مقالات وآراء

الحاج آدم يوسف….الغرور الكاذب والإستحقاق المُزيّف

 

علاء خيراوي
لم يكن انقلاب الثلاثين من يونيو مجرد استيلاء على السلطة كما يفعل الطامعون، بل كان قطيعة مع التاريخ السوداني نفسه، قطيعة مع قيِّم التنوع والتسامح والكرامة، ليبدأ عهدٌ جديد كتب فصوله الإسلاميون بالدماء والحروب والتمكين،  حيث تُقدَّم الأكاذيب على أنها حقائق، ويُعاد تعريف الخراب كأنه إنجاز، ويُصوَّر الاستبداد على أنه حماية للدين وللوطن.

لاكثر من ثلاثة عقود، تجرّع فيها السودانيون كل ألوان القهر، من مجازر دارفور إلى نزيف الجنوب الذي انتهى بانفصاله، من تكميم الأفواه إلى نهب الثروات، من تحويل الدولة إلى مزرعة حزبية إلى جعل الوطن بأكمله رهينة لمشروع فاشل لم يخلّف وراءه سوى الفقر والمنافي والمقابر.

واليوم، بعد أن انهار البناء فوق رؤوسهم، لا يزالون يخرجون على الشاشات، متزيّنين بنفس الغرور الكاذب، حاملين نفس الاستحقاق المزيّف، وكأنهم لم تلفظهم الشوارع والمدن، وكأن الشعب لم يُسقطهم، وكأن الدماء لم تزل ساخنة في شوارع الخرطوم ووديان دارفور.

لأكثر من ثلاثة عقود من الاستبداد لم تُنتج سوى حروب في الأطراف، تقسيم للوطن، إفقار للشعب، وإغراق للبلاد في عزلة دولية خانقة، لم يعرف السودانيون في عهد المؤتمر الوطني غير الجوع والتهجير والمجازر، بينما ظل قادته يرفعون شعارات الدين والوطنية، ويبرّرون القهر بالشرعية الزائفة، ويشرّعون المليشيات ليضمنوا بقاء سلطتهم على جماجم الأبرياء.

هذه الحركة التي زيّفت التاريخ، وقطعت أوصال السودان، وأشعلت الفتن باسم “الدين” و”الجهاد”، تعود اليوم بوجوهها القديمة لا لتعتذر أو تكفّر عن جرائمها، بل لتكرّر خطاب الغرور الكاذب والاستحقاق المزيف وكأن شيئًا لم يكن.

في قلب هذه المسرحية المظلمة، جلس الحاج آدم يوسف، نائب البشير ورئيس القطاع السياسي للمؤتمر الوطني، أمام المذيع القدير أحمد طه في الجزيرة مباشر، لا كمتحدث سياسي يبحث عن الحقيقة، بل كصوت صريح للإنكار، يوزّع التهم على الآخرين، ويبرّئ حزبه من جرائم يعرفها القاصي والداني.

لقد بدا اللقاء لحظة كاشفة، أشبه بمحكمة علنية لا يستطيع فيها المتهم أن يهرب من أسئلة التاريخ، فكل إجابة نطق بها كانت بابًا جديدًا للفضيحة، مرةً بالقانون الذي فُصِّل لتقنين المليشيا، ومرةً بإنكار دماء دارفور والقيادة العامة، ومرةً بحديث أجوف عن الديمقراطية بعد ثلاثين عامًا من القهر. فلقد كان المشهد برمته اختصارًا لثقافة الإسلاميين منذ يومهم الأول، خطاب مشبع بالإنكار، مشهد مسكون بالاستعلاء، وذاكرة مثقلة بالدماء.

