
هناك مقالات تُكتب لتُقرأ ثم تُنسى، وأخرى تُكتب لتبقى حية في الوجدان والفكر، شاهدةً على لحظةٍ تاريخية فارقة، تكشف جوهر المأساة وتضع الأصبع على الجرح الذي يتجنّب الجميع ملامسته. مقال الدكتور النور حمد الموسوم بـ «حين تعتلي السايكوباتية هرم السلطة» واحد من تلك النصوص النادرة التي تتجاوز دائرة التوصيف العابر إلى مقام التشخيص العميق، وتنقلنا من سطحية النقد السياسي اليومي إلى صميم جوهر الأزمة السودانية.
لقد «توهّط» دكتور النور وسط ميدانٍ يفرّ منه الكتّاب والصحافيون؛ إما خوفًا من بطش السلطة، أو جهلًا بطبيعة الاستبداد وأصوله النفسية، أو طمعًا في فتات الريع الذي يلقيه الطغاة. ما يكتبه يضيء دربًا تاه فيه الوعي الجمعي بين الأكاذيب والشعارات المسمومة.
إن فرادة النور حمد لا تكمن فقط في أنه فضح البرهان والإخوان المسلمين من زاوية «السايكوباتية» كمنهج في الحكم، بل في أنه نقل النقاش من دائرة السياسة بوصفها صراع مصالح إلى دائرة السياسة بوصفها مرضًا إنسانيًا مُمأسسًا. فحين يصبح غياب الضمير والتلذّذ بآلام الآخرين جزءًا من بنية الحكم، فنحن لا نواجه نظامًا شموليًا فحسب، بل انحرافًا نفسيًا جماعيًا يتلبّس الدولة ويهلك العباد.
يا دكتور النور، لله درّك! لقد نطقت بما عجزت عنه كثير من الأقلام، وكشفت ما حاول المستفيدون تغطيته، وما خشي الجبناء من الاقتراب منه. لقد كتبت مقالًا سيظل مرجعًا في فهم طبيعة الاستبداد السوداني، ليس كحدثٍ سياسي عابر، وإنما كـ«سايكوباتية مُمأسسة» تختلط فيها عقدة المرض النفسي بأيديولوجيا العنف والتكفير.
ولذلك، حين نكتب عن مقالك، فنحن لا نجاملك ولا نمنحك شهادة تقدير أدبية؛ بل نعلن اعتزازنا بأن هناك من السودانيين من لا يزال قلمه يكتب بلا خوف، وعقل يقرأ الواقع بغير رتوش، وبصيرة ترى ما وراء الضباب. إن مثل هذه المقالات هي التي تحفظ للثقافة السودانية شرفها، وللكلمة رسالتها، وللتاريخ سجلًا يُحتذى به في زمن الارتباك والتزييف.
إن كلماتك، أيها الدكتور، كانت صفعة وعي على وجه الطغيان، وجرس إنذار لشعب أنهكه الاستبداد. ستبقى مقالتك هذه علامة فارقة، ترفع مقام الفكر الحر، وتؤكد أن بيننا من يكتب بقلبه وعقله وضميره.
فلتدم حرًا شجاعًا، ولتظل الكلمة في يدك سيفًا يفضح السايكوباتية، ويعيد للشعب وعيه، ويُسجَّل لك في صحائف التاريخ أنك قلت ما لم يقله غيرك.



