تقارير استقصائية

تحليل سيناريو افتراضي لاستمرار حكم عمر البشير (2019-حتى الآن)

ملخص تنفيذي

يقدم هذا التقرير تحليلاً معمقاً للسيناريو الافتراضي الذي كان سيشهده السودان لو استمر نظام الرئيس السابق عمر البشير في السلطة إلى ما بعد أبريل 2019. وتتمثل الأطروحة المركزية للدراسة في أن بقاء النظام لم يكن ليؤدي إلى استقرار أو عودة إلى الوضع السابق، بل كان سيسرّع من وتيرة انهيار الدولة بشكل أبطأ وأكثر تآكلاً وعنفاً في نهاية المطاف. يجادل التحليل بأن الأزمات الهيكلية التي كان يعاني منها النظام — الإفلاس الاقتصادي، وانعدام الشرعية السياسية، والحروب الداخلية التي لم تُحسم، والمكانة الدولية المنبوذة — كانت قد وصلت إلى مرحلة نهائية لا يمكن التعافي منها. يفترض السيناريو البديل أن استمرار الحكم كان سيشهد تفاقماً للمصاعب الاقتصادية، وتحول السودان بالكامل إلى دولة عسكرية محصنة، وتصعيداً للنزاعات في الأطراف، وصراعاً داخلياً عنيفاً على السلطة بين أجنحة النظام الأمنية ذاتها. ويخلص التحليل إلى أن مواجهة مستقبلية بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع كانت حتمية، وإن اختلفت تفاصيل توقيتها وسياقها.

القسم الأول: الاقتصاد المتداعي: من الأزمة إلى الكارثة

يقدم هذا القسم نموذجاً للمسار الاقتصادي الذي كان سيسلكه السودان في ظل استمرار نظام البشير، مؤكداً أن العيوب الهيكلية كانت أعمق من أن تتمكن أدوات النظام السياسية من معالجتها. لم يكن المسار المتوقع مساراً للتعافي، بل كان هبوطاً متسارعاً نحو تضخم جامح، وإفلاس تام، وابتلاع كامل لاقتصاد الدولة الرسمي من قبل جهاز أمني-عسكري مفترس.

1.1 دوامة الديون الخانقة وحصار العقوبات

في الفترة ما بين 2018 و2019، بلغ الدين الخارجي للسودان حوالي 58 مليار دولار أمريكي، وشكلت المتأخرات (الفوائد والجزاءات على أصل الدين البالغ 17-18 مليار دولار) نسبة مذهلة بلغت 85% من هذا المبلغ. وكانت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي قد وصلت إلى 166%، متجاوزة بشكل كبير عتبة الاستدامة البالغة 36%. في الوقت نفسه، كان السودان يخضع لعقوبات أمريكية شاملة ومصنفاً كدولة راعية للإرهاب.

في ظل هذه المعطيات، لم يكن لدى النظام أي مسار قابل للتطبيق لحل أزمة الديون. كان الوصول إلى آليات تخفيف الديون الدولية، مثل مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC)، محظوراً بشكل صريح بسبب تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب. وكانت شروط رفع هذا التصنيف — التي تشمل تسوية المطالبات القانونية المتعلقة بالإرهاب وتغييراً جذرياً في طبيعة النظام — مستحيلة التحقيق بالنسبة لنظام البشير. لذلك، في السيناريو الافتراضي، كان الدين سيستمر في التضخم بسبب تراكم الجزاءات، مما كان سيزيد من عزلة السودان عن النظام المالي العالمي، ويضمن الغياب التام للمؤسسات المالية الدولية والمستثمرين الموثوقين.

