أمدر: المدينة التي سُحبت الأرض من تحت أقدامها

عبدالحافظ سعد الطيب
لا أحتفي بأمدر في زمن الحرب تميّزاً عن اخواتها المدن السودانية، بل لأني ابن أزقتها وحواريها وشوارعها وميادينها، ودور سينمتها ودور ثقافتها، وأعرفها كما يعرفها الجميع و كما اعرف ملامح وجهي”أنا امدرمان، عبد المنعم عبد الحى،أنا امدرمان تأمل في ربوعي”أمدر بالنسبة لي ليست مجرد مساحة على الخريطة، بل ذاكرة حية، تاريخ يتنفس في كل حجر وزاوية فيها، نسيج اجتماعي حقيقي تشكل عبر عقود من تفاعل وبناء الوعي البشري الانسانى العميق.
أم درمان لم تكن يوماً مجرد مدينة، بل كانت مختبر السودانوية، حيث صهرت القبائل والطرق الصوفية والمدارس الوطنية والتجار والساسة الذين تتقدمهَم أمدرماني تهم في نسيج اجتماعي متماسك. و في أزقتها وأسواقها وحواريها تخلّقت لحمة السودنة، تلك التي لم تسمح بمرور مشاريع عنصرية بغيضة بلا مقاومة، جدار نضال صلب للمحروسه وظلت عصيّة على أي سلطة قهرية أو عسكرة. حتى سفهاؤها وصعاليقها كانوا يتأدبون أمام قوة هذا النسيج الأهلي الملحمي ، فيذوبون داخله بدلاً من أن يعلوا فوقه.
كل الامدرمانين فطنين جدا لسؤال الهوية المفخخ لأنهم هم من بنوا لحمة السودانويةلوسالت اي شخص فيها انت من وين بيقوليك انا ود قلبا
“أنا امدرمان،
سلوا النيلين عني، وعن عزمات فتاى عند التجني”
حين حاول النظام كسر إرادة أمدر بالاحتفالات المصطنعة، جاء مثال “كبري الـ21” بخور شمبات: احتفال صغير تحوّل إلى مهزلة، حيث ملأ الأمدرمانيون المشهد بالأطفال والبهائم، مكررين ما فعله الأدبراويين مع نميري من تحويل المسرحيات السلطوية إلى سخرية شعبية جارفة.
“أنا امدرمان مضى أمسي بنحسي، غدا وفتاى يحطم قيد حبسي”
استهداف أمدر اليوم ليس عشوائياً؛ فالمدينة هي الرمز الأوضح لممانعة السودانيين للمشروع الإسلاعروبي– الجنجي، الذي جمع بين الإسلاميين ووثيقة قريش والدعم السريع.
الدعم السريع دخل المدينة بالقوة، محتلاً البيوت بعد تهجير أهلها، بينما كانت السلطة تقصف المنازل محاولةً لترويض المدينة وكسر إرادتها.
الإعلام، الذي كان يُفترض أن يكشف الحقيقة، تحوّل إلى أداة تضليل، يُدار عبر “خبراء” و”استراتيجيين” و”دكاترة” من زمن التزوير والانحطاط، يبررون الخراب ويمجدون الانتهاك.
مثلما كانت أدبره مدينة النقابات والطبقة العاملة، والمتاريسُ إلتي شيدتها الأيادي تقف أمدر كمدينة الصوفية والطرق الشعبية والوعي الأهلي، فتقول “لا” بطريقتها الخاصة: عبر السخرية، الرفض الشعبي، والمقاومة المتجذرة في نسيجها.
“فيا سودان اذا ما النفس هانت، أقدم للفداء روحي ونفسي”وكل بيت شعري آخر يختزل روحها الوطنية والحنين إلى هويتها:
“ليك سلامي يا ام در أمان، اقبليه وهاتي الضمان” – العبادي
“طال هجري يا ام در أمان، بي بعادك حكم الزمان” – عبيد
“أذكر بقعة ام درمان، أنشر في ربوعها أمان” – خليل فرح
“في جوفي كاويني حب ام عفاف أم در من قبل تكويني” – الأمي
“من النيل بالجهة الغربية، أنظر معقل الوطنية أم درمان” – عتيق
إن ما يجري ويُفعل في أمدر ليس مجرد صراع على مكان، بل معركة على ذاكرة وهوية. الأرض قد سُحبت من تحت أقدامها، آلافٌ من أهلها هجّروا، وبيوتها ضُربت واحتُلت، لكن روح أمدر باقية. فهي القلعة التي لن تُهزم، مثل قدح الزناد الذي يشعل الثورات، ومهما حاولت المشاريع العنصرية الاسلاعروبية، ستظل أمدر رمز الصمود السوداني الحقيقي، نبض مقاومة المدينة وسر قوتها في الحفاظ على لحمتها وقيمها العريقة.
نعم هذا مخطط المشروع الاسلاعروبي ووثيقة قريش لم يستثي مدينة ولا قرية سودانية اراقوا كل الدماء.



