مقالات وآراء

حديث الكتب(١٤) ..شهادة قارئة من قلب الحدث

حسن عبد الرضي الشيخ

من أجمل ما يثلج الصدر في هذه السلسلة أن القراء لا يكتفون بالمتابعة الصامتة، بل يشاركون بتجاربهم ومشاعرهم وشهاداتهم التي تمنح الفكرة حياة متجددة. ومن بين المداخلات المؤثرة، جاءت كلمة إحدى الأخوات اللاتي تفاعلن بحرارة مع ما كتبناه عن مؤلفات الأستاذ الشهيد محمود محمد طه، فخطّت شهادة دامية بصدقها، شاهدة على جريمة اغتيال الفكر والإنسان في آنٍ واحد.
تقول: إن السبب الذي عجّل بقتل الأستاذ محمود هو أنه واجه الإسلامويين بالسؤال الذي هزّ أركان زيفهم: إذا كنتم تطبقون الشريعة، فهل تدخل البنوك الربوية في هذا التشريع؟ هذا السؤال كشف غطاء شعاراتهم وأبرز زيف دعواهم، فازداد حنقهم عليه. فقد ألّف الجمهوريون كتابًا تناولوا فيه الاقتصاد من وجهة نظر غربية وإسلامية، ووقف الكتاب عند تجربة البنوك، ضاربًا المثل ببنك فيصل الإسلامي، كاشفًا تناقض شعار البنك مع ممارساته. كان ذلك بمثابة صفعة على وجه “إسلامهم التجاري”، فزاد غلّهم وأسرعوا في تنفيذ مؤامرتهم.
وتستعيد الأخت تفاصيل مؤلمة: كيف داهمت قوات الأمن منزل الأستاذ الذي كان يأوي فيه أرملتين وأيتامًا ينفق عليهم بكرم نادر. وكيف قلبوا أثاث البيت وأرعبوا الجيران، ثم اعتقلوه ونقلوه إلى مصيره المحتوم. وبعد محاكمته الجائرة، جاء الحكم الذي تواطأت فيه السلطة والقضاة والفقهاء المزيفون: الإعدام، ثم رفض دفنه في مقابر المسلمين، ليُدفن جثمانه الطاهر منقولًا بطائرة في وادٍ مجهول، في انتهاك فاضح لحرمة الموت وكرامة الإنسان.
وتضيف الأخت أنها عاشت تلك الأيام بمرارة، وعجزت هي وأسرتها عن زيارته أو معرفة أخباره. وحين سافرت خارج السودان، سمعت من عجائز ألمانيات سؤالًا صاعقًا: “هل أنتم مسلمون حقًا؟” كان السؤال احتجاجًا على قتل شيخ في السبعين من عمره لمجرّد الاختلاف في الرأي، وعلى دفن جسده الطاهر في الصحراء بلا مواراة. لقد رأت بعينيها كيف أصبح الحدث فضيحة أخلاقية عالمية، ووصمة عار على جبين من نفّذوه وخطّطوا له.
وتختم شهادتها بالقول: “نحمل غلًّا في قلوبنا على هؤلاء الكيزان، ولن يبرد هذا الغل إلا بزوالهم، لهم اللعنة في الدنيا والآخرة.
“هذه المداخلة ليست مجرد انفعال عابر، بل هي شهادة من قلب الحدث، تكشف بوضوح حجم الزيف الذي قامت عليه دولة الهوس الديني، وتبيّن كيف شكّل فكر الأستاذ محمود محمد طه تهديدًا وجوديًا لمشروعهم الظلامي.
ومن هنا نفهم أن كتب الأستاذ محمود لم تكن نصوصًا عابرة، وإنما مفاتيح لتحرير العقول والقلوب من أسر الزيف، وهو ما عجّل بمؤامرة تصفية صاحبها.ويبقى صوت القراء والشهود الأحياء شاهدًا على أن صمود الأستاذ محمود وجسارته لم يذهبا هدرًا، وأن الفكرة، التي قدم روحه فداء لها، ستظل تتجدد، لتضيء للسودان درب الحرية والكرامة والعدالة.
وبعد استئذان الأخت الكريمة صاحبة المداخلة في نشر المقال، زادت سعادتي وعجزت كلماتي عن الإيفاء بحقها في الشكر والتقدير، عندما كتبت تقول:”أتمنى أن تنشر هذا المقال الذي يعيد إلى الأذهان مدى حقارة ووضاعة الكوز الذي ادعى الدين لمجرّد الوصول إلى السلطة. نعم، أنا موافقة تمامًا على النشر، وكل كلمة كتبتها مسؤولة عنها أمام القراء وأمام الله. تسلم أستاذي، فأنا شغوفة جدًا بقراءة كل ما تكتب، لأنه مرآة صادقة تعكس بلا زيف خبايا الكوز البغيض.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..