مقالات وآراء

ود مدني.. مدينة تسكن القلب والتاريخ

أواب عزام البوشي

أنا ابن ود مدني، المدينة التي وُلدت فيها وترعرعت بين أحيائها، وما زالت ملامحها محفورة في وجداني. ليست ود مدني عندي مجرد مكان على الخريطة، بل هي حياة كاملة، مدينة تعلمت فيها معنى الانتماء، واكتشفت من خلالها كيف يمكن للمدن أن تكون أكثر من بيوت وأسواق، أن تكون روحاً حية، وذاكرة تتوارثها الأجيال.
تقع مدني على الضفة الغربية للنيل الأزرق، في قلب ولاية الجزيرة. موقعها جعلها نقطة التقاء بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، ولذلك لم تكن يوماً مدينة مغلقة على نفسها، بل كانت دائماً جسراً يعبر منه الناس والثقافات والأفكار. نشأت المدينة في القرن السادس عشر، وتطورت لتصبح عاصمة الجزيرة وواحدة من أعرق المدن السودانية، خصوصاً مع قيام مشروع الجزيرة الزراعي الذي غيّر وجه السودان الاقتصادي والاجتماعي.
كبرت بين أحيائها العريقة: الحي السوداني، المدنيين، القسم الأول، القسم الثاني، الزمالك، وحي الدباغة. لكل حي حكاية ولكل شارع ذاكرة. في الأسواق القديمة، تعلّمت أن التجارة ليست بيعاً وشراءً فقط، بل هي أيضاً مودة وعلاقات إنسانية. في المدارس، تفتحت عيوني على العلم والمعرفة، وفي المساجد والزوايا الصوفية تعلّمت التسامح الروحي والانفتاح على الآخر.
ود مدني مدينة عُرفت بـ”مدينة الفن والجمال و التعليم ، ليس فقط لأنها أنجبت كبار المطربين مثل إبراهيم الكاشف، أحمد المصطفى، ومحمد الأمين، بل لأنها مدينة جعلت الغناء جزءاً من هويتها. كل بيت تقريباً فيه صوت يتغنى، وكل مناسبة فيها موسيقى وأهازيج. حتى الأجيال الجديدة تواصل هذا الإرث، لتظل مدني حاضنة للإبداع الفني والثقافي.
وليس الفن وحده ما يميز مدني، فهي أيضاً مدينة العلم والفكر. خرج منها أدباء وشعراء وكتّاب ملأوا الدنيا إبداعاً: من أبرزهم محمد عبد الحي، منصور الصويم، وغيرهم من الذين حملوا اسمها في نصوصهم. في مقاهيها ومكتباتها، وداخل قاعاتها الثقافية، وُلدت أفكار وحركات ثقافية أسهمت في تشكيل الوعي السوداني.
أما أنا، فحين أتحدث عن مدني، أتحدث عن طفولتي التي حفرت في الذاكرة: مباريات الأحياء التي كانت تجمعنا عصراً، رائحة الطين بعد أول مطرة، وجلسات الشاي مع الجيران التي كانت تذيب المسافات وتجعل من الحي أسرة واحدة. أتحدث عن الأمان الذي كنت أشعر به وأنا أتنقل في شوارعها، وعن دفء الناس الذين لا يتركون غريباً إلا وأحاطوه بالمحبة.
اليوم، ورغم ما أصابها من حرب وخراب، تبقى مدني أكبر من الجراح. مدني مدينة تعرف كيف تنهض من الرماد، كيف تحوّل الألم إلى أمل، والجراح إلى زهر. هي مدينة لا تعرف الانكسار، لأنها ببساطة خُلقت للحياة، ولأن أبناءها يحملونها في قلوبهم مهما ابتعدوا عنها.
أنا أكتب عن مدني لأنني مدين لها بكل شيء: بانتمائي، بصداقاتي، بملامح شخصيتي التي صاغتها. أكتب عنها لأنني أؤمن أن المدن الحقيقية لا تموت، حتى وإن أصابها الخراب، فهي تظل حيّة في قلوبنا وعقولنا، وتظل رمزاً للفخر والاعتزاز.
ستبقى ود مدني مدينتي الأجمل، مدينة الفن والجمال، مدينة التاريخ والذاكرة، مدينة النيل الأزرق والحقول الخضراء، مدينة الإنسان السوداني البسيط والكريم. وستظل دائماً، ما حييت، الوطن الذي يسكنني مهما ابتعدت عنه.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..