حلول مبتكرة لأزمة التعليم في السودان

د. الشفيع خضر
كتبنا في مقالنا السابق أن حرب الخامس عشر من أبريل أصابت التعليم في السودان في مقتل، وحولته إلى أزمة عميقة، هي الأسوأ من نوعها في العالم، حيث 90٪ من أبناء السودان في سن الدراسة، حوالي 19 مليونا، ضاع منهم أكثر من عام دراسي، منهم 17 مليونا أصبحوا خارج نطاق التعليم ليشكلوا فاقدا تربويا هائلا وبحجم غير مسبوق في تاريخ السودان.
وأيضا قلنا في المقال، إنه بالإضافة إلى ما أصاب بنية النظام التعليمي من دمار وتقتيل ونزوح قسري ولجوء، فإن تأثيرات الحرب المباشرة على العملية التعليمية في البلاد، أتت بإفرازات خطيرة زادت الأزمة تعقيدا، وإذا لم يتم التصدي لها ومقاومتها، فإن الدمار لن يتوقف عند العملية التعليمية وحدها، بل سيعم ليشمل كل زوايا وأركان الوطن الأخرى، بما في ذلك وحدته وتماسكه.ولخصنا هذه الإفرازات الخطيرة في تسييس التعليم وإدخاله ساحة الصراع السياسي بين الأطراف المتحاربة، تجنيد الطلاب وتشجيعهم على ترك مقاعد الدراسة والذهاب إلى جبهات القتال، الإخلال بمبدأ المساواة في التعليم بين طلاب الولايات المختلفة، فرض رسوم دراسية رغم معاناة الأسر بسبب الحرب…، إلى غير ذلك من التداعيات السالبة. ونواصل في مقال اليوم الحديث حول كيفية مواجهة هذا الواقع المأساوي.
إن إنقاذ التعليم في السودان هو معركة وجودية توازي في أهميتها مساعي وقف إطلاق النار. وأن الخيار بين الحرب والتعليم هو خيار بين الدمار والبناء. فالطفل السوداني المفترض أن يحمل قلماً اليوم، هو من سيبني غداً سوداناً جديداً متحداً ومزدهراً، ولكن إذا حُرم من القلم وأضبح فاقدا تربويا، فليس من المستبعد أن يحمل سلاحاً آخر بدل القلم مدمرا ومغذيا لدورة العنف وحلقة الشر. لذلك، وبما أن التعليم أيضا هو استثمار في السلام المستقبلي وفي إعادة الإعمار، فلا يمكن انتظار انتهاء الحرب لمعالجة هذه الكارثة التي ألمت به. إنها مسؤولية مباشرة تقع على عاتق السودانيين أولاً، من خلال مبادرات مجتمعية جريئة وموحدة، وعلى المجتمع الدولي ثانياً، لدعم هذه المبادرات بكل الوسائل لضمان استمرارية التعليم رغم القتال وإنقاذ العملية التعليمية.
في 21 أغسطس/آب المنصرم، وبمشاركة عشرات المنظمات الدولية والمانحين والداعمين للتعليم، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم «يونسكو» عن تدشين حملة كبرى لدعم التعليم في السودان، تستهدف 80٪ من جملة أكثر من 17 مليون تلميذ وطالب تركوا الدراسة بسبب الحرب.
وفي سياق دعمها لهذه الحملة، اقترحت لجنة المعلمين السودانيين أن تكون خطة اليونسكو قائمة على مجموعة من المبادئ الأساسية، تشمل: أن يكون التعليم محايدا وفوق الصراعات السياسية، ومدخلا للسلام ونافذة للتعايش بين مكونات البلد، وتأكيدا على وحدتها، لأن طبيعة التعليم هي الأمن والسلام واستحالة تعايشه مع البندقية. وهذا يعني ضرورة أن تكون المدارس مناطق آمنة ومحايدة، يجتمع فيها أطفال من جميع الخلفيات، مما يعيد بناء النسيج الاجتماعي الممزق.أن تتوخى الخطة الشمول والعدالة، إذ لا يمكن تطبيقها على جزء من البلاد، وانتظار الجزء الآخر، وفي هذا الصدد اقترحت لجنة المعلمين أن يتم تخصيص جزء مقدر من ميزانية المبادرة، لبناء مدارس داخلية مكتملة، تبقي الأطفال في المدارس، وتقدم لهم بديلاً عن العنف، وتعطيهم أملافي مستقبل لا مكان فيه للحرب، على أن تضم الداخليات طلابا من مختلف التكوينات الجهوية والثقافية والإثنية، حتى تكون أساسا عمليا لتكريس وحدة البلاد.
