل بها من على الدرج.
وبحسب الأب المكلوم لم تكن مريم صحفية جريئة فحسب، بل كانت ابنة معطاءة تبر والدها ولو بقطعة من جسدها، يتذكر أبو دقة الأيام التي اشتد عليه فيها المرض، فبادر كل أشقاء مريم بإجراء الفحوصات الطبية اللازمة للتبرع له بالكلى، لكنها الوحيدة التي جاءت نتائج تحاليلها مطابقة له، فرفض الأب أن يأخذ قطعة من جسد ابنته ليستمر على قيد الحياة، لكنها أصرت وقالت له: ” بدي اعطيك إياها إن رضيت ولا ما رضيت.. خلاص كبرت بمخي”.
ويختتم حديثه عن ابنته قائلا: “كانت معنوياتها دائما عالية، قلبها قوي بتغامر ولأنها تعلم بمدى الخطر الذي يحيط بها كتبت وصيتها لابنها الذي قرأها العالم كله، كما قرأها ابنها الذي لم تره منذ عام لأنها قررت سفره إلى أبو ظبي بالإمارات كي يكون بمأمن من الموت في هذه الحرب، الصبي الذي لم يتجاوز عمره 12 عاما قرأ وصية أمه وهاتفني للاطمئنان علي، وقال لي: “كنت بتمنى الحرب تخلص وأرجع لحضن أمي” لكنني قلت له إن والدته “ليست رمزاً لعيلة أبو دقة فحسب، بل رمزاً لفلسطين كلها”، ربما غاب جسدها، لكن وصاياها وذكراها ستبقى للأبد.
وصيتي أن تُعالج زوجتي
صدر الصورة، Getty Images
يروي عز الدين المصري الصحفي بغزة وشقيق الصحفي حسام المصري، تفاصيل مقتل أخيه قائلا: منذ بداية الحرب نترافق أنا وهو في كل التغطيات، لكن في هذا اليوم تأخرت عليه قليلا، ولأن منزلي قريب من مجمع ناصر سمعت صوت الاستهداف الأول له، فهممت بأن أتجهز للخروج، وهنا هاتفني أحد الصحفيين المتواجدين بالمشفى قائلا: تعالى فورا.
هرعت إلى المشفى، وأنا على بوابته سمعت الاستهداف الثاني، فبت أركض كالمجنون بين كل أرجاءه بحثا عن شقيقي حسام في كل الأقسام وحتى في ثلاجة الموتى لكنني لم أجده، وبعد ساعتين فوجئت بمجموعة شباب يحملون الجثمان باتجاهي، فقمت بتجهيزه للدفن، وودعته وأنا أودع معه 40 عاما كان لي فيها رفيقاً وزميلاً وصاحباً ويداً تسند ظهري ولا تتخلى عني أبدا.
ومضى قائلا: بعد أن تقلص عمل حسام في تلفزيون فلسطين، بدأ يتعاون مع مكتب رويترز في غزة، حيث كان يصور معظم عملهم في منطقة خان يونس، وبالفعل كان دائما ما يخرج في بث مباشر من مجمع ناصر تنقله عن رويترز غالبية القنوات الإخبارية، وعندما استهدف حسام، استهدف مع الكاميرا وجهاز الصوت وجهاز البث المباشر، والأجهزة كلها اختلطت بدمه، ولهذا تم توثيق الاستهداف على الهواء مباشرة ورآه كل العالم.
حياة حسام لم تكن سهلة، فإلى جانب عمله الصحفي المتواصل، كان يعتني بزوجته المريضة بصدفية تطورت إلى سرطان جلدي، وأثرت على أعصابها وحالتها العامة، “وقبل أسبوع واحد من استشهاده”، رافقته في رحلة جابت كل قطاع غزة بحثًا عن دواء ضروري لزوجته لكننا لم نجده، كما أنه كان يمر عليه أيام يعاني فيها من أجل توفير كيس طحين أو طعام لأسرته، ومنذ أن علمت زوجته بنبأ مقتله تدهورت حالتها الصحية وفقدت الوعي أكثر من مرة ، يضيف عز الدين.
وعن الوصية التي تركها حسام قبل مقتله يقول شقيقه: كان حسام كلما شاهد أحد الصحفيين الذين يعملون على المناشدات والمبادرات الإنسانية يوصيهم بأنه إذا مات لا يتركوا زوجته ويحاولوا بكل جهدهم أن يحضروا لها استمارة تحويل للعلاج بالخارج.
محمد وهلا: قصة حب أعدمها الموت
تتحدث ظريفة أبو قورة، صديقة الصحفيين محمد سلامة _ الذي قتل في الاستهداف- وخطيبته هلا عصفور، عن قصة حب ورفقة عمل انتهت بمأساة مروعة، تقول: كان محمد وهلا صحفيين متواجدين في مجمع ناصر الطبي، يوثقان الأحداث جنباً إلى جنب، يتشاركان الشغف بالمهنة وحلم الحياة معاً.
بعد مقتل محمد، تصف ظريفة المشهد الذي لن يمحى من ذاكرتها: ذهبت عند جثامين زملائي الشهداء لوداعهم، فرأيت هلا بحالة يرثى لها وعلامات الصدمة على وجهها، رأيتها تمسك برأس محمد، تتحدث معه، تهمس له في أذنه، تخبره عن الأشياء التي كانوا يخططون لها: حفل الزفاف، كل شيء كانت هلا تريد أن تفعله مع محمد همسته له في أذنه، وظلت تفعل ذلك إلى أن فقدت وعيها، فحملها شقيقها ليتعاملوا معها طبيا، وحقنوها بمادة مهدئة نامت على إثرها 12 ساعة، تم خلالها دفن جثمان محمد مع بقية الصحفيين الشهداء، ورغم قوة المخدر وعيناها المغلقتان كان جسدها يرتجف، وكانت تتمتم:” بدي محمد.. هاتوا لي محمد بس”.
تضيف ظريفة: كان موعد زفافهما قد اقترب، لكنهما تراجعا في اللحظة الأخيرة بعد ورود أنباء عن هدنة محتملة أملا في أن يتم عقد قرانهما في أجواء طبيعية يفرحان فيها كأي عروسين في العالم، وأملا منهما في ألا يسكنان بخيمة.
تقول ظريفة انها بكت كثيرا ورق قلبها لحال صديقتها، وأصبح أقسى ما تتمناه هو ان ترى هلا مجددا واقفة على قدميها، رغم أنها تعلم جيدا أن هلا لن تعود يوما كما كانت، فمحمد لم يكن مجرد خطيب لهلا، بل رفيق دربها ومصورها، وصديقها، وتوأمها الإعلامي، إذ كانا يعملان معًا لصالح قنوات إخبارية بعدما شكلا سويا مزيجاً إعلامياً رائعاً، واختتمت تصريحاتها قائلة: رحم الله محمد سلامة، وشفى الله هلا عصفور ومنحها الصبر على هذه الفاجعة والقدرة على التعافي.