
لم يكن البيان الرباعي حول السودان مجرد فقرة عابرة في دفاتر الدبلوماسية، بل جاء كلحظة اختبار صعبة للمنظومة الدولية والإقليمية التي تلاعبت بالثورة السودانية ثم وقفت عاجزة أمام ألسنة النار وهي تلتهم البلاد.
لقد اعتدنا على بيانات تُشبه بيانات الطقس؛ وصفٌ للخراب وتنديدٌ بالعنف ودعواتٌ إنسانية لا تغيّر شيئًا في الميدان. غير أن ما صدر هذه المرة من واشنطن والرياض وأبوظبي والقاهرة بدا مختلفًا في لهجته وجرأته؛ إذ سمّى الفاعل الحقيقي ووجّه إصبع الاتهام إلى الحركة الإسلامية ومؤتمرها الوطني، معلنًا بوضوح أن لا مستقبل لهم في سودان الغد.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة؛ هل نحن أمام بداية صناعة حلّ حقيقي وتحول استراتيجي يفتحا الطريق لدولة مدنية، أم أن الأمر لا يعدو كونه جولة جديدة من إدارة الأزمة وتجميل الفوضى بعبارات منمّقة؟
فالبيان وإن بدا صارمًا في تسمية الإسلاميين كعصب الحرب، وتأكيده أن لا مكان لهم في مستقبل السودان، إلا أنه لا يكفي وحده لقطع الطريق أمام عودة المنظومة التي صنعت الخراب. فالتجارب السابقة علمتنا أن العواصم الكبرى قد تتشدّد في الخطاب لكنها تترك في التطبيق ثغرات يستفيد منها أمراء الحرب. وهنا يبرز جوهر التحدي؛ كيف يمكن تحويل هذا الزخم الدبلوماسي إلى مسار عملي يوقف الحرب حقًا، ويضع السودان على عتبة انتقال مدني شامل؟
إن الادّعاء بأن إقصاء الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني يمثل “ظلمًا لفصيل سياسي مؤثر” في السودان هو تبرير فارغ لا أساس له من الصحة. فالمعركة ليست مع أشخاص أو تيارات بقدر ما هي مع منظومة حكم دموي استغلت الدين والسياسة لإطالة الحرب ونهب موارد الدولة وتهميش الشعب.
إذّْ لم تعد الحركة الإسلامية مجرد “فصيل سياسي”، بل أصبحت رمزًا لصناعة الخراب واستمرار النزيف، والادعاء بأنها جزء أصيل من المشهد السياسي الشرعي يتجاهل التاريخ الدموي لعقود من الانقلابات والحروب والإقصاء الممنهج.
الحقائق تقول إن استمرارهم في السلطة يعني إعادة إنتاج الصراع ذاته، وأن أي اعتبار لهم في مستقبل السودان لن يكون إلا مكافأة على الخراب الذي صنعوه. العدالة السياسية لا تتعارض مع استبعاد من استنزفوا الوطن، بل العكس، إبعادهم شرط أساسي لأي مشروع وطني حقيقي قادر على استعادة الدولة والشعب.
المفارقة الأشدّ وضوحًا أن بعض أطراف الرباعية، وعلى رأسها مصر، كانت حتى وقت قريب داعمة لانقلاب ٢٥ أكتوبر ومتحالفة مع الإسلاميين في مشروعهم المضاد للثورة. اليوم تغيّر الخطاب، لكنّ السؤال يبقى؛ هل هو تغيّر مبدئي أم براغماتية فرضتها تكاليف الحرب وتداعيات اللاجئين والمساءلة الدولية؟ إن قراءة البيان دون هذه الخلفية تجعلنا نخلط بين تبدّل التكتيك وثبات الاستراتيجية.
ومع ذلك، يبقى في البيان ما يستحق التوقف. إذ لم يكتف بتوصيف الحرب كأزمة إنسانية، بل اعتبرها تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي والدولي، وربطها بأدوار داعميها الخارجيين، وهو ما يعني أن أي طرف يستمر في ضخ السلاح أو المال سيكون في مرمى الاتهام الدولي. هذه إشارة مهمة إذا ما وُظفت بجدية لوقف شبكات تمويل الحرب، خاصة تلك المتصلة بالمؤتمر الوطني وواجهاته.
