مقالات وآراء

الحركة الإسلاموية ..صناعة الوهم والجري وراء السراب!

خالد عبدالله أبو أحمد

منذ نشأتها الأولى، لم تكن الحركة الإسلاموية في السودان سوى مصنع كبير للأوهام، تبيع الناس السراب وتوهمهم بأنه ماء عذب، وكأنها تجسيد لقول الفيلسوف الفرنسي فولتير: الوهم أعظم خُدع الحياة، به يعيش الكثيرون، وبه يُساق الكثيرون إلى الهلاك”.

ولعل ما يوضح ذلك أبلغ توضيح هو ما جاء على لسان الدكتور نافع علي نافع، الذي يلقبه القراء ساخرين بـ “أبو العفين”، حين وعد في يوم 20 أبريل من عام 2009 أن السودان، بعد خمس سنوات فقط، سيكون في مصاف الدول العظمى! كان ذلك خلال مخاطبته المؤتمر التنشيطي العام للمؤتمر الوطني بولاية سنار. وبطريقته المعتادة، تحدث بزهوٍ وخيلاء، ممتلئاً إعجاباً بنفسه وشعوراً بالعظمة، فقال: “إننا نمد أيدينا بيضاء للحوار مع الأسرة الدولية والغرب على أساس الندية لا الوصاية”. ولم يكتفِ بهذا، بل أضاف: “إن المحكمة الجنائية الدولية التي أرادوها معولاً للهدم قد رفعت من شأن السودان، وجعلته مركزاً يفرح به المستضعفون في الأرض ويهابه الطغاة“.

اللحظة التي كنت أقرأ فيها حديث وأمنيات ابوالعفين انتابتني موجة من الضحك المصاحب بالحزن والشفقة على بلادنا العزيزة عندما قال عبارته تلك وبلادنا على حافة الهاوية وقاب قوسين أو أدنى من الانهيار الكبير هذا يعني أن ما عناه ابوالعفين دولة عُظمى عام له تفسيران إما أن يكون قاصد أن يكون السودان دولة عُظمى أي أصبحت عِظاماً وانتهى أمرها، أو يقصد بدولة عُظمى أن تكون قد مُسحت من الخارطة الجغرافية الأرضية وأصبحت في عداد الدول التي انتقلت من الأرض وحجزت مكانها في (المريخ)، وفي كلا الحالات السودان انتهى من على وجه الأرض.

وهنا يحضر بيت المتنبي:

إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ …. فلا تقنعْ بمـا دون النجومِ

غير أن شرف المتنبي كان دعوة للسمو، بينما كان “شرف” الحركة الإسلاموية قشرة من الوهم والغرور، لقد كان قادة الحركة المتأسلمة يبيعون الناس أحلاماً لا تُصدق، يوهمونهم بأنهم سيحكمون السودان، ثم المنطقة، ثم العالم كله وما يعنيه ذلك لهم من أثر اقتصادي كبير، وجاه وسلطان عسير على السقوط، كانت تصوراتهم تأتي على شكل “رؤى استراتيجية” تُكتب بعناية وتُعرض على المكاتب التنظيمية ذات العلاقة، وعلى سبيل المثال( رؤية الحركة الإسلامية للقرن الأفريقي للعشر سنوات المقبلة)،هذه الرؤى  كانت تُخصص لها ميزانيات مالية ضخمة، بينما المستشفيات السودانية بلا دواء، والمدارس بلا مقاعد ولا كتب، وكان قادة الحركة يطوفون العالم في سفر دائم لمتابعة الحركات النظيرة.

أتذكر شخصياً في عام 1995م قابلت في العاصمة الأردنية عمّان قيادي كبير له صلة بجبهة العمل الاسلامي في هذا البلد، ثم اكتشفت لاحقاً أنه كان مسؤول الحركة عن “دول الشام”، وفي فترات أخرى، كان راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية يتردد على مقار الحركة في السودان، وكذلك القيادي محفوظ نحناح من الجزائر، والقيادات الصومالية واليمنية، حتى غدت الخرطوم محطة للقيادات الإسلاموية من شتى بقاع الأرض، وكأنها أصبحت عاصمة “الخلافة الوهمية” التي بشّروا بها، لكن كما قال جبران خليل جبران: “الوهم نصف الحياة، والآخر تعب في ملاحقة السراب”.

