المجد للبندقية… وسحقًا للمستقبل!

حسن عبد الرضي الشيخ
هذا المقال معدٌّ للسخرية من مفهوم “عسكرياااا” الذي يلوّح به البلابسة وتابِعوهم وتابِعو تابِعيهم، باستسلامٍ إلى أن يحين وقت الانعتاق. لقد أغرق البلابسة ومحرضوهم من الفلول والكيزان الشعبَ في بحرٍ من الحيرة والتوهان.. فلنحارب معركة “الكرامة” تلك وذلك الهوان بالطرفة بدلًا عن الطلقة.
في خبرٍ لا يثير الدهشة بقدر ما يثير الغثيان وحالةً من التوهان، تُوِّج (حميدتي) رئيسًا للمجلس الرئاسي في نيالا، بينما بارك (البرهان) نفسه حاكمًا عسكريًا في بورتسودان، في مشهد كاريكاتوري سريالي يصلح كخاتمة لعرضٍ مسرحي طويل بعنوان: “المجد للبندقية… وسحقًا للعقل والمنطق والمستقبل!
“هنيئًا لنا، شعب السودان العظيم (حسب النشرات الرسمية طبعًا)، فقد تحقق الحلم الذي كنا نحمله في صدورنا منذ نعومة أظفارنا: أن يحكمنا العسكري، ثم العسكري الآخر، ثم العسكري الآخر الآخر، حتى تنفد الألقاب ونضطر لإعادة استخدام التسميات القديمة، مثل: “الفريق أول ركن مكرّر مع سبق الإصرار والترصّد”.
انقسم السودان الآن إلى جمهوريتين حاكمتين: جمهورية “حميدستان” من جهة الغرب، وجمهورية “برهانيا” على الساحل الشرقي، وكأننا في موسمٍ جديد من برنامج “الديكتاتور نَكْسْت”، كلٌّ منهم يحمل بندقيته بيمينه، ودستوره بيساره، والديمقراطية تحت حذائه.
هذا ليس انقلابًا، ولا تمرّدًا، ولا حتى مؤامرة. هذا تحقيقٌ لأحلام شعبٍ كامل، شعبٍ وُلد وفي فمه “كلاشنيكوف”، وشبَّ وهو يحفظ النشيد الوطني: “نحن جند الله جند الوطن، ونحب الحكم بالرصاص من زمن!”، شعبٌ جسّد مقولة البرهان: “المجد للبندقية”… وكأنه يمد لسانه ساخرًا: “العار للبوصلة!
“منذ الاستقلال ونحن نُعيد إنتاج ذات الفيلم، فقط مع تغيير الممثلين والديكور حسب المزاج: ديكتاتور يخلع ديكتاتورًا، ثم يُزاح من ديكتاتور ثالث جاء على ظهر دبابة، لينقلب عليه ديكتاتور رابع قادم من صحراء مجهولة. وكلّهم يقولون لنا بكل ثقة: “نحن جئنا بالشرعية… شرعية البندقية طبعًا، مش شرعية الصندوق، ده حق الطلائع!
“وإذا أردنا إنصاف التاريخ، فإن السودان لم يُحكم يومًا بالمدنية سوى في دقائق الصمت ما بين رصاصةٍ ورصاصة. كل المحاولات المدنية كانت مجرد فترات استراحة مؤقتة، يضع فيها العسكري سماعة التلفون ويقول: “خلّيهم يلعبوا شوية ديمقراطية… بعدين نجي نكشحهم.” وأصبحنا نستحق لقب “الشعب المُدجَّن… حارس البندقية الأمين”.
أما عن هذا الشعب، فحدّث ولا حرج. لقد أصبح مثل “الديك الرومي” يوم عيد الشكر: ينتف ريشه بنفسه، ويستعد للذبح وهو يغني! فها هو يصفّق، ويهلّل، ويعلّق لافتاتٍ مكتوبٌ عليها: “نعم للجيش، لا للعيش!
“بل إن البعض – وبمنتهى الحماسة – اقترح أن نضع في علم السودان الجديد صورة بندقية وكلاشينكوف متقاطعَين على خلفية حمراء بلون الدم، بدلًا من النخلة والصقر، لأن “الصقر لا يُطلق النار”، ولأن النخلة لا تحكم. ووجب علينا أن نردّد جلالات من شاكلة: “نيالا وبورتسودان… العاصمة وين؟
“الآن، حين يسألك أجنبي: “ما هي عاصمة السودان؟” ستجيبه: “حسنًا، هذا سؤال معقّد. هناك عاصمة سياسية في نيالا، وعاصمة عسكرية في بورتسودان، وعاصمة نفسية في لا مكان، وعاصمة الأمل في المنفى.
“كل مدينة أصبحت مشروع دولة، وكل قبيلة تفكّر جديًا في تنصيب سلطانها الخاص، وحرسها الخاص، ونشيدها الوطني الخاص:”حاكمنا ولد عمنا،
وبنحكم بالبندقية،
والمجد لينا وحدنا،
والموت للوطنية!
“والمستقبل؟ يا ليتنا لم نره! المتوقع خلال الأشهر القادمة، أن يُقسَّم السودان إلى “مشيخات”، كل واحدة تدير شؤونها بفتوى من أحد الجنرالات المتقاعدين، وقد يُصدر البرهان عملةً جديدة باسم “البرهانة”، بينما تطبع قوات الدعم السريع عملةً مضادة تُسمّى “الحميدية”، وفي السوق السوداء (التي أصبحت السوق الوحيدة المتاحة)، تتحدد قيمة العملة بعيار الرصاصة التي تحرس البنك المركزي.
في الختام:
هل تتحقق فينا نبوءة الأندلس؟ فالمفارقة العجيبة، أن ما يحدث يشبه انهيار الأندلس قبل سقوطها النهائي، حين انقسمت إلى “دويلات الطوائف”، وتصارع فيها الحكّام على وهم السلطة، بينما العدو الحقيقي يزحف. الفرق الوحيد، أن الأندلس كانت تصارع لأجل البقاء، بينما نحن نصارع لأجل مزيد من الانهيار.
لكن لا تقلقوا، فنحن بخير، والدليل أن البندقية لا تزال بخير، والمجد لا يزال لها، والشعب لا يزال يهتف من أعماق الزنزانة: “شعب واحد، جيش واحد”، أو “عاش الحاكم ولو قتلنا!
“وإلى حين ظهور الجنرال القادم من شرق الكوكب، نقول كما قال الأوائل:”إذا طالت فترة السُكر بالبندقية، فأعدك بأننا سنموت فرحًا… لكن برصاصة!”