في مواجهة أسئلة أحمد طه، بدا الحاج آدم يوسف كمن يسبح في بحر من التناقضات. قال أولًا إن الدعم السريع أُنشئ بقانون وكان منضبطًا، وكأن التشريع الذي صاغه برلمان الإنقاذ قادر على تحويل الجريمة إلى فضيلة، بينما الحقيقة أن القانون كان مجرد أداة لتقنين مليشيا جُعلت سيفًا على رقاب السودانيين، وقد وثّقت المنظمات الدولية منذ البداية أن هذه القوة تورّطت في جرائم حرب بدارفور.

ثم مضى ليقول إنهم غير نادمين على إنشاء الدعم السريع، وهي جملة تكشف بوضوح أن الاستبداد عندهم ليس خطأً بل عقيدة، وأن ملايين المشردين وعشرات الآلاف من القتلى لا تساوي عندهم شيئًا أمام بقاء السلطة.

وحين سُئل عن جرائم دارفور، ادّعى ببساطة أن الدعم السريع لم يرتكب شيئًا، متجاهلًا مئات التقارير التي وصفت ما جرى هناك بالإبادة الجماعية، متعاميًا عن آلاف المقابر الجماعية التي لا تزال شاهدة.

وعندما وصل السؤال إلى مجزرة القيادة العامة، لم يجد غير التذرع بلجنة نبيل أديب التي لم تُصدر تقريرها بعد، وكأن دماء الشهداء لا يُعتد بها ما لم تُوثّقها لجنة شكّلها نظامهم نفسه.

وحين ادّعى أن المؤتمر الوطني يؤمن بالديمقراطية والانتخابات، بدا وكأنه يسخر من ذاكرة الشعب. فأي ديمقراطية تلك التي تُدار عبر التزوير، وحلّ الأحزاب، واعتقال الخصوم، وتعديل الدستور مرارًا ليبقى البشير في الحكم؟ ولم يكتفِ بذلك، بل ألقى مسؤولية انفصال الجنوب على “خيار الشعب”، متناسيًا أن حروب الإنقاذ وسياسات الإقصاء هي التي جعلت الوحدة مستحيلة.

وأخيرًا، حين تحدث عن ثورة ديسمبر، قلّل من شأنها واعتبرها مجرد “مسرحية” دبّرتها لجنة أمنية، متجاهلًا الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع وكتبوا بدمائهم نهاية حكم الإنقاذ.

كل هذه الإجابات لم تكن سوى مرآة لخطاب واحد، خطاب الإنكار، خطاب يرفض الاعتراف بالجرائم ويحوّل الخراب إلى قانون، والدماء إلى أداة، والتاريخ إلى كذبة قابلة لإعادة الصياغة.

إن جوهر الأزمة السودانية لا يُختصر في الدعم السريع وحده، بل في المنهج الذي صاغه المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية منذ أول يومٍ للإنقاذ، صناعة الوحوش، ثم التبرؤ منها عند التمرد، وصياغة الأزمات، ثم ادعاء البطولة في إدارتها.

لقد أنشأوا الدعم السريع ليكون ذراعهم الخفي، سلّحوه بالذهب وبالامتيازات، أطلقوا يده في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، وغضّوا الطرف عن جرائمه لأنها كانت تحقق لهم بقاءً اطول في الحكم.

ثم حين انقلب السحر على الساحر، صاروا يتحدثون عن “مليشيا متمردة” خرجت عن القانون، وكأنهم ليسوا من خطّوا لها قانونًا خاصًا، وليسوا من وضعوا على كتفها الرتب العسكرية وفتحوا لها أبواب الوزارات والاقتصاد، بل والعالم.

إن الأزمة أعمق من مجرد مليشيا؛ إنها أزمة عقلية حكم ترى في الدولة مزرعة خاصة، وفي الجيش أداة، وفي الشعب مجرد وقود. إنها جريمة مزدوجة بالفعل، جريمة التأسيس، ثم جريمة الإنكار. الأولى حين جرى تفتيت جسد الدولة إلى جيوش متوازية، جيش رسمي، ودفاع شعبي، وشرطة شعبية، وأمن طلابي، وأخيرًا الدعم السريع. والثانية حين يحاولون اليوم غسل أيديهم من دماء هذه الجيوش الموازية، متناسين أن التاريخ لا يرحم، وأن الأجيال تحمل الذاكرة كما تحمل الجروح.