لكنّ الخطر الأكبر أن تتحول هذه اللغة إلى مجرد ورقة ضغط لانتزاع تنازلات سياسية، دون أن تُترجم إلى فعل ملموس. فالسودان ليس بحاجة إلى “إدارة أزمة” جديدة، بل إلى مشروع إنقاذ حقيقي ينزع فتيل الحرب من جذورها، ويقطع مع الماضي الإسلاموي والعسكري معًا.
هنا يبرز دور القوى المدنية السودانية، فإما أن تظل متفرقة، تستنزفها الخلافات البينية وتبقى متلقية للقرارات الدولية، أو أن تعيد صياغة مشروع وطني جامع يمكّنها من التحدث بصوت واحد، واستثمار اللحظة لصالح بناء انتقال مدني حقيقي. البيان الرباعي، مهما كانت دوافعه، قدّم نافذة سياسية لا يجب أن تُهدر.
فصناعة الحل لا تأتي من نصوص البيانات وحدها، بل من إرادة القوى الحيّة في الداخل. فإذا كان الخارج قد حسم أمره في تحميل الإسلاميين المسؤولية، فإن الداخل مطالب اليوم بأن يحسم خياره؛ لا للعودة إلى الماضي، نعم لدولة مدنية تستعيد القرار والسيادة. وإلا فإن كل ما نراه لن يكون سوى إدارة جديدة لأزمة قديمة، يربح منها أمراء الخراب وتخسر فيها الشعوب مستقبلها مرة أخرى.
فالبيان الرباعي، وإن تأخر، يمثل لحظة صدق دولية لا يمكن لمن أضرموا النار أن يكونوا جزءًا من إطفائها، ولا يمكن لمستقبل هذا الوطن أن يُبنى على أكاذيب أو مصالح ضيقة. فلقد جاء البيان ليضع حجر الزاوية في التحدي الأكبر؛ محاسبة من أوجد الأزمة، قطع الطريق أمام عودة الإسلاميين، وإعطاء القوى الوطنية فرصة استثنائية لإعادة صياغة المشروع الوطني على أسس العدالة والمساءلة والشرعية الشعبية.
لا عذر بعد اليوم لمن يراهن على الخراب ولا مجال لمن يختبئ خلف حجج “التوازن السياسي” أو “الأصالة التاريخية” لتبرير استمرار الفوضى. الشعب السوداني دفع الثمن الأعلى، ودماؤه صار رأس المال الحقيقي الذي لا يجوز أن يُستثمر في مصالح ضيقة أو مكاسب شخصية. الآن، على القوى المدنية أن تتحرك، على الشعب أن يرفع صوته، وعلى المؤسسات الوطنية أن تثبت أن إرادة السودان لا تُشترى ولا تُباع، وأن الكرامة والسيادة ليستا خيارًا يمكن تأجيله.
إن المرحلة الحالية تتطلب من القوى الوطنية والمدنية السودانية ألا تكتفي بالتصفيق للبيان الرباعي، بل أن تتخذ موقفًا نشطًا على مستوى الضغط الدولي من أجل تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم إرهابي.
فالاعتراف الرسمي بهذه الجماعة على أنها تهديد أمني وديموغرافي ليس مجرد خطوة رمزية، بل أداة قانونية ودبلوماسية لقطع منابع التمويل، ووقف التدخلات الإقليمية، وحرمانها من أي شرعية دولية تمكنها من إعادة إنتاج سلطتها عبر الخراب والفوضى.
إن إشراك الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي في هذه المعركة يتطلب موقفًا حازمًا وواضحًا يربط بين سجل الجماعة الدموي، وأثره المباشر على الأمن الإقليمي، والتهديد المستمر للدولة السودانية والشعوب المجاورة. كل تأجيل أو تسويف في هذا الملف يعني إتاحة فرصة جديدة للإرهاب السياسي للإفلات من المحاسبة واستمرار دورة الخراب، وهو ما لا يتحمله السودان، ولا يتحمله التاريخ.




ممتاز جدا و كلام سليم
مقال رصيّنْ ينضح بالحكمة والوطنية… والقدوة في حب الوطن بكل تجرد ومهنية …لله درك يا رجل فقد أجدت وأبنت.
الراجي حل من الرباعية الترابه في خشمو
الحل والبل سوداني سوداني وماركة مسجلة باسم دولة 56