أن تساهم المبادرة في تغيير النظام والسياسات التعليمية القائمة على المناهج التربوية والتعليمية الحديثة التي تستهدف بناء المواطن السوداني العصري، المتكامل جسديا وعقليا وروحيا، وأن تركز المناهج على القيم الإنسانية المشتركة، والتسامح، وحل النزاعات سلمياً، بدلاً من خطاب الكراهية.أن تُكرس المبادرة لترسيخ مجانية التعليم وإلزاميته وديمقراطيته وفق معطيات العصر. *أن تُعطى أولوية لتحسين أوضاع المعلمين والعاملين في الحقل التعليمي. *وأن تُبتكر حلول بناءة قابلة للتنفيذ لتذليل كل العقبات والمعوقات التي تحول دون إنزال هذه المبادئ على أرض الواقع.ومن الحلول المبتكرة، خارج الصندوق، لإنقاذ العملية التعليمية في ظل استمرار الحرب، مقترح لجنة المعلمين السودانيين بتشكيل لجنة قومية مستقلة، مكونة من شخصيات وطنية مرموقة ومحايدة، أكاديميين وخبراء تربويين، وناشطين مجتمعيين، تشرف على العملية التعليمية في البلد وتكون جسراً للتنسيق بين ثلاث جهات معنية بالتعليم في السودان:
مع وزارة التربية والتعليم الاتحادية في بورتسودان، ومع الإدارات التعليمية في الولايات وخاصة في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، ومع المنظمات الدولية المعنية كاليونيسف واليونسكو وبرنامج الأغذية العالمي لضمان تدفق المساعدات الضرورية كالمواد التعليمية، والرواتب التكميلية، والوجبات الغذائية للطلاب، والتنسيق لاعتماد آليات تعليم مؤقتة، كالتعليم عبر الراديو والتلفزيون في غياب الإنترنت لنشر الدروس للطلاب في المنازل أو الملاجئ أو معسكرات النزوح، التعليم المجتمعي عبر تنظيم «فصول صغيرة» في المنازل ودور العبادة تحت إشراف معلمين متطوعين، مع توفير الدعم المادي والأكاديمي لهم، الحزم التعليمية السريعة من توزيع حقائب تحتوي على دفاتر وأقلام وكتب أساسية للنازحين والأطفال في المناطق المتأثرة، دمج برامج الدعم النفسي والاجتماعي في جميع الأنشطة التعليمية لمساعدة الأطفال على التعامل مع الصدمات.
إن تنسيق الجهود بين هذه الجهات الثلاث، يمكن أن يقود لعملية تعليمية شاملة تستصحب ظروف الحرب والآثار التي خلفتها الحرب على المدارس والطلاب والمعلمين والمعلمات والمعينات المتعلقة بالعملية التعليمية.
إن نقابة المعلمين السودانيين لطالما ظلت صرحاً شامخاً للوحدة المهنية، ونسيجاً وطنياً يجمع تحت لوائه كل من حمل رسالة التعليم في كل أنحاء البلاد. وهذه الوحدة، هي تجسيد حي لطبيعة المهنة السامية التي تتجاوز الحدود والانتماءات الضيقة. لذلك، فإن بعض الأصوات المنادية بتقسيم لجنة المعلمين السودانيين انعكاساً للانقسام السياسي في البلاد، هي ضربة قاضية ضد مصلحة المعلمين، ومستقبل التعليم ووحدة البلاد.
القدس العربي