إن العلاقة بين تصنيف الدولة كراعية للإرهاب وتخفيف عبء الديون لم تكن مجرد تحدٍ سياسي، بل كانت فخاً هيكلياً. لم يكن من الممكن حل إحدى المشكلتين دون حل الأخرى، وكان نظام البشير هو السبب الجذري لكلتيهما. فلا يمكن تحقيق الاستقرار الاقتصادي دون عملة أجنبية واستثمار، والوصول إليهما كان مرهوناً برفع التصنيف وحل أزمة الديون. وكان تخفيف الديون (عبر مبادرة HIPC) هو السبيل الوحيد لإعادة هيكلة الوضع المالي، لكن هذه المبادرة تتطلب سجلاً من الإصلاحات وعلاقة جيدة مع صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو أمر مستحيل لدولة مصنفة كراعية للإرهاب. وفي المقابل، كان رفع التصنيف يتطلب إجراءات — مثل التعاون في مكافحة الإرهاب، وتسوية المطالبات القانونية، وربما تسليم أفراد للمحكمة الجنائية الدولية — من شأنها أن تقوض الأسس الأيديولوجية للنظام وهيكله الأمني. وهكذا، كان النظام محاصراً في مأزق هيكلي: لا يمكنه تحقيق الاستقرار الاقتصادي دون إجراء إصلاحات سياسية تضمن زواله، مما يجعله محكوماً بمسار حتمي من التدهور المستمر.

1.2 التقشف والتضخم الجامح وموت العقد الاجتماعي

شملت السياسات الاقتصادية الأخيرة للنظام إجراءات تقشف كارثية. فالخطة الخمسية (2015-2019)، التي استهدفت تحقيق نمو في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7% وتضخم أقل من 10%، فشلت فشلاً ذريعاً. وبدلاً من ذلك، سجل نمو الناتج المحلي الإجمالي معدلاً سلبياً بلغ -2.3% في عام 2018 ، وارتفع متوسط التضخم السنوي بشكل صاروخي من حوالي 14% في عام 2015 إلى 63.3% في عام 2018. وكانت الشرارة المباشرة التي أطلقت الثورة هي قرار الحكومة زيادة سعر الخبز ثلاثة أضعاف. كما كان النظام يتوسع بشكل هائل في عرض النقود (حيث بلغ نمو M2 نسبة 111.7% في 2018) لتمويل عجزه، وهي وصفة كلاسيكية للتضخم الجامح.

في مواجهة الاضطرابات الشعبية المستمرة، كان النظام سيقع في حلقة مفرغة. فأي محاولة لإعادة الدعم لتهدئة الاحتجاجات كانت ستتطلب طباعة المزيد من النقود، مما يؤدي إلى تدهور قيمة العملة وزيادة التضخم. وفي المقابل، كان الحفاظ على التقشف سيغذي الاحتجاجات الدائمة. كان المسار الأكثر ترجيحاً هو التذبذب الفوضوي بين هذين الخيارين، مما كان سيؤدي إلى تضخم جامح يتجاوز بكثير الذروات التي شوهدت بعد الثورة، وانهيار كامل في الخدمات العامة، ومجاعة واسعة النطاق في المراكز الحضرية. وكانت وعود النظام بـ”إصلاحات اقتصادية” ستظل جوفاء، لأنه لم يكن يمتلك الأدوات اللازمة لإصلاح المشاكل الهيكلية الأساسية.

لم يكن النظام ليكتفي بسوء إدارة الاقتصاد فحسب، بل كان سيستخدم الانهيار كأداة للسيطرة السياسية. فمع انهيار الاقتصاد الرسمي، أصبحت السيطرة على السلع الأساسية (الوقود، الدقيق، السيولة النقدية) مصدراً هائلاً للسلطة. كان الجهاز الأمني العسكري، الذي كان يسيطر بالفعل على اقتصاد موازٍ ، سيستولي على توزيع هذه الموارد الشحيحة. ومن ثم، كان بإمكانه استخدام الوصول إلى الخبز والوقود لمكافأة الموالين ومعاقبة المعارضين، مما يخلق نظام محسوبية قائماً على البقاء. وهذا يحول الأزمة الاقتصادية من مجرد فشل في الحكم إلى نظام فعال للقمع والهندسة الاجتماعية، مما يعمق الانقسامات المجتمعية ويجعل أي تعافٍ واسع النطاق مستحيلاً.

