مقالات وآراء

حديث الكتب(٢٨).. «علماء!! بزعمهم»

 

أصدر الإخوان الجمهوريون كتاب «علماء!! بزعمهم» في جزءين، ونُشر في فبراير ١٩٧٦م. يحوي الكتاب قراءة نقدية للطبقة الدينية التقليدية في السودان: ممارساتها، منابرها، مواقفها السياسية، وطريقة إيهامها الناس بأنها «علماء»، في حين أن ممارساتها وادعاءاتها لا تلبّي مفهوم العلم ولا جوهر الدين المنصف. يمزج الكتاب بين الحجاج الفكري والاستدلال النصي والقدرة النقدية، ويهدف إلى فتح منابر للنقد في مواجهة احتكار الفهم الديني.
صدر الكتاب في سياق سياسي وديني متوتر، حيث بدا صعود خطاب سياسي–ديني غريب، وتطورت صدامات بين قوى دينية وسياسية مختلفة، مع حضور قوي للمنابر التقليدية.
وقد مثّل إصدار عمل نقدي بهذا الوضوح في ذلك الزمن تحدياً للروايات السائدة، فأثار ردود فعل اجتماعية ودينية وسياسية واسعة، ووُصف كمساهمة جريئة في كشف بدائل فكرية ونقد مؤسسة «العلماء» التقليدية.استخدم الكتاب لهجة نقدية لاذعة، تستند إلى مراجع تاريخية واستدلالية تحتاج إلى وعي معرفي مسبق لفهم السياق والمقاصد. لذلك بدا لبعض القرّاء هجومياً، أكثر منه عملاً فكريًا بنّاء.
ظهر الكتاب في بيئة سياسية واجتماعية متقلبة، فمال كثيرون إلى التحفظ عن مواجهة الرموز الدينية أو إعادة تقييم مكانتها خشية العواقب الاجتماعية أو القانونية.
وقد صادف صدور الكتاب غياب ثقافة نقد النصوص الدينية والسياسية لدى قطاعات من المثقفين والجمهور، ما عجّل بإقصائه من التداول الجاد، أو جعله مادة سجالية سطحية بدل أن يُقرأ بتمعّن. ونتيجة لذلك، تأخر الاهتمام الحقيقي بالكتاب، فحدّ ذلك من أثره البنّاء في تشكيل نقاش مفتوح حول دور المؤسسات الدينية والعلماء في الحياة العامة.
لقد فقدت الساحة العامة فرصة مبكرة لإجراء مراجعات فكرية مؤسَّسة تُعيد قراءة دور المرجعيات الدينية في الدولة والمجتمع، وكان من الممكن أن تُثمر سياسات أكثر مرونة ووعياً. إن بقاء المواقف الملحّة التي لم تُناقَش أدى إلى استمرار احتكار الخطاب الديني المشوَّه في المساجد والمجالس، مما قاد إلى تكرار أخطاء نفسية واجتماعية وسياسية أشار إليها الكتاب. أما على مستوى الحركة الفكرية، فإن تأخر تراكم الفكر النقدي قد حدّ من قدرة جيل كامل على بناء تيار معرفي يُؤسِّس لنقاش ديمقراطي–ديني متوازن. وهذه العواقب ليست محض افتراض، بل يمكن الاستدلال عليها من خلال ما فات من مشاريع فكرية ونقاشات عامة في العقود التالية.
ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى إعادة قراءة الكتاب واستيعابه، لأن الأدوات النقدية التي يقدمها — رغم غرابتها آنذاك — تظل مفيدة لفهم آليات إنتاج الخطاب الديني وتداخله مع السياسة. كما أن إعادة القراءة اليوم يمكن أن تُسهم في تأسيس منابر فكرية جديدة تُصارع احتكار القول، وتدفع نحو نقاش وطني عقلاني ومسؤول. ولأن السودان يمرّ بمرحلة إعادة بناء، فإن الحوار الجاد حول دور الدين في السياسة والمجتمع ضرورة لتأسيس مواطنة حقيقية واحترام حقوق الجميع. ولا بد أن تكون القراءة النقدية للكتاب منضبطة ومستنيرة لتساهم في منح مفاتيح لفهم ما ينبغي تغييره في ممارساتنا المؤسسية والثقافية.
فلنُعِد قراءة «علماء!! بزعمهم» بعيون نقدية لا هجومية، مع فصل الموضوع عن الشخصنة، ومن زاوية البحث عن آليات تقوية المجتمع المدني وتعزيز حرية التفكير. ولتكن القراءة مصحوبة بنقاش مجتمعي يراعي جوانب متعدّدة (فقه، تاريخ، سياسة، سوسيولوجيا) حتى نخرج بالنص من مربع السجال الضيق إلى فضاء التحليل البنّاء.

إن كتاب «علماء!! بزعمهم» نقطة انطلاق؛ فإعادة قراءته ينبغي أن ترافقها ثورة فكرية تعالج قضايا استقلال منابر التعليم الديني، وحرية المعتقد، ودمقرطة المؤسسات. وهذه ليست دعوة للانقضاض على موروث بعينه، بل للاستفادة من طرح الكتاب كوسيلة للنقاش الوطني المتحضّر الذي يخدم السودان والسودانيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..