ونكتشف أن كل ذلك العمل وهما كبيرا وجريا وراء السراب عندما نرى واقع التنظيم نفسه من الداخل وما يعانيه من معضلات كثيرة، خاصة داخل المجتمع الأسري بسبب انشغال أولياء الأمور عن أسرهم بالاجتماعات والسفر الكثير، وما أفرزته تلك الحالة من خلافات شديدة ضربت الكثير من الأسر، وفي هذه السانحة أتذكر انفصال ذلك القيادي الكبير عن زوجته التي أصرت اصرارا شديدا على ترك اطفالها له، لممارسة عملها التجاري، وما يقتضيه ذلك للسفر للخارج للمشاركة في معارض التسوق بإحدى الدول العربية، كانت حدثا تاريخيا للدرجة التي تدخل فيها التنظيم بتعيين هذا القيادي الكبير محافظا لإحدى المدن بإحدى الولايات الشمالية، ومع بداية ظهور الفساد المالي والاخلاقي برزت على السلطح موجات الزواج النهاري والزواج السري، وزواج (الإيثار) وزواج (التلاوة) بمعنى أن يقول الزوج لزوجته “أنا ماشي التلاوة” بينما هو في الحقيقة يكون مع زوجته الثانية.

مع الطفرة الكبيرة التي تحققت بفضل تصدير البترول ظهر التمدد الدولاري في حسابات قيادات التنظيم فقامت البنوك بتمويل مشاريع وهمية استفاد منها حتى الشباب، فلم تكن هناك مشاريع وتم صرف المبالغ الطائلة لغير ما خصصت لها وتبددت في شراء سيارات فارهة وسفر للخارج، واقامة مناسبات للتمظهر الاجتماعي، وعندما حانت وقت السداد للبنوك لم يجدوا شيئا ليسددوا به فكان مصيرهم السجن، شخصيا اعرف الكثير من الذين دخلوا السجون ثم أطلق سراحهم للسداد ثم أعيدوا إليها مرات أخرى، أثر ذلك تشتت الأسر أيدي سبا.

التنظيم ذات نفسه كان في الحقيقة والواقع تنظيمين ليس واحدا، والكثير من الاعضاء ما كانوا يدركوا هذه الحقيقة، التنظيم الأول هو الذي يرأسه د. حسن الترابي ومعه د. علي الحاج ويسين عمر الامام، وابراهيم السنوسي وبدرالدين طه، وأمين حسن عمر..إلخ، والتنظيم الثاني يرأسه ويديره علي عثمان محمد طه، ود. عوض الجاز وصلاح قوش، واسامة عبدالله، وحسب قناعاتي وتحليلي الشخصي كان هو التنظيم الأقوى والأكثر نفوذا والأكثر تنفيذا لأهدافه وأجنداته، بعد خروجي من السودان قبل 25 سنة والخلوة مع النفس أدركت من خلال فك العديد من الشفرات وعلامات الاستفهام، أن التنظيم الذي يرأسه علي عثمان كان هو الحاكم الفعلي للسودان منذ تنفيذ الانقلاب في 30 يونيو 1989، وأمسك هذا التنظيم بتلابيب السُلطة بشكل أقوى بعد ضربة الترابي في كندا.

وعندما ننظر في هذه الصورة الكاملة، ندرك أن الحركة الإسلاموية لم تكن مهيأة لحكم السودان أصلاً. كانت تعاني انقسامات حادة في داخلها، ومع ذلك كانت تخطط للسيطرة على المنطقة كلها وفي مقالة نشرتها قبل عقدين من الزمان أشرت فيها إلى حديث لأحد القيادات في بدايات حكم (الانقاذ) كان يتحدث إلى مجموعة من القيادات الطلابية التابعة للحركة قال لهم بالحرف الواحد ” نحن أتينا بادريس دبي في تشاد، وبأسياسي افورقي في ارتريا، وبملس زناوي في أثيوبيا، وإذا أردنا ان نحكُم مصر لفعلنا ذلك”، فتعالت صيحات التهليل والتكبير، هؤلاء الأبالسة كانوا يمنوا الشباب بالمستحيل من خلال أوهام وجرئ وراء السراب في أبلغ صوره.

لقد باعوا الشباب وهماً، ووعدوهم بمستحيل، بينما كانوا هم أنفسهم يتصارعون على السلطة والنفوذ والثروة، ومصداقاً لبيت الشعر العربي:

أريها السُرابَ فتظنّه ماءً … حتى إذا جاءته لم تجده شيئاً

إن الحركة الإسلاموية في السودان كانت بالفعل أكبر عملية تضليل فكري وسياسي في تاريخنا الحديث. لم تصنع إلا الوهم، ولم تُنتج سوى الخراب، حتى تركت خلفها بلداً مثخناً بالجراح، يبحث اليوم عن الخلاص من ميراثها الثقيل. لقد أثبتت تجربتهم أن الشعارات إذا لم تستند إلى أفعال صادقة، تتحول إلى عبء، وأن الوهم قد يمنح الإنسان جناحين، لكنه لا يمنحه أرضاً يقف عليها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..