1.3 ترسيخ الإمبراطورية الاقتصادية العسكرية-الأمنية

حتى قبل الثورة، كانت المؤسسة العسكرية-الأمنية تسيطر على ما يقدر بنحو 80% من اقتصاد البلاد من خلال كيانات مثل هيئة التصنيع الحربي وشركات مثل “زادنا”. وقد أدى ذلك إلى خلق “طبقة طفيلية” و”اقتصاد موازٍ” واسع ازدهر بفضل عزلة البلاد وغياب الشفافية. كان الفساد المستشري متوطناً، حيث أُدين البشير نفسه لاحقاً بالفساد وغسيل الأموال بعد العثور على 130 مليون دولار في منزله.

في سيناريو استمرار الحكم، كان هذا الاقتصاد الموازي سيصبح الاقتصاد الوحيد ذا الأهمية. فمع اختناق القطاع الرسمي بسبب العقوبات والتضخم الجامح، كانت سيطرة الجيش وقوات الدعم السريع على صادرات الذهب والأراضي وطرق التهريب ستتوسع. وكانوا سيقاومون أي محاولات للإصلاح الاقتصادي أو الشفافية أو الخصخصة التي يمكن أن تهدد مصادر إيراداتهم. كانت الدولة ستُفرغ من مضمونها فعلياً، حيث تعمل مؤسساتها كواجهة لشبكة كليبتوقراطية من نخب أمنية.

الجدول 1: المؤشرات الاقتصادية للسودان على حافة الهاوية (2015-2018)

المؤشر2015201620172018
نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (%)6.45.95.2-2.3
متوسط التضخم السنوي (%)14.311.233.363.3
الدين الخارجي (مليار دولار)45.058.0
عجز الموازنة / الناتج المحلي الإجمالي (%)-1.0-3.6-4.7
نمو عرض النقود M2 (%)16.323.535.1111.7

القسم الثاني: سياسات البقاء: دولة عسكرية تحت الحصار

يستعرض هذا القسم التطور السياسي المتوقع لنظام البشير، ويجادل بأن استجابته للتهديد الوجودي الذي شكلته انتفاضة 2018-2019 كانت ستتمثل في تعزيز نزعاته الأكثر استبدادية وعسكرية، مما يخلق دولة بوليسية هشة ومصابة بجنون الارتياب، ومهيأة لانقلاب داخلي.

2.1 وهم الإصلاح: العسكرة والمركزية

لم تكن استجابة النظام للاحتجاجات في فبراير 2019 حواراً سياسياً، بل كانت المزيد من العسكرة. قام البشير بحل الحكومة وتعيين 18 مسؤولاً عسكرياً حكاماً للولايات. وقد بُني هذا الإجراء على تعديلات دستورية سابقة في عام 2015 كانت قد وسعت بالفعل من سلطة الرئيس في تعيين حكام الولايات (بدلاً من انتخابهم) وحولت جهاز الأمن والمخابرات الوطني إلى قوة عسكرية رسمية تتمتع بسلطات واسعة. 

كان هذا الاتجاه سيتسارع بشكل كبير. في السيناريو الافتراضي، كنا سنشهد استبدالاً كاملاً للإدارة المدنية بحكم مباشر من قبل ضباط الجيش والأمن. وأي مظهر من مظاهر العمليات الديمقراطية أو الانتخابات (التي كانت مقررة في 2020) كان سيتم تأجيله إلى أجل غير مسمى تحت ستار حالة طوارئ دائمة. ومن المرجح أننا كنا سنرى تعديلات دستورية إضافية لإلغاء القيود على الفترات الرئاسية بالكامل، مما يسمح للبشير بإعلان نفسه رئيساً مدى الحياة، ولمنح قوات الأمن حصانة قانونية أكبر لأفعالها. كانت الدولة ستتحول من حكومة مدنية بجيش كبير إلى مجلس عسكري بحت مع بقايا بيروقراطية مدنية شكلية.