هذا هو الإرث الحقيقي للحركةالإسلامية، بلد مُحطّم وعلى بعد خطواتٍ من التقسيم، جيشٌ مؤدلجٌ وضعيف، نسيج اجتماعي مُمزّق، واقتصاد مُنهار.

جوهر الأزمة أن قادة المؤتمر الوطني لا يعرفون معنى الاعتراف، لأن الاعتراف عندهم موتٌ سياسي، ولا يؤمنون بالندم، لأن الندم عندهم ضعفٌ يتعارض مع وهم التمكين. لذلك فهم يفضلون أن يُكابروا ويكذبوا، حتى ولو كان الثمن شعبًا كاملًا يحترق.

إنهم اليوم يريدون أن يقنعوا السودانيين بأن الحرب قدرٌ لا مفر منه، وبأن الإنقاذ لم تكن أصل المأساة، بل مجرد مرحلة في مسيرة “الديمقراطية” الزائفة. لكن الحقيقة الساطعة أن كل حرب اشتعلت، وكل انقسام وقع، وكل دم أُهدر، كان ثمرة مباشرة لمشروعهم.

إن جوهر الأزمة أن السودان رهينة لمنظومة وُجدت لتديم نفسها لا لتبني وطنًا، منظومة صنعت من العنف سياسة، ومن الإنكار منهجًا، ومن السلطة صنمًا مقدسًا.

ومن هنا فإن أي حديث عن مستقبل دون محاسبة هو إهانة للشعب، وأي محاولة لتبييض صفحة الإسلاميين هي دعوة لإعادة المأساة. إن السودان لن ينهض ما لم يُكسر هذا الطوق الحديدي، وما لم يُقال بوضوح، الذين أنشأوا الوحش هم أنفسهم المسؤولون عن دماره، والذين أشعلوا النار لا يمكن أن يكونوا رجال الإطفاء.

إن أعظم ما يكشفه لقاء الحاج آدم يوسف ليس مجرد عجز شخصي عن الإجابة، بل إفلاس كامل لمشروعٍ بُني على الكذب والدم والإنكار. فالمؤتمر الوطني والحركة الإسلامية لم يكونا يومًا مشروعًا للوطن، بل مشروعًا للسلطة، يُبدّد الدماء ليحمي الكراسي، ويقسّم الأرض ليُبقي البشير وأعوانه على عرش الخراب.

إنهم لم يعرفوا أن السياسة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون إدارة للسلطة، ولم يدركوا أن الشعوب تملك ذاكرة أثقل من كل محاولات التزييف، وأن التاريخ ليس ورقة يكتبها المنتصرون فقط، بل محكمة دائمة لا تنام.

إن السودان يقف اليوم على حافة سؤال وجودي، إما أن يقطع الحبل السُرّي الذي يربطه بهذا الإرث المظلم، ويؤسس دولة تعترف بالحقيقة وتبني على العدالة، أو أن يبقى أسيرًا لدائرة الدم والإنكار، يكرر مآسيه بأسماء مختلفة.

إن الخلاص لن يأتي من داخل جدران الإنقاذ، بل من وعي الشعب الذي فهم أن الاعتراف أول الطريق، وأن العدالة شرط النهضة، وأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع. وما لم يتحقق هذا الوعي في فعل سياسي حاسم، سيظل السودان يُعيد إنتاج ماضيه القاتم في حاضر لا يتوقف عن النزيف.

‫2 تعليقات

  1. اخيب سودانيين زرقة دارفور انهم يلهثون وراء المال و الامتيازات ولو على جماجم اسرهم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..