2.2 برميل بارود الخلافة

حكم البشير لمدة 30 عاماً وقام بتفكيك أي منافسين محتملين، بما في ذلك معلمه السابق حسن الترابي. بحلول عام 2019، لم يكن هناك خليفة واضح. كانت استراتيجيته للبقاء تتضمن إنشاء هيئات أمنية متعددة ومتنافسة — القوات المسلحة السودانية، و”هيئة العمليات” القوية التابعة لجهاز الأمن والمخابرات، وحرسه الشخصي المتمثل في قوات الدعم السريع — لتكون بمثابة رقيب على بعضها البعض ومنع أي كيان منفرد من القيام بانقلاب.

كانت استراتيجية “التحصين ضد الانقلابات” هذه غير مستقرة بطبيعتها وكانت ستصبح سبباً في زوال النظام. فمع تفاقم الأزمة الوطنية، كان البشير نفسه سيُعتبر من قبل شخصيات بارزة داخل المؤسسة الأمنية على أنه العقبة الرئيسية — الرجل الذي حال اتهامه من قبل المحكمة الجنائية الدولية ووضعه كمنبوذ دولي دون أي إمكانية للحصول على إنقاذ مالي. وكان غياب خليفة معين سيحول الدائرة المقربة منه إلى “عش دبابير”، حيث يسعى قادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وجهاز الأمن والمخابرات الوطني إلى التموضع لعصر ما بعد البشير. كان الانقلاب الداخلي سيصبح مسألة وقت، وليس احتمال.

إن البنية التي صُممت لحماية البشير كانت ستضمن أزمة خلافة عنيفة. فسلطة البشير كانت تعتمد على الموازنة بين القوى الأمنية المتنافسة. ومع جعل الأزمة الاقتصادية والسياسية حكمه غير قابل للاستمرار، كان قادة هذه القوى سيبدأون في رؤيته كعقبة أمام بقائهم وطموحاتهم. وعلى عكس النظام المدني الذي توجد فيه قواعد للخلافة، فإن الآلية الوحيدة للانتقال كانت ستكون اختباراً للقوة. كل من قائد القوات المسلحة السودانية وقائد قوات الدعم السريع وغيرهم من الجنرالات الأقوياء كان سيعتقد أن لديه القوة والشرعية للاستيلاء على السلطة. وأي محاولة من قبل فصيل لإزاحة البشير (انقلاب قصر) كانت ستواجه تحدياً فورياً من الآخرين، ليس من باب الولاء للبشير، بل لمنع منافس من تحقيق السيادة. وبالتالي، فإن نهاية حكم البشير، حتى بدون ثورة شعبية، كانت على الأرجح ستطلق صراعاً عنيفاً ومتعدد الأطراف بين ركائز نظامه ذاتها.

2.3 الحرب على المجتمع المدني

كان للنظام تاريخ طويل في قمع المعارضة، لكن انتفاضة 2018 كانت فريدة من نوعها في تنظيمها من قبل هيئات مهنية مثل “تجمع المهنيين السودانيين”. كانت استجابة النظام متوقعة: اعتقالات جماعية، وإلقاء اللوم على “المندسين” و”المخربين”، وقطع الإنترنت.  

في حال بقاء نظام البشير، كان سيشن حملة منهجية وغير مسبوقة للقضاء على أي شكل من أشكال المجتمع المدني المستقل. كانت النقابات المهنية، والمجموعات الطلابية، ووسائل الإعلام المستقلة، ومنظمات حقوق الإنسان ستُفكك بالكامل. وكانت الدولة الأمنية ستكثف شبكات المراقبة والمخبرين، مما يخلق مناخاً من الخوف يتجاوز بكثير ما شوهد قبل عام 2018. كان الهدف هو تفتيت المجتمع ومنع ظهور أي معارضة منسقة مرة أخرى.

القسم الثالث: الأطراف الدامية: تصعيد النزاعات الداخلية

يجادل هذا القسم بأن الأزمة المتفاقمة للنظام في المركز كانت ستترجم مباشرة إلى عنف أكثر تطرفاً في الأطراف. فالدولة المفلسة وغير الشرعية كانت ستصبح أكثر اعتماداً على حروب الوكالة منخفضة التكلفة وعالية الوحشية للحفاظ على سيطرتها.

3.1 دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق: استراتيجية الحرب الدائمة

بحلول عام 2018، كانت النزاعات في هذه المناطق مستعرة منذ سنوات. أسفرت الحرب في دارفور، التي بدأت عام 2003، عن مقتل ما يقدر بنحو 300,000 شخص وتشريد أكثر من 2.5 مليون آخرين. أما النزاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق، الذي اندلع عام 2011، فقد أثر على مليوني شخص وشرد أكثر من 500,000. كانت استراتيجية الحكومة تشمل القصف الجوي العشوائي والاستخدام المكثف للميليشيات المتحالفة معها مثل الجنجويد.

لم يكن لدى نظام مشلول مالياً الموارد ولا الإرادة السياسية للسعي نحو سلام حقيقي. فاتفاقيات السلام مكلفة، وتتطلب تمويلاً لنزع السلاح وإعادة الإعمار والتنمية. كان الخيار الأرخص بكثير هو الاستمرار في تمويل الميليشيات بالوكالة لترويع السكان المدنيين ومحاربة الجماعات المتمردة. كنا سنشهد تكثيفاً لهذه الاستراتيجية، مع تنازل الحكومة عن المزيد من السيطرة الفعلية على هذه المناطق لقادة حرب متحالفين معها مقابل ولائهم، مما يؤدي إلى انهيار كامل لسلطة الدولة وزيادة في العنف العرقي والقبلي.

3.2 الصعود غير المقيد لقوات الدعم السريع

كانت قوات الدعم السريع، التي نشأت من ميليشيات الجنجويد سيئة السمعة، من صنع البشير وركيزة أساسية في استراتيجيته لمكافحة التمرد في دارفور وخارجها. كما تم نشرها لقمع الاحتجاجات في المدن وشاركت في أنشطة مرتزقة مربحة، مثل القتال في اليمن مقابل مدفوعات من دول الخليج.

في السيناريو الافتراضي، كانت أهمية قوات الدعم السريع لبقاء البشير ستنمو بشكل كبير. كانت ستكون القوة الأساسية لسحق كل من التمردات الريفية والمعارضة في المدن. وكانت سيطرتها على الموارد الاقتصادية، خاصة مناجم الذهب في دارفور، ستتوسع، مما يجعلها مستقلة مالياً عن ميزانية الدولة المنهارة. وهذا كان سيسرع من تحولها من ميليشيا متحالفة مع الدولة إلى جيش موازٍ قوي، يدين بالولاء لقائده، وليس للدولة.

إن استمرار تمكين البشير اليائس لقوات الدعم السريع كان سيجعل حرباً مستقبلية بينها وبين القوات المسلحة السودانية النظامية أمراً مؤكداً تماماً. فبينما كان البشير، المتمسك بالسلطة، يعتمد بشكل متزايد على قوات الدعم السريع لحمايته الشخصية وخوض حروبه القذرة، كان يغدق عليها الموارد والاستقلالية القانونية والفرص الاقتصادية. في المقابل، كانت القوات المسلحة النظامية، وهي مؤسسة عريقة ولكنها تعاني من نقص التمويل والإحباط، تنظر إلى قوات الدعم السريع على أنها كيان غير شرعي وخطير، وتهديد لاحتكارها الدستوري للقوة. هذا الصعود لقوات الدعم السريع كان سيخلق مركز قوة منافساً داخل الهيكل الأمني للدولة، مما يؤدي إلى وضع “الدولتين العسكريتين” الذي لا يمكن استمراره. في اللحظة التي يخرج فيها البشير من المعادلة (سواء بالوفاة أو المرض أو الانقلاب)، كان لا بد من الإجابة على السؤال الأساسي: “من هي السلطة العسكرية العليا في السودان؟”. ونظراً لطموحات القوتين وانعدام الثقة المتبادل بينهما، لم يكن من الممكن تسوية هذا السؤال إلا من خلال صراع عنيف. ثورة 2018 لم تخلق الظروف لحرب 2023؛ بل غيرت فقط الجدول الزمني والسياق السياسي لمواجهة حتمية كانت متجذرة في بنية دولة البشير الأمنية.

القسم الرابع: منبوذ على الساحة العالمية: جيوسياسة العزلة

يحلل هذا القسم الموقف الدولي للسودان، ويخلص إلى أنه في ظل استمرار نظام البشير، لم يكن هناك مسار معقول لإعادة الاندماج في المجتمع الدولي. كانت العزلة ستتعمق، وكانت العلاقات الخارجية ستصبح أكثر براغماتية ويأساً.

4.1 وصمة المحكمة الجنائية الدولية وتصنيف الإرهاب الدائمة

كان البشير أول رئيس دولة في منصبه توجه له المحكمة الجنائية الدولية اتهامات، حيث واجه تهماً بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور. وهذا جعله منبوذاً دولياً. وبشكل منفصل، فإن تصنيف الولايات المتحدة للسودان كدولة راعية للإرهاب، والذي كان سارياً منذ عام 1993 لإيوائه جماعات إرهابية مثل القاعدة ، قد عزل السودان عن النظام المالي العالمي.

كانت هاتان القضيتان عقبتين لا يمكن التغلب عليهما بالنسبة للنظام. فتسليم البشير نفسه للمحكمة الجنائية الدولية لم يكن خياراً مطروحاً، لأنه كان سيعني نهاية حكمه والسجن مدى الحياة. وكان الهيكل الأمني للنظام بأكمله متورطاً في الأعمال التي أدت إلى تصنيف الدولة كراعية للإرهاب، مما جعل الإصلاح الحقيقي مستحيلاً دون تدمير ذاتي. لذلك، في السيناريو الافتراضي، كان السودان سيبقى على قائمة الدول الراعية للإرهاب، وكان أمر الاعتقال الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية سيبقى سارياً. وأي تعامل دبلوماسي مع الغرب كان سيقتصر على قضايا تكتيكية ضيقة، دون أي إمكانية للتطبيع أو الاستثمار أو المساعدات.

4.2 تحالفات المصلحة ودولة المرتزقة

كانت السياسة الخارجية للنظام انتهازية للغاية. فقد حافظ على تحالف قوي مع إيران لسنوات قبل أن يغير موقفه فجأة للانضمام إلى التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات في اليمن مقابل الدعم المالي. وكان هذا الدعم حاسماً لدعم الاقتصاد المنهار.

كان هذا النهج القائم على المقايضة سيستمر ويتكثف. كان السودان سيتحول إلى “دولة مرتزقة”، تؤجر جنودها (بشكل أساسي قوات الدعم السريع) ومواقفها الدبلوماسية لمن يدفع أكثر. ومن المرجح أن العلاقات مع روسيا كانت ستتعمق، حيث يقدم النظام إمكانية الوصول إلى الموانئ أو الموارد مقابل الحماية السياسية في مجلس الأمن الدولي والعتاد العسكري. ومع ذلك، لم تكن هذه التحالفات لتكون استراتيجية ومستقرة، بل كانت علاقات مصلحة هشة، مما يترك السودان عرضة لأولويات رعاته المتغيرة ويمنع تدفق أي استثمار أجنبي مباشر مستدام ضروري للتنمية الاقتصادية الحقيقية.

خاتمة: حتمية انهيار مختلف

يجمع هذا القسم الختامي نتائج الأقسام السابقة لتقديم حجة نهائية متماسكة ومقنعة. ويؤكد أن السيناريو الافتراضي للسودان في ظل استمرار نظام البشير ليس سيناريو استقرار قاتم، بل هو سيناريو انفجار حتمي ومطول.

كانت الأزمات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية ليست منفصلة، بل كانت متشابكة بعمق وتعزز بعضها البعض. فالانهيار الاقتصادي غذى الاضطرابات السياسية، التي استلزمت قمعاً عسكرياً أكبر. وهذا القمع مكن قوات وكيلة مثل قوات الدعم السريع، التي قوضت الجيش النظامي وخلقت أزمة خلافة. والطبيعة الإجرامية للنظام ضمنت العزلة الدولية، التي بدورها فاقمت الانهيار الاقتصادي. وقد خلق هذا حلقة مفرغة من فشل الدولة لم يكن هناك مفر منها.

الاستنتاج المركزي هو أن حرب 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع كانت حتمية هيكلية للدولة التي بناها البشير. كانت ثورة 2018-2019 محاولة شعبية ضخمة لتجنب هذا المسار الكارثي، لكن بذور ذلك الصراع كانت قد زُرعت بالفعل. في السيناريو الافتراضي، كان الصراع نفسه سيندلع، ربما بسبب انقلاب قصر لإزاحة بشير مسن وعاجز، أو استيلاء مباشر على السلطة عند وفاته. كانت النتيجة ستكون نفسها: حرب مدمرة للسيطرة على أنقاض الدولة السودانية.

الحكم النهائي هو أن ثورة ديسمبر، على الرغم من المسار المأساوي والمضطرب الذي سلكه السودان منذ ذلك الحين، لم تكن سبب انهيار الدولة بل كانت استجابة لنظام كان بالفعل في حالة تدهور نهائي. لقد مثلت محاولة يائسة، وغير ناجحة في نهاية المطاف، لإيجاد بديل للانفجار البطيء الذي كان سيضمنه استمرار حكم عمر البشير.

الجدول 2: مقارنة بين السيناريو الافتراضي والنتيجة الفعلية (المقاييس الرئيسية، حوالي 2023)

المقياسالسيناريو الافتراضي (“استمرار البشير”)النتيجة التاريخية الفعلية (ما بعد الثورة)
تصنيف الولايات المتحدة كدولة راعية للإرهابيبقى ساري المفعول.رُفع رسمياً في ديسمبر 2020.

وضع رئيس الدولة لدى المحكمة الجنائية الدوليةيبقى البشير قيد الاتهام.سُجن البشير في الخرطوم؛ وافقت السلطات الانتقالية مبدئياً على نقله. 
وضع الدين الخارجييتجاوز 60 مليار دولار؛ لا إمكانية للحصول على إعفاء. تم التوصل إلى اتفاق للإعفاء ضمن مبادرة HIPC (يونيو 2021) لكنه عُلق بعد الانقلاب.

الجهة الأمنية المهيمنة

تنمو قوة الدعم السريع دون رادع، مما يؤدي إلى صراع داخلي على السلطة/انقلاب.

تنمو قوة الدعم السريع، مما يؤدي إلى حرب مفتوحة مع القوات المسلحة في أبريل 2023.
النظام السياسيدولة عسكرية ذات حزب واحد تحت قانون طوارئ دائم.انتقال ديمقراطي فاشل، تلاه انقلاب عسكري (أكتوبر 2021) وانهيار الدولة في حرب أهلية.
وضع النزاعات في الأطرافحرب دائمة منخفضة الحدة وتفتت للدولة. توقيع اتفاق سلام (جوبا، 2020) لكنه لم ينفذ إلى حد كبير؛ أُدمجت النزاعات في الحرب الأهلية الوطنية